عندما قرأت عن التحضير لتكريم جميلة بوحيرد في لبنان عادت بي الذكرى إلى أيام طفولتي عندما كنا نصرخ بملء أشداقنا في كل صباح خلال الطابور الصباحي بأنا عقدنا العزم على أن تحيا الجزائر. وكيف كنا نركض كل خميس لندفع تبرعاتنا للثورة الجزائرية، ندخر قروشاً قليلة من مصروفنا اليومي فرحين بالمساهمة في انتصار الجزائر وطرد المستعمر الفرنسي. كان ذلك الزمان زمن الانتصارات الكبيرة والأمال العظيمة بالتحرر الوطني وبناء الدولة الوطنية المستقلة، كنا أطفالاً دون العاشرة نتغنى بناصر والزعيم عبد الكريم قاسم، قائد الثورة العراقية المجيدة. وكنا نسمع عن باتريس لومومبا ونتغنى ببطولته في استشهاده دون أن نعرف المعاني السياسية لفرحتنا، سوى أنني نشأت في بيت تحمل عبئاً إنسانياً كبيراً، فأخي الأكبر في سجن الجفر الصحراوي مع المئات من الوطنيين والمناضلين الأردنيين، وأخي الأوسط تسلل لاجئاً وطالباً إلى المعسكر الاشتراكي مع الآلاف من المناضلين والوطنيين الأردنيين، وطُرد والدي وشقيقاتي من العمل فضلاً عن محاولات عزلنا اجتماعياً عبر ملاحقة الأقارب والزوار لمنعهم من التعاطف معنا. في هذه الأجواء كنت أتحفز لكل معنى ثوري أحس به انتصاراً لأسرتي، ومن هنا كانت تعني لي جميلة بوحيرد معنى للصمود والانتصار على الجلاد. ولا أنسى فرحتنا كأطفال بالذهاب لحضور فيلم يوسف شاهين «جميلة» لأكثر من مرة، كنت أذرف الدمع عند مشاهد تعرضها للتعذيب وأقف مصفقاً عندما فهمتها كطفل بأنها انتصرت على جلادها، وأتخيل أنها قصتي في المعاناة الأسرية دون تذمر وشكوى. كبرنا وتحطمت آمالنا وأحلامنا واحداً بعد آخر بمقتل الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم، ومجازر الحرس القومي الفاشي ضد الشيوعيين والوطنيين العراقيين. ورأينا لومومبا يسقط في إفريقيا، وعبد الناصر يُهزم في 67 وكلما كبرنا تحطمت الآمال فينا حتى انهيار المعسكر الاشتراكي. إلا أن الجزائر انتصرت في معركة الاستقلال وخرجت جميلة من السجن رمزاً نسوياً لهذا الانتصار، ودخلت سجلّ الخالدين الذين تتغنى بهم أفواج المناضلين والوطنيين. إن مغزى التكريم في هذا الزمن يعني أن انتصارنا قادم بعزيمة ونضال حلف المقاومة رغم الصعوبات الهائلة. وعادت آمالنا التي عشناها في طفولتنا وتحطمت في شبابنا إلا أنها تشد الخطى نحو النصر من جديد في كهولتنا وهذا خير عزاء لنا.* عضو الأمانة العامة
لحركة اليسار الاجتماعي الأردني