يوآب حيفاوي *«اطلبوا العلم... في الصين!»
«لا...»، يصحّحني أستاذي، «فالحديث يقول: أطلبوا العلم ولو في الصين».
«نعم يا أستاذ»، ها أنا أردّ، وأنا عنيد كعاداتي. «لم أنسَ الحديث الشريف، لكن تغيّرت الأوقات والظروف. والصين اليوم ليست بالبعيدة».
وقد تعلّمنا من «أميركا» الأبعد منها أنّه «نوثينج سِكسيدْسْ لايْك سَكسِس» (nothing succeeds like success) وبعد ما تعلّمنا هذه المقولة فارق الـ«سَكسِسْ» أميركا وظهر في وجه جديد في خصمتها الصين – فلماذا لا نتعلّم منها؟

العلم المطلوب

يروي المثل الشعبي عن خبير الأرصاد الجوي الذي كان يعمل في بِلاط الملك وكانت الأحوال الجوية تكذِّبُ كل تنبَؤاته. فإذا تنبّأ بسقوط المطر طلعت الشمس بكل قوَتها وإذا تنبّأ بسماء زرقاء، غطّتها الغيوم... وسمع الخبير عن تاجر من تجّار السوق يتنبّأ بالأحوال الجوية وتصبح كل تنبؤاته حقيقة محقّقة... فتّش عن هذا التاجر وتوجّه إليه واقترح عليه أن يأخذ نصف معاشه لكي يعلّمه سرّه ومفتاح تنبّؤاته. ضحك التاجر وقال له: سرّي بسيط جداً ولكنّه لن ينفعك؛ فأنا أنتظر لأسمع تنبّؤاتك لأتنبّأ بعكسها.
هكذا هو عِلْم أميركا، ولن ينفعنا حتى لو تعلّمناه... فسرُّ غناها هو استغلال الآخرين ولن يستطيع الآخرون أن يتطوّروا من خلال الاستغلال وهم مستغَلّون. وحتى داخل هذه الدولة العظيمة يرافق النجاح فئة قليلة من الناس ويغيب عن الأغلبية من العاملين والفقراء وأبناء «الأقلية» الذين يزيد عددهم، ولكن تقلّ حصّتهم من «الكعكة».
أمّا عِلْم الصين فهو من نوع آخر... هو عِلْم وتجربة شعب كان قبل أربعين عاماً من أفقر الشعوب في العالم ولم يساعده أحدٌ، فتعلّم وعمل وبادر وغيّر وزرع وحصد وبنَى وحوَّل بلاده إلى مركز الصناعة العالمية وإلى القوّة العظمى الصاعدة. وتتحسّن أوضاع الصينيّات والصينيّين مع تحسُّن أوضاع الصين؛ فإذا قلّت نسبة الفقر في العالم فإنّ الحصّة الأكبر من هذا الإنجاز ترجع للصين.

بين الاشتراكية والرأسمالية

يقال «إنّ الفشلَ يتيمٌ ولكنّ النجاحَ له ألفُ أب» – فمن هم آباء النجاح في الصين؟ أو بالتحديد: هل نجاح الاقتصاد الصيني يرجع إلى الثورة الاشتراكية وحكم الحزب الشيوعي والدور الرائد للدولة وللشركات العامّة في الاقتصاد الصيني، أم يعود للإصلاحات الاقتصادية والانفتاح أمام الشركات العابرة للقارات ولصعود الرأسمالية خلال العقود الأخيرة داخل الصين الاشتراكية نفسها؟
بعد صراعٍ تناحريّ بين الرأسمالية والاشتراكية على مدار مئتي عام، يمكن القول إنّ هذا السؤال هو الأهمّ لتحديد نظرتنا للاتّجاه الذي يسير فيه تاريخ البشرية في بداية القرن الواحد والعشرين، وليس فقط لأنّ الصين هي القوّة العظمى الصاعدة، وستكون قريباً الاقتصاد الأكبر في العالم.
ولكن، إذا نجح التقدّم الرأسماليّ في الصّين في خلْق هذا التطوّر الرهيب فأين هي أزمة النظام الرأسماليّ المنشودة؟ وإذا استطاع النموّ الرأسماليّ في الصين رفعَ خُمس البشرية من أعماق الفقر نحو الرفاهية والحياة الحديثة فأين نحن من نظرية الإمبريالية كنظام تَستغِلّ من خلاله أقليةٌ من الأمم غالبيتَها؟
وإذا كان سبب هذا النجاح يرجع للاشتراكية فأين هو فشل الاشتراكية المنشود منذ سقوط الاتحاد السوفياتي؟ ولماذا تخجل الصين من الترويج لنهجها الاشتراكيّ وتسمح بل تشجّع نموّ الرساميل الأجنبية والمحلية على أراضيها؟
إنّ النقاش الدائر اليوم بين المحلّلين في الغرب، الرأسماليين والاشتراكيين منهم، لا يسهم إلاّ في زيادة تعقيد الموضوع.

