لم يُكتب تاريخ لليسار اللبناني بعد _ لا شعبياً ولا أكاديمياً. أسدى الراحل محمد دكروب خدمة جليلة في كتابه لتعريف جيل عن أجيال يسارية سبقته، لكن تاريخه كان التاريخ الرسمي المُقرر للحزب الشيوعي وخضع لرقابة ستالينية من القيادة قبل صدوره، ولم يتضمّن أنباء عن حروب شنها الحزب (في قيادته البكداشيّة ثم الحاويّة _ الشاويّة) على المعارضين في داخل الحزب عبر السنوات. قد يكون محسن ابراهيم من أكثر من يختزن معلومات وخفايا عن تاريخ اليسار اللبناني المعاصر لمشاركته الوطيدة في صنعه، لكن الرجل في عزلة مفروضة ذاتيّاً وهو يكتفي فيها بإسداء النصيحة إلى وليد جنبلاط (وإلى ياسر عرفات قبل موته). فادي بردويل كتب أطروحة في جامعة كولومبيا عن اليسار اللبناني، وقد أصبح خبيراً عليماً في الموضوع ونحن ننتظر نشر ما تجمّع لديه عمّا قريب.والأكاديميا الغربيّة المعنيّة بدراسات الشرق الأوسط لا تعير اليسار اهتمامها نظراً إلى هوسها بالإسلام وشؤونه في عالمنا العربي. كما أن النظريّة الاستشراقيّة الغربيّة (وحتى الأكاديميّة الحديثة) لم تعتبر أن لليسار معقلاً في العالم العربي، مع أن الحكومة الأميركيّة هجست بالخطر الشيوعي في منطقتنا لعقود (وقد أنفقت الملايين على كتب ومؤسّسات وأقلام معادية للشيوعيّة في لبنان). وقد درس البعض في لبنان التاريخ الحزبي، مثل دراسات فارس أشتي عن الحزب الشيوعي أو مذكّرات أفراد، (غالبها، مثل كتاب «جيل اليسار» لنسيم ضاهر، ليساريّين سابقين تابوا وتلوا فعل الندامة والاعتراف عن ماضيهم وأدلوا باعترافاتهم أمام حبر الطائفة) والموضوع يحتاج إلى دراسات، وخصوصاً عن الحقبة الأولى (1975 _ 76) من الحرب الأهليّة عندما ازدهر اليسار وصعد.
وقد صدر عن «مؤسّسة روزا لكسمبورغ» في ألمانيا كتاب جديد بعنوان «اليسار اللبناني» لحسين يعقوب. وكل المنظمات الغربيّة التي تعمل في بلادنا، حتى لو حملت أسماء عبد الناصر أو ماركس أو غيفارا، هي حكماً تنتمي إلى السرديّة الغربيّة الصهيونيّة وتحمل بدرجة أو بأخرى النوايا الاستعماريّة للبلد المصدّر. والمنظمة المذكورة تعمل للتطبيع والتقريب بين العرب والعدوّ الإسرائيلي وتحت مسميات مختلفة، وهي تعترف في برنامجها الشرق أوسطي بأنها تسعى إلى «المساهمة في التعايش والتفاهم العربي _ اليهودي». أي أن الرعاية اليساريّة الغربيّة لكتاب عن اليسار لا تعني شيئاً، لا بل إنها في الغالب مشبوهة. ويكفي أن تذكر أن وليد جنبلاط ودكّانه الطائفي _ الإقطاعي عضو فاعل في منظمة تتحدّر من أعمال كارل ماركس نفسه. هذا هو الغرب. ما علينا.
