قضايا المشرق | من بين كل المثقفين الناشطين في المعسكر السعودي، يعجبني حازم صاغية، لذكائه وقدرته على السجال؛ فلو كان أكثر استقلالية وانطلاقاً، لكان أمكن أن يقع معه حوار عميق ومفيد. أحسن صاغية في اكتشاف أهدافنا، نحن القائلين بالمشرقية العربية، من وراء طرحها. نعم. أردنا خلق إطار فكري سياسي يمنح الشرعية لمقاتلين لبنانيين وعراقيين (ويا ليت أردنيين وفلسطينيين) للقتال إلى جانب دمشق، ويسمح، أيضاً، بتحشيد المناضلين والحركات المدنية المشرقية في السياق نفسه. وهذه الشرعية، كما هو واضح في خطابها، علمانية قومية غير طائفية، تقف في مواجهة الشرعية التكفيرية الوهابية التي حشدت مجرمين من 83 بلداً لتدمير سوريا.
نحن لا نخفي ذلك أبداً. وقد وقفنا، بوضوح إلى جانب نظام الرئيس بشار الأسد ضد البربرية الخليجية الوهابية، القطرية والسعودية، كما ضد النيوعثمانية. نحن لا «نحابي» النظام السوري، كما يصفنا صاغية؛ كلا بل نحن، في الحرب القومية، نقاتل في خندقه. وفي رأينا أننا اخترنا الخندق الصحيح. لدينا، بالطبع، تحليلنا النقدي المنهجي لهذا النظام، ولدينا برنامجنا المعلَن للنضال داخل سوريا من أجل بناء دولة وطنية تنموية مقاومة فيها. غير أنّ ذلك صراع سياسي سوري مشرقي داخلي لا يؤثر على وحدة القوى المتصارعة الداخلية في مواجهة العدوان الخارجي، الغربي الصهيوني الوهابي العثماني. المشرقية في خدمة المعركة؟ طبعاً، لكن ما لم يلاحظه صاغية أن المعركة في خدمة المشرقية أيضاً؛ فنحن تدخلنا ونزمع التدخل في الصراع السوري الداخلي باسم المشرق كله؛ فإذا كان ما يحدث في سوريا يؤثر، عضوياً، على مصير الأردن وفلسطين ولبنان والعراق، يغدو من حق الحركات الوطنية في هذه البلدان أن تنخرط في النضال السوري، سواء في مواجهة الغزاة أم في الصراع حول هوية سوريا الاقتصادية ـ الاجتماعية، وهيكلية نظامها السياسي ودورها الإقليمي واستراتيجيتها في إدارة المواجهة مع إسرائيل. يدعي صاغية ـ مستسهلاً الاتهامية ـ أنّ أطروحة المشرقية صدرت عن النظام السوري نفسه. وهذا غير صحيح البتة؛ فهي تكونت في أوساط ماركسية ويسارية لاحظت عظم التأثير الذي أحدثته الحرب السورية في بلدان المشرق، وتوصلت الى استنتاج معلن هو أن المشرق مجال جيوسياسي وحضاري وتنموي واحد، مما يطرح ضرورة وحدة حركة التحرر الوطني المشرقية، والتوصل إلى صيغة اتحادية لا تقوم على أساس اعتبار المشرق «أمة تامة»، ولعل التأكيد على صفة «العربي»، هنا، هو للتأكيد على أن المشرقيين الجدد ليسوا «سوريين قوميين» بثوب جديد، إلا أنهم ليسوا قوميين عرباً؛ ففي المشرق مكان للأشقاء الأكراد وسائر القوميات الأخرى، بما في ذلك التركمان. ولهذا السبب، فإنني أفضّل الاكتفاء باصطلاح المشرق. كل ذلك، ناقشناه مع مثقفين سوريين، موالين ومعارضين، وشخصيات من داخل النظام السوري، لكن النظام نفسه، لم يتبنّ الأطروحة حتى الآن. وسواء أتبناها أم لا، فنحن سنواصل.