تنكُّر المحللين الرأسماليين

ليس من السهل على خبراء الاقتصاد الغربيين الاعتراف بتفوّق النمط الصيني في الاقتصاد. من خلال متابعتي المتواصلة لتغطية أمور الصين في مجلة «أكونوميست» البريطانية ألاحظ أنّه من الصعب أن يُكتب فيها أيّ تقرير عن اقتصاد الصين دون الاستنتاج أن حكم الحزب الشيوعي في الصين حتماً سيؤدي إلى انهيار اقتصادها، وبالتالي على الصينيين الإسراع في تغيير النظام لمنع هذا الانهيار.
مع بداية ظهور الصين كمركز للإنتاج الصناعي في التسعينيات، ادّعوا أن الصين قادرة على تأجير قوّتها العاملة الرخيصة لأصحاب رؤوس الأموال الأجنبية، لكنّ نظامها الشيوعي «الخانق» يمنع تطوير التكنولوجيا الحديثة والإبداع... ومع ظهور الصناعة الصينية المتقدمة في كلّ مجالات التكنولوجيا الحديثة في العقد السابق، اعترفوا بأن الصين قادرة على بناء البنية التحتية الحديثة وتجنيد المهندسين والعمال للإنتاج، لكن ادّعوا أن بنوك الصين، التي كلّها مُلك الدولة وخاضعة لتوجيهات الدولة في شأن أولويات التطوير لا لمبدأ الربح، لا تقدر على منافسة بنوك الدول الغربية، وبهذا تؤدّي إلى انهيارها وتراجع الاقتصاد... لكنّ الانهيار أتى بعدها بقليل من جَرّاء أزمة البنوك الرأسمالية سنة 2008، وظهر أن السياسيّين في الغرب يخضعون لتوجيهات مدراء البنوك الذين أحرقوا اليابس والأخضر في السباق وراء الربح الخاصّ الفاحش.
وكانت الصين من أوائل ضحايا الأزمة الاقتصادية العالمية؛ خلال فترة وجيزة أُغلِقت فيها آلاف المصانع وفقد عشرات ملايين العمّال عملهم كنتيجة مباشرة لوقف ائتمان الصادرات من قبل البنوك الغربية، لكنّ حكومة الصين، لأنها تعتبر المصلحة العامة فوق الربح الخاص، ولأن لديها وفرة ماليّة هائلة في خزينتها، بادرت إلى إنعاش الاقتصاد فوزّعت على كلّ بيت من بيوت مئات ملايين الفلاحين في الصين «هدية» بقيمة مئة دولار لشراء منتجات الصناعة الصينية، ومنعت تدهور بلادها إلى درَك الانكماش الاقتصادي وأسهمت في لَجْم تداعيات الأزمة على الاقتصاد العالمي.

تنكُّر المحللين الاشتراكيين

إذا كانت حالة التنكّر الرأسمالية لنجاح التجربة الصينية أمراً طبيعياً، فإنّني لا أفهم حالة التنكّر عند الخبراء والسياسيين والمفكرين اليساريين في الغرب. لا أريد أن أصدّق أن السبب هو أنهم اعتادوا اعتبار دول الغرب مركز الأحداث العالمية، وأنهم يشعرون بالغربة تجاه تجارب العالم الثالث، وإنمّا من الطبيعي أن ينظر العامل أو المثقف الغربي إلى العامل الصيني فيجد أنه، رغم كلّ تطوّر الصين، ما زال فقيراً ويعمل في ظروف قاسية للغاية، ولا يمكن أن يمثل نموذجاً له يسعى إلى محاكاته والعيش مثله.
يقلّل العديد من المنظّرين الغربيّين من دور الاستغلال الإمبريالي لشعوب العالم الثالث في تطوير اقتصادات بلدانهم، وبالتالي هم لا يميّزون بين هذا التطوير وبين نمط تطوير الاقتصاد الصيني، الذي بُني من واقع العالم الثالث المستغَلّ لا من خلال استغلال الآخرين.
أمّا الجزء الآخر، وربّما الأكبر، من المحلّلين الاشتراكيّين في الغرب، فيرى الاقتصاد الصيني اقتصاداً رأسمالياً بحتاً، وبذلك يمنح حقّ الأبوية لنجاح هذه التجربة لـ«العدوّ الطبقي». ويشهد هذا الاستنتاج لدى هذا النوع من المحلّلين عن إيمانهم الكبير بقوّة، ومستقبل النظام الرأسمالي، الذي يحوّل بقدرة قادر دولة فقيرة إلى طليعة اقتصاد العالم.