ماذا تقول عن كتاب يزعم أنه يؤرّخ لليسار عندما يبدأ الكتاب، أو التاريخ كما ياتي: «في السابع من أيار 2008، هاجمت ميليشيا الثامن من آذار مراكز معارضة في بيروت والجبل». أثناء ذلك، تعرّض مركز «حركة اليسار الديموقراطي» في منطقة عين المريسة في بيروت لاعتداء عنيف. تكفي هذه الجملة لتلخيص الكتاب برمّته وتكفي كي تدرك مقاصد الكتاب (والمؤسّسة الراعية له) ومرامي مؤلّفه. تطوي الكتاب لو شئت. ولا يوضّح المؤلّف لنا طبيعة هذا «الاعتداء العنيف» الذي تعرّض له هذا التنظيم المُنتحل بفعل المال النفطي صفة اليسار. لكن المُراد هو كتابة سيرة لليسار الحريري في لبنان في عمره القصير والهزلي والمتصارع مع ذاته. ليس هذا الكتاب بحثياً أو جدّياً أو رصيناً بأي صورة من الصور، ولا يحاول أن يكون بحثيّاً أو جديّاً أو رصيناً. هو تسديد حساب من قبل الحريريّة ضد حزب الله والنظام السوري فقط (تُبرّأ الدولة اللبنانيّة في عقودها بعد الاستقلال من حروبها الوحشيّة ضد اليسار في هذا الكتاب اللوكسمبورغي الرعاية _ لو أن روزا تقرأ ما صنعت يداه). بضع ساعات في يوم 7 أيّار أهم عند المؤّلف في تأريخه الأعوج من عقود من الحروب الإسرائيليّة، المباشرة وغير المباشرة، ضد اليسار وحلفائه في لبنان، ومن حروب إقليميّة ضد اليسار قادتها الولايات المتحدة وحليفها السعودي ضدّه. ولا كلمة عن ذلك هنا. وحده 7 أيّار يستحق الذكر في رواية محطات الحرب على اليسار في لبنان، ووحدها شلّة «اليسار الديموقراطي» تمثّل اليسار الحقيقي.
والطريف أن الكاتب لا يتفق على سبب أو حجّة في تشخيصه لأمراض اليسار في لبنان: فالسياق العام للكتاب أن اليسار كان يرفل بالحرير وينمو باطراد، إلى أن تدخّل النظام السوري في لبنان في التسعينيات وقضى على اليسار بضربة واحدة. لكن إذا كان النظام السوري هو الذي قضى على اليسار، فلماذا لم يستطع أن يقضي على اليسار بالقوّة المسلّحة عندما حاول ذلك في عام 1976، وكيف يمكن يساراً حقيقياً ومتجذّراً أن ينتهي بضربة من نظام مجاور، مهما كان قمعيّاً؟ ولماذا، إذا كان النظام قادراً أن يقضي في لبنان على من يشاء، فشل في القضاء على اليمين الكتائبي والقوّاتي الذي أصبح عدوّاً له في أواخر السبعينيات؟ والكاتب ينحو منحى مختلفاً في بعض مفاصل الكتاب فتجده مثلاً (ص. 21) يلقي باللوم على الحزب الشيوعي لأنه سلّح العناصر الشيوعيّين ودرّبهم على العمل العسكري في مواجهة عملاء إسرائيل في لبنان. صاحبكم اليساري هذا سلمي ومن هواة حمل الشموع كالسبيل الوحيد لإحقاق الحق اليساري. لكن رواية المؤلّف خاطئة من أساسها لا بل مغرضة. لم يلق الحزب الشيوعي بنفسه في ثقل العمل العسكري. على العكس من ذلك فإن خطة نقولا الشاوي وجورج حاوي (حتى التسعينيات في حالة الأخير، وباعتراف المؤلّف (ص. 27)) كانت في إيصال ممثّل واحد إلى مجلس النوّاب اللبناني. الحزب الشيوعي اللبناني كان يفصل (على طريقة الأحزاب اليمينيّة) بين المقاتل المُتفرّغ والطالب والعنصر غير المُقاتل (لم يفرض الحزب الشيوعي اللبناني على طريقة أحزاب يساريّة لبنانيّة «ثوريّة» الخدمة العسكريّة القسريّة على أعضاء الحزب _ وكان بإمكان عنصر في الحزب الشيوعي ألا يكون قد حمل مسدّساً في حياته). والحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي لم يكونا متحضّرين _ كما كانت أحزاب اليمين _ للحرب اللبنانيّة، خلافاً لنصح أحزاب يساريّة لبنانيّة وفلسطينيّة ثوريّة. لكن صاحبكم لا يهوى حمل السلاح من قبل اليسار لأن السنيورة من خلال العمل الدبلوماسي الحضاري كفيل بتحرير الأراضي اللبنانيّة والفلسطينيّة المحتلّة، ولأن مؤسّسة روزا لكسمبورغ تريد أن نتعايش مع الكيان الغاصب.
