بين أعوام 1970 ــ 1976 لم تكن المعارضة الحزبية في سوريا واضحة المعالم، وإن أظهرت «أحداث يوم المولد النبوي» (نيسان/ أبريل 1973) دخول قوى سياسية على خط الاحتجاجات التي جرت في مدينتي حماة واللاذقية ضد الدستور الذي جرى تحويله، بعد الاستفتاء عليه، إلى حالة نافذة في 13 آذار/ مارس1973، مثل جماعة «الإخوان المسلمين» و«الاتحاد الاشتراكي العربي» بقيادة الفريق محمد الجرَاح الذي كان في طريق آخر، منذ أوائل عام 1968، مختلف عن خط حزب «الاتحاد الاشتراكي العربي» بزعامة الدكتور جمال الأتاسي الذي كان متحالفاً مع السلطة تحت مظلة «الجبهة الوطنية التقدمية»، التي أُعلن قيامها في 7 آذار/ مارس 1972. كان هناك تنظيمات سياسية بعثية مناوئة للنظام، مثل تنظيم «23 شباط» الموالي للقيادة البعثية التي أطاحتها حركة 16 تشرين ثاني/ نوفمبر 1970، أو ذلك التنظيم الذي ظل يتبع منذ 23 شباط/ فبراير 1966 القيادة القومية لحزب البعث (منذ 17 تموز 1968 ارتبط ببعث العراق الواصل إلى السلطة في بغداد في ذلك اليوم)، التي أطاحها «القطريون» بزعامة اللواء صلاح جديد في ذلك اليوم، ولكن من دون أن تتخطى ــ تلك المعارضتان البعثيتان ــ حدود الفعل التنظيمي المدني ــ العسكري من أجل استعادة السلطة إلى فعلٍ اجتماعيٍ واسع أو إلى التفكير في إطار تحالفي مع القوى الأخرى، في الوقت الذي احتفظ فيه التنظيمان المذكوران بعداء مزمن أحدهما تجاه الآخر، حتى وهما يعارضان نظام ما بعد 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970.
في 1 حزيران/ يونيو 1976، وجد إجماع عند كل القوى السياسية السورية المعارضة، المذكورة أعلاه، على معارضة الدخول العسكري السوري إلى لبنان، الذي أدى إلى صدام بين القوات السورية والقوات المشتركة لمنظمة التحرير الفلسطينية واليسار اللبناني، التي كانت داخلة في صدامات عسكرية، منذ 13 نيسان/ أبريل 1975، مع قوات اليمين اللبناني (الكتائب والأحرار). ولكن ما أعطى مناسبة الدخول السوري إلى لبنان طابعاً انعطافياً في تاريخ المعارضة السورية لنظام الرئيس حافظ الأسد لم يكن ذلك فقط، بل أيضاً وأساساً دخول قوتين جديدتين، هما حزب «الاتحاد الاشتراكي العربي» و«الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي» (الناتج من انشقاق 3 نيسان 1972 بينه وبين جناح خالد بكداش الذي كان موالياً للكرملن)، إلى خط المعارضة الجذرية للنظام منذ ذلك الشهر، بعد أن ظلتا تنوسان بين الاقتراب والابتعاد عن النظام منذ خروج الأول من «الجبهة» في أيار 1973، والثاني ــ أيضاً منها ــ في كانون الثاني 1976، ليشكل هذان الحزبان، مع «الإخوان المسلمين»، عصب المعارضة السورية لربع قرن لاحق حتى وفاة الرئيس حافظ الأسد في 10 حزيران2000، وأحد محوري الاستقطاب السوري المعارض مع تأسيس «التجمع الوطني الديموقراطي» في كانون الأول/ ديسمبر 1979، الذي ضم إضافة إليهما: حزب «العمال الثوري العربي»، الذي أسسه ياسين الحافظ عام 1965، وحركة «الاشتراكيين العرب» بزعامة أكرم الحوراني، و«تنظيم 23 شباط»، فيما كان «الإخوان المسلمون» محور الاستقطاب المعارض الآخر، سواء وحدهم أو من دخل معهم في تكتلات سياسية معارضة، كان «الإخوان» عصبها السياسي، مثل «التحالف الوطني لتحرير سورية»، الذي تم تأسيسه بعد الهزيمة العسكرية لتنظيم «الإخوان» في حماة في شهر شباط 1982، مع محمد الجرَاح وبعث العراق (تنظيم القيادة القومية)، أو مثل «جبهة الإنقاذ» عام 1989، مع القوى نفسها، ولكن مع إضافة شخصيات مستقلة. هنا، في شهر آب/ أغسطس 1976، تأسَس تنظيم سياسي جديد معارض، هو «رابطة العمل الشيوعي»، قبل أن يتحوَل في آب 1981 إلى حزب «العمل الشيوعي»، ولكنه ظلَ خارج سرب هذين المحورين للمعارضة رغم محاولاته لمرتين في 1980 و1990 الدخول إلى «التجمع». ولم يتم انضواؤه في التكتلات المعارضة إلا مع تأسيس «إعلان دمشق» في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2005، الذي كان عملياً حصيلة اجتماع «التجمع» و«الإخوان»، وبعد ثلاثة أيام من تأسيس «الإعلان»، قبل أن ينضوي حزب «العمل» في صفوف «التجمع» في حزيران 2007.