يوحي صاغية أنه لا يريد «سجالاً مبتذلاً»، وأنه قد يرى في المشرقية، «معنى محترماً» (ولا أعرف كيف يمكن صرف شبه الجملة هذه، فكرياً)، إذا جرى «ربطها بإطارين ثقافيين آخرين، أحدهما عربيّ والآخر إسلاميّ مستمدّ من تاريخ الشراكة في العثمانيّة»، لكنه، هنا، يمارس السجال المبتذل، من دون وازع، حين يتعمد الخلط، مجدداً، بين المشرقيين وتيار سوري قومي قديم يرفض الإطارين العربي والإسلامي. نحن لا نرفض العلاقة مع هذين الإطارين، بالطبع، بل نتوسّلهما؛ لكن ليس فيهما، حتماً، مكان لآل سعود ومشايخ الخليج الوهابيين والرجعيين، ولا لمتآمرين إرهابيين مثل رجب أردوغان وحكومته. نطمح، بوضوح، إلى دور مشرقي في تحرير الجزيرة العربية من بناها الفائتة، مع التأكيد على وحدتها كمجال جيوسياسي واحد. ولا يمكن للمشرق أن يتجاهل الجارين، التركيّ والإيراني (يتجاهل صاغية إيران من الإطار الإسلاميّ!)، ولا بد له أن يسعى إلى علاقات وطيدة معهما في شتى المجالات، وفق قواعد حسن الجوار والمصالح المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. والشرط الأخير ينطبق، عندنا، على الأتراك والإيرانيين، سواء بسواء. يلوم صاغية الرئيسين الراحلين، حافظ الأسد وصدام حسين، على تخريبهما العلاقة بين سوريا والعراق، مركزَيِ المشرق؛ نحن نألم، حقاً، على تفويت فرصة تاريخية كبيرة عام 1979 لوحدة البلدين، ولا نريد أن ندخل في سجال حول أي منهما المسؤول، لكن المهم هنا أن هناك فرصة جديدة ناشئة للوحدة السورية ـــ العراقية، نريد اغتنامها.
نتفق مع صاغية على أن لبنان هو البلد المشرقي بامتياز، من حيث كونه بالذات نموذجاً للتعددية، لكن ادعاءه أن النظام السوري كان «المعول الأكثر فتكاً» بلبنان، يحتاج إلى نقاش عياني مديد، سوى أن البديل عن الوجود السوري في لبنان، بكل أخطائه، هو التمدد السعودي التكفيري الإرهابي على ما نشهده في مناطق لبنانية يحتلها إرهابيو آل سعود، وتغطيهم فيها، الأدوات السياسية السعودية.
يسأل صاغية: مَن الذي دمّر المشرقية؟ وهو يتهم النظام السوري تحديداً بذلك بسبب كونه فشل في الاتحاد مع العراق، واتبع سياسات خاطئة في لبنان. الفشل السابق يعوّضه نجاح لاحق، وخطأ الأمس يمكن تصحيحه غداً؛ إنما السؤال الغائب هو: مَن دمر المشرق نفسه، دولاً وشعوباً ومجتمعات وبنى تحتية وقدرات؟
والإجابة لدى مَن يريد أن يزوغ عن حقائق التاريخ والواقع معاً، هو كالتالي:
إسرائيل ـ بتواطؤ مع السعودية والرجعية العربية ـ في فلسطين ولبنان، وحليفتها الولايات المتحدة ـ بدعم وتشجيع وتمويل السعودية ـ في العراق، والسعودية وقطر وتركيا ـ من خلال تجييش المذهبي والإرهابي، سياسياً وإعلامياً وعسكرياً ومالياً ـ في سوريا.
الحلف الامبريالي الصهيوني السعودي هو المسؤول عن كل هذا الدمار والموت في المشرق العربي. وقد أظهرت الحرب على سوريا أن مملكة آل سعود، بالذات، هي القاسم المشترك في كل حملات العدوان الهمجية على بلدان المشرق وشعوبه. ولعله آن الأوان، أو يكاد، لكي تصفي شعوب المشرق، الحسابات معها.
يبقى أن «بيئة تأييد النظام السوري»، بكل عيوبها، تظل تختزن من الشرعية القومية والحيوية الاجتماعية والمنظومة القيمية، ما لا يمكن أن تعرفه بيئة تأييد آل سعود، سواء أتلك الوهابية التكفيرية كما يعبر عنها مجرمو «القاعدة» و«جيش الإسلام»، أم تلك الوهابية الليبرالية التي يعبّر عنها الزميل صاغية.