ويمكن النظر إلى الكتاب كمحاولة من جناح من أجنحة «اليسار الديموقراطي» الحريري (وكل عنصر في الحركة جناح، وعدد الأجنحة لا يتعدّى عدد أصابع اليدين أو القدمين) للتسويغ الذاتي وتصفية الحسابات، إذ إن هناك الكثير من التلطيشات والتلميحات عن الياس عطا الله (وبعضها ذات طابع شخصي لا علاقة له بكتاب يزعم في عنوانه أنه يؤرّخ لليسار). طبعاً إن تاريخ عطا الله في دعم النظام السوري وتوجّهه في لبنان يدخل في إطار المناظرة المقبولة.
لكن المشكلة في الكتاب تعود إلى أنّ الكاتب غير مؤهّل (لا بحثيّاً ولا في التجربة، إذ إن تجربته تبدو منحصرة في حركة تنتمي إلى اليمين أكثر مما تمتّ بصلة إلى اليسار). وفي روايته (على عجالة) عن تحوّل حركة القوميّين العرب بعد هزيمة 1967، يتخبّط في السرد (ص. 43) ويظنّ أن نايف حواتمة أسّس «الجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين» بعد الهزيمة مباشرة، وأنه لم ينبثق من رحم الجبهة الشعبيّة الأم في عام 1969، أي بعد سنتين من تأسيس الجبهة الشعبيّة. لكن قد تكون هنّات الكاتب مفهومة لأنه يعتمد في «بحثه» (وعدد المصادر قليل جدّاً) على مصادر من نوع سناء الجاك في جريدة الأمير سلمان بن عبد العزيز، «الشرق الأوسط» (ص. 65).
لكن المشكلة في هذا التأريخ أن منطلقاته يمينيّة لا يساريّة. في كل الكتاب ليس هناك (في قسميه، القسم الأوّل وهو «التاريخ» الذي ينتهي في صفحة 81، والقسم الثاني المُتضمّن أربع شهادات ليساريّين من أصدقاء الكاتب ومن تصنيفه) من نفحة يساريّة بتاتاً. على العكس، فإن الكتاب يخلو تماماً من حمل هموم الطبقة العاملة والفقراء والعدل الاجتماعي ومقارعة الصهيونيّة والإمبرياليّة. لا بل إن صاحبكم يسخر من كل الشعارات والأهداف اليساريّة في كتابه _ صدّق أو لا تصدّق _ اليساري. لكن هذه من أعجوبات الزمن: ففي لبنان يسار يحظى برعاية حريريّة وسعوديّة، كما أصبح لسوريا يسار يحظى برعاية من الأمير بندر نفسه، فلماذا العجب؟
والحزب الشيوعي اللبناني الذي لم يكن يوماً متطرّفاً، لا بل هو حرص على نبذ المتطرّفين من صفوفه وقمعهم بالقوّة، هو متّهم من قبل مؤلّف هذا الكتاب بالتطرّف (أو كما جاء في الكتاب بـ«مزيد من التطرّف»، ص. 47). لماذا؟ لأن الحزب في الستينيات ابتعد عن فكرة تقسيم فلسطين وأيّد المقاومة الفلسطينيّة. هذا هو مأخذ المؤلّف على الحزب. والكتاب ينضح (حتى في قسم الشهادات) بنفحة معادية للشعب الفلسطيني وقضيّته، وتتم الإشارة إلى الشعب الفلسطيني وحركاته المنظّمة بـ«الفلسطينيّين» أو «الفلسطيني» على طريقة آل الجميّل العنصريّة.