خلال فترة حكم الرئيس حافظ الأسد، كانت المعارضة السورية تبني سياساتها من خلال طرح برامج مثل «برنامج التغيير الوطني الديموقراطي الجذري»، الذي طرحه «التجمع» في بيان 18 آذار/ مارس 1980، في ذروة أحداث حزيران 1979ــ شباط 1982، وهو ما تبعه «الإخوان المسلمون» بتقديم ورقة في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1980، سمّوها «بيان الثورة الإسلامية في سورية ومنهاجها» يمكن توصيفه «في كلمة موجزة بأنه منهاج ليبرالي يقترب كثيراً من مناهج الأحزاب القومية واليسارية المعارضة» (محمد جمال باروت: «الاخوان المسلمون في سورية ــ أصول وتعرجات الصراع بين المدرستين التقليدية والراديكالية»، ضمن مجلدي «الأحزاب والحركات والجماعات الاسلامية»، ج 1، ص 255ــ323، المركز العربي للدراسات الاستراتجية، الطبعة الثالثة، دمشق2000، ص 294). ولكن كان الاختلاف يومها بين محوري المعارضة السورية يأتي من الموقف تجاه أسلوب «العنف المسلح» الذي لجأ إليه «الإخوان»، وأيضاً تجاه الدخول في استقطابات إقليمية جعلت «الإخوان» على خط بغداد ــ عمان آنذاك، رغم اشتراك «بعث العراق» في محادثات خريف 1979 لتأسيس «التجمع»، وكان عدم توقيعه على ميثاقه بسبب إصراره على تضمينه عبارة «التغيير عبر كل الوسائل الممكنة». وهو ما رفضته الأحزاب الخمسة المؤسسة للتجمع بسبب رفضها لطريق العنف الذي كان ينتهجه «الإخوان» يومذاك بتشجيع من العاصمة العراقية.
في الثمانينيات، ورغم التباين داخلياً، كان للمعارضة السورية ــ بمحوريها ــ مواقف متقاربة، في المواضيع العربية، بمحطات مفصلية افترقت فيها عن مواقف النظام، حيال الحرب العراقية ــ الإيرانية (1980 ــ 1988) والاجتياح الإسرائيلي للبنان (1982) وأزمة وحرب الكويت (1990ــ1991) وتسوية مؤتمر مدريد (1991).
يمكن هنا أن تكون النبرة الجذرية التغييرية قد افترقت عند «التجمع» في التسعينيات عمّا هي عند «الإخوان»، عندما اتجه، بتأثير المرحوم جمال الأتاسي وقيادة ما بعد حملة اعتقالات أيلول 1987 للحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي، نحو «سياسة إصلاحية»، بدلاً من «البرنامج التغييري» الذي ظل قائماً طوال الثمانينيات للوضع السوري، بدءاً من الرسالة الداخلية المؤرخة في شهر كانون الأول/ ديسمبر 1989، الموجهة من قيادة «التجمع» إلى كوادر وقواعد الأحزاب المنضوية فيه، وإلى سجنائه في السجون المختلفة، وهذا ما كان يمكن تلمسه في الأعداد الصادرة لجريدة التجمع: «الموقف الديمقراطي»، طوال عقد التسعينيات، بدءاً من العدد الأول في أوائل شباط 1991، حيث يلمس تقيّدها بالخطوط الحمر والخضر والصفر، في اتجاه عام نحو تجنب سياسات يمكن أن تؤدي إلى ضربات أمنية جديدة، والتي كان آخرها ــ عدا اعتقالات فردية في التسعينيات ــ حملة اعتقالات ربيع 1990 في يبرود للحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي، واعتقالات طالت بعض كوادر وقيادات «الاتحاد الاشتراكي» في فترة حرب 1991، فيما شهد عقد الثمانينيات منذ آذار 1980 ست موجات اعتقال لـ«المكتب السياسي» كانت أضخمها تلك التي حصلت في شهر تشرين الأول1980، التي شملت الأمين الأول للحزب رياض الترك. هذا لا يعني أنّ «الإخوان المسلمين» لم يدخلوا في مفاوضات مع النظام، في أعوام 1984 و1987 و1996، ولكنها فشلت في الوصول إلى توافق بين طرفي أحداث 1979 ــ 1982، وربما كان هذا الفشل هو السبب الذي جعل «الإخوان» لا ينزلون من سقف خطابهم السياسي رغم تلك الجولات من التفاوض بينهم وبين النظام، فيما قام «التجمع» بذلك منذ كانون الأول 1989 بناءً على استراتيجية أوضحها المرحوم جمال الأتاسي في رسالة في تموز 1993، بعث بها إلى سجناء «التجمع» في القسم السياسي لسجن عدرا، ومنهم ناصريون وشيوعيون وشباطيون، بأنها «تنبني على فتح كوات في جدار القمع»، وليس على «برنامج التغيير» كما كان الأمر في عام1980، منطلقاً من تغير التوازنات، وما كان يعتبره هو شخصياً منذ نيسان1980، بخلاف رياض الترك، «ميل ميزان القوى لصالح النظام منذ ذلك الشهر» وضرورة بناء سياسات جديدة مختلفة عن تلك التي قدمها «التجمع» في بيان 18 آذار 1980.
في مجمل لثلاثين عاماً: لم تنبن المعارضة على الوضع الداخلي أولاً، بل كان المعارضون اللاحقون (ما عدا بعثيي 23 شباط وبغداد) في العامين الأولين من عهد 16 تشرين الثاني 1970 في حالة ترحيب بالعهد الجديد بالقياس إلى عهد صلاح جديد، وهذا يشمل جماعة الإخوان المسلمين. لم ينخرط كل «الإخوان» في أحداث عام 1973، لكن ظلوا «وظل النظام» في حالة حرص على عدم الصدام حتى دفعهم «تنظيم الطليعة»، المنشق عنهم، إلى مجابهة السلطة في أحداث 1979 ــ 1982. كان القفز للمعارضة الصريحة عند غير الاسلاميين بسبب التدخل السوري في لبنان، ثم كان انخراط الجميع في معارضة 1979 ــ 1982 مبنياً على أجندات داخلية، ولو لم تكن أصابع صدام حسين بعيدة بهذا الشكل أو ذاك. لم يكن النزول من أعلى شجرة المعارضة مع انتصار النظام الأمني على المعارضة يسيراً عند غير الاسلاميين، ولو كان هذا عبر طريق تخفيض السقوف من دون التلاقي أو الاتفاق مع النظام، فيما سعى «الإخوان» للاتفاق مع السلطة خوفاً من تحولهم مع الزمن إلى تنظيم خارجي، ولما ووجهوا بشروط صعبة، احتفظوا بالسقف العالي السابق. كان عدم قدرة النظام على الترجمة السياسية لانتصاره الأمني على المعارضة في أحداث 1979 ــ 1982 هو السبب الأساسي في انتقال مكونات المعارضة في عهد 16 تشرين الثاني1970 لكي تكون هي المكون الأساس لمعارضة العهد الجديد الذي بدأ يوم 10 حزيران 2000.
* كاتب سوري