وسرديّة الحرب الأهليّة «الموجزة» في الكتاب تستبطن الرواية الكتائبيّة المعاكسة للواقع. لا يعلم الكاتب (أو يعلم، لكنه قال العكس لسبب ما) أن أحزاب اليمين اللبناني الطائفي، من كتائب وأحرار ومن لفّ لفّهم، هي التي بادرت إلى التسلّح منذ الخمسينيات. غير صحيح ما قاله الكاتب إن الكتائب لم تتسلّح إلا كردّة فعل على خطر «تنامي التسلّح في الأحزاب اليساريّة اللبنانيّة والقوات الفلسطينيّة» (ص. 49). ويتعاطف صاحبكم مع تسليح الكتائب، فيقول مدافعاً إنها أرادت أن «تكون قوات مساندة للجيش اللبناني، الذي تعرّض لأكثر من هجوم من القوّات الفلسطينيّة المُسلّحة» (الصفحة نفسها). هذه هي الرواية الكتائبيّة التي أدرجها اللوكسمبورغي بحرفيّتها. فاته أن 1) الجيش اللبناني هو الذي كان يعتدي على الشعب الفلسطيني منذ أن وطأ أوّل لاجئ فلسطيني أرض مسخ الوطن. 2) الأحزاب اليساريّة لم تكن مستعدّة أبداً تسليحاً عند نشوب الحرب. 3) يعترف كريم بقرادوني وغيره بأن الجيش اللبناني فتح خزائنه لأحزاب وميليشيات اليمين الطائفي، فيما كانت منظمة التحرير تقتّر في مساعدتها العسكريّة للأحزاب اللبنانيّة حتى بعد نشوب الحرب. لكن ماذا تتوقّع من كاتب يتعاطف في روايته (أو خياله) مع الملك حسين في مجازر عمّان (ص. 49)؟ وفي روايته لمجزرة عين الرمّانة (ص. 52) يتعاطف المؤلّف مع الطرف الكتائبي ولا يورد أعمال عنفه، وكأن «الفلسطينيّين» _ كما يسمّيهم _ لجأوا إلى العنف ضد أحزاب غانديّة على المقلب الآخر.
وحديثه عن تشكيل «جبهة المقاومة الوطنيّة ضد الاحتلال والفاشيّة» (وهو اسم لتنظيم أطلقه «أبو عدنان»، الأمين العام لحزب العمل الاشتراكي العربي _ لبنان، ودشّنه استشهاد «إيهاب» و«راجي» في أيّار 1978 على أيدي القوّات الفرنسيّة الغازية وهما في طريقهما للقيام بعمليّة ضد قوّات الاحتلال) غير صحيحة أبداً (ص. 55). لم يقبل الحزب الشيوعي اللبناني ولا منظمة العمل الشيوعي دعوة «أبو عدنان» يومها للانضمام إلى الجبهة لأن التنظيمين _ كي نتكلّم بصراحة عن الموضوع بعيداً عن الفولكلوريّة في الرواية التي رافقت اغتيال جورج حاوي _ كانا خاضعين بالكامل لقيادة ياسر عرفات.
وتشخيص الكاتب لمكامن ضعف اليسار يثير الضحك. هو مصمّم على أن اليسار (وماذا يعني باليسار؟ هل فقط تلك القوى التي تحمل صور غيفارا وتتلقّى تمويلها من مكتب الحريري، أم هو يعني باليسار كل من يتضامن مع حزب الكتائب اللبنانيّة على المقلب الآخر من العاصمة) كان في طريقه نحو أوج القوة، إلى أن أوقفت صعوده (بأمر؟) القوات السوريّة في لبنان. لكنه أحياناً يعترف بأن ضعف اليسار يعود إلى ... ضعف اليسار: هاكم يقول إن من «أهم المشاكل التي أضعفت اليسار ... نفور الشارع المسيحي من أحزاب اليسار» (ص. 65). وفسّر الماء بعد الجهد بالماء. لكنه يعزو ذلك إلى الفرز السكاني الطائفي، وكأن الكتائب والقوّات منه برّاء.
لكن يُسجّل للكاتب وفاؤه لقطب اليسار اللبناني، رفيق الحريري (يسمّيه تحبّباً «الزعيم السنّي» (ص. 74) ويمكن أن يضيف «اليساري» إلى اللقب، بتعريفه هو لليسار). فهو منذ روايته لما حصل في 1992 وإسقاط حكومة عمر كرامي (ص. 66)، ينزع إلى إسباغ صفة البطولة عليه. ويلخّص سياساته بـ«إعادة الأمن والاستقرار»، أعاده عليكم جميعاً في وقت قريب. أكثر من ذلك، يكشف المؤلّف أمراً بالغ الخطورة في الكتاب: إذ إنه يعلن لمن له آذان أن رفيق الحريري كان مغلوباً على أمره في الحكم وأنه لم يكمن مسموحاً له ممارسة الحكم «حتى في الموضوع الاقتصادي» (ص. 71). وقد يضيف الكاتب أن مشروع الـ«سوليدير» فُرض فرضاً على الرجل المسكين لأنه كان يفضّل بناء مساكن شعبيّة في وسط بيروت، لأنه هو ذروة اليسار. أما أن الثروة التي راكمها الحريري في سنوات حكمه، فهي أيضاً كانت مفروضة عليه، وكان يفضّل عليها الزهد لأنه تأثّر بأشعار أبي العتاهية.
ولا يكتفي الرجل بشكر رفيق الحريري والتنويه بإنجازاته، بل هو يضيف إليها (يساريّاً طبعاً) تنويهاً وإجلالاً لـ«الرأسمال الخليجي» (ص. 77) الذي أخرج لبنان من الحرب وشكّل له بورجوازيّة وطنيّة لا تُضاهى (للإنصاف، فإن الكاتب يستعمل مصطلح «جيوبوليتيكي» السائد هذه الأيّام في الشاشات اللبنانيّة، ما يضفي عمقاً على التحليل). أما النهب الذي رافق بناء دولة الحريري النيوليبراليّة فهو لا يسمّي من أطرافه _ أي أطراف النهب _ إلا «الشيعة بأطرافها التي انطلقت مستظلّة بسطوة حزب الله» (ص. 77). كم هو مسكين رفيق الحريري في رواية الكاتب.
لكن صاحبكم يسجّل نصراً ما بعده نصر لـ«اليسار اللبناني» الذي يؤرّخ له، أيما تأريخ. يا جماهير اليسار: يزف لكم حسين يعقوب نبأ وصول القيادي اليساري (والحليف القوي للنظام السوري في سنوات أو عقود ماضية، وفق روايته هو) إلى الندوة البرلمانيّة. وهذا النصر المبين الذي عجز عنه الحزب الشيوعي اللبناني، رغم انكباب نقولا الشاوي وجورج حاوي عليه لعقود، يعود لـ«جهود» سمير قصير (ص. 78). أي أننا كلّنا كنا على خطأ عندما ظننّا أن إلياس عطا الله وصل إلى المجلس النيابي بأمر من سعد الحريري وبتزكية من راعي عطا الله، وليد جنبلاط. لا، لم يحدث ذلك. يقول الكاتب إن سمير قصير _ نستنتج من الرواية _ هو الذي عبّأ أهالي طرابلس كي تطالب بابنها _ أو ابن عمّها أو قريبها البعيد _ إلياس عطا الله. لم يكن الأمر مُقرّراً من قبل الحريري مكافأة لهذا النسق من اليسار السعودي على ولائه وطاعته. لا، ليس الأمر كذلك. إنها جهود سمير قصير فقط (لكن نتساءل هنا، إذا كانت جهود سمير قصير هي التي أوصلت عطا الله إلى المجلس النيابي، فمن أوصل أمين وهبي؟ هل هي جهود فارس خشّان مثلاً؟ يحتاج الأمر إلى توضيح عاجل في ملحق للكتاب أو في بيان عن «مؤسّسة روزا لوكسمبورغ»). وبهذه الرواية ينتهي الكتاب ويبدأ القسم المتعلّق بشهادات ليساريّين من خارج اليسار التقليدي (أي اليسار القريب من «اليسار الديموقراطي»).
الشهادة الأولى هي لمسؤول عسكري سابق في الحزب الشيوعي اللبناني، وهو كان قريباً جداً من إلياس عطا الله. بكلام آخر: رواية الكاتب في القسم الأوّل تتكرّر على لسان صديقه، فلا تضيف جديداً. ورواية زياد صعب تحمل الكثير من الضغينة نحو اليسار المعادي لإسرائيل والإمبرياليّة، إلى درجة أنه ترد في روايته هذه الجملة الخبيثة عن جورج عبد الله: «ساورتني شكوك حوله، لكنها لم تكن صحيحة» (ص. 104). ما الغاية من إدراج هذه الجملة إذا كانت الشكوك غير صحيحة غير بث نَفَس خبيث فيها؟ لكن صعب يعبّر في شهادته عن الكثير من النقمة ضد المنظمات الفلسطينيّة برمّتها (لا يميّز بينها) ويعتب على خذلانهم للشيوعيّين، متناسياً أن الشيوعيّين اللبنانيّين هم أيضاً سخّروا المنظمات الفلسطينيّة لمصلحتهم، كما فعلت بعض المنظمات، وخذلوها أيضاً. لم يكن الاستغلال من طرف واحد بتاتاً. وبعض كلام صعب عن حركة «فتح» (ص. 114) لا يجوز نشره هنا لأنه يدخل في الكلام العنصري الذي تخصّص به «صوت لبنان» في سنوات الحرب. لكن صعب يعترف بأنه شكّل جناحاً داخل الحزب الشيوعي (مع إلياس عطا الله) للمطالبة (المبكّرة) (ص. 130) بتنفيذ مطلب العدوّ الإسرائيلي بنشر الجيش اللبناني في الجنوب (وتحقّق ذلك المطلب عقب حرب تمّوز بعدما تبنّاه فريق 14 آذار). واحتلال العدو الإسرائيلي لا يزعج صعب، بقدر ما يزعجه «احتلال» حزب الله لوسط البلد (ص. 138).
لكن أسوأ ما في رواية صعب هو إلقاء اللوم لتضعضع قوى الشيوعيّة في صفوف مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بالكامل على النظام السوري (ص. 118). للنظام السوري جرائم وآثام كثيرة في لبنان، لكن ضعف وانهيار اليسار عام 1982، وحتى قبل ذلك التاريخ، ليس منها. لقد سقط اليسار اللبناني قبل أن يسقط الاتحاد السوفياتي بسنوات (طويلة). تأخذ الجنوب اللبناني مثلاً: بدأ العناصر الشيوعيّون بالانجذاب للحركات الطائفيّة مثل حركة «أمل» في أواخر السبعينيات. وقد رافق التخويف الكتائبي باجتياح إسرائيلي (قبل حدوثه) موجة من النزوح من صف الأحزاب تلك، ولم يزدها الاجتياح (بعد حدوثه) إلا تفاقماً. (أنا كنت أدور على منازل شيوعيّين متقاعدين لأخذ كتب وكتيّبات يساريّة ممن نبذها في ذلك الحين). فلنقلع عن الرواية المُفيدة ذاتيّاً، عن أن غازي كنعان أمر بإنهاء المشاركة الشيوعيّة في المقاومة، فماتت. قلّ عدد المتطوّعين الشيوعيّين، ولا تنفع المكابرة هنا. والتنظيم العسكري لمنظمة العمل وللحزب الشيوعي لم يعودا موجودين.
وترد في الشهادات الأخرى تفاصيل (و«تركيب مقلة») عن اليسار _ أو هامش اليسار _ لا تزيد الصورة إلا قتامة. إن لانهيار اليسار اللبناني، ولتوليده جناحاً فاقع الانتهازيّة انضوى في صف فريق يميني رجعي طائفي _ أسباباً ذاتيّة غالبة على الأسباب الموضوعيّة. ماذا يعني أن استقالة جورج حاوي من قيادة الحزب الشيوعي، كما روى صعب، أتت بسبب خيبته من عدم تعيينه في المجلس النيابي المُعيّن، وإبدال اسمه باسم ميشال المرّ؟ قصّة اليسار فيها الكثير من الخيبات ومن السقوط ومن الفساد (ماذا حلّ بأموال الحزب الشيوعي اللبناني، وكيف وُزّعت أموال الدعم الليبي الشهريّة، وكيف أنفقت أموال الدعم الحريري لحركة «اليسار الديموقراطي»). يعترف صعب بأن اغتيال الحريري _ وليس الاشتراكيّة _ هو «القضيّة المفصليّة» عنده (ص. 135)؟
لا علاقة لليسار أو حتى الليبراليّة بهذا الكتاب. هذه رواية كتائبيّة تلبس لبوس اليسار المزوّر، لكن السرديّة الرجعيّة للحرب ولليسار يجب أن تحفّز كي تنطلق كتابات مختلفة. لليسار عوامله الوطنيّة وقواعده الشعبيّة (المُهملة) أما «اليسار الديموقراطي» _ أو ما بقي منه _ فله بندر.
ملاحظة: أشكر الصديقة ليلى الأعور شهيّب لأنها جلبت لي الكتاب من بيروت بناءً على طلبي. كما أشكرها على شحنة كشك سابقة.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)