صفحة من كتاب قديم

بلْوَر ماركس نظريّته «المادّية الجدليّة» كاستمرار وتطوير لنظرية هيغل الجدلية المثالية، وتعتمد هاتان النظريّتان على تفسير قوانين التغيير في العالم من خلال ثلاثة عوامل تتصارع وتتغيّر مع الزّمان: الأطروحة والنقيض والتوليف (thesis, antithesis and synthesis).
وإذا كانت الرأسمالية في مرحلتها هي الأطروحة، فهي تولّد نقيضَها الاشتراكي وينشأ الصراع بينهما، فيحاربُها ويقضي عليها... وقد تطوّر الفكر الاشتراكي خلال عهد هذا الصراع وفي خدمته ليكشف بشاعة الرأسمالية وتناقضاتها، وليبني القوّة العمّالية الاشتراكية ويقودها إلى الانتصار.
ولكن الاشتراكية، بدورها، لا تخلو من تناقضاتٍ داخليّة، وبناءً عليه لا يُعقَل أن يكون انتصارها هو آخر مراحل التاريخ. وبنفس منطق نظرية «المادّية الجدليّة»، يتطلب استمرار التطوّر بعد الانتصار مرحلةً جديدة، هي مرحلة التوليف [وحدة وصراع الأضداد] توحيد المتناقضات (synthesis)، حيث يضمّ النظام الجديد ليس فقط النقيضَ المنتصر، بل أيضاً عناصرَ القوّة والحيويّة من الأطروحة القديمة، ليؤسّس أطروحة كاملة جديدة (حتى ظهور نقيضها ونشوء الصراع بينهما).
وبالتالي يمكن أن ننظر إلى استعمال أدوات السوق في الصين ليس كرجوعٍ إلى الماضي، بل كتوظيف عنصر قوة حيوي في عملية تحسين ترتيبات قوّة الإنتاج الجماعية الاشتراكية؛ كما يمكن أن ننظر إلى إدخال الشركات الأجنبية، إذا بقيت خاضعة للاقتصاد المخطّط لمصلحة تطوير الصين، كتوظيف في تسهيل وتسريع عملية التطوير؛ وحتى نموّ الرأسمال الداخلي، إلى حد معيّن، يمكن أن يوظَّف في تعبئة الفراغ في بعض مجالات الإنتاج ممّا يجبر اقتصاد الدولة على اليقظة والاجتهاد ليلبّي حاجة الجماهير كعمّال وكمستهلكين.
هذه النظرة المتفائلة لا تنفي إمكانية وخطر الرجوع إلى الوراء. الشركات الأجنبية الفاعلة في الصين ورؤوس الأموال المحلية لن تكتفي بالدور المعدّ لها، وسوف تسعى إلى رفع كلّ القيود عن نشاطها وإلى إعادة الحكم السياسي الذي يضمن لها أعظم الأرباح. وحتى قبل التفكير في الاستيلاء على السلطة السياسية، تكثّف هذه الشركات مجهودها لإفساد جهاز الدولة والحزب الحاكم لكي تخدم مصالحها.
الصراع مستمرّ، لكن كلّ يومٍ من استمرار نمط التطوّر السريع للصين واستفادة الجماهير الشعبية من هذا التطوّر هو إثبات آخر على أنّ الشعب الصيني بخير وعلى الطريق الصحيح. ونفيُ هذه الانجازات، أو إعلان الهزيمة قبل حدوثها، أو التقليل من قوّة الاشتراكية، أو منح الفضل على مكتسباتها للمركّبات الاقتصادية الرأسمالية، كلّ هذا ليس فقط يتناقض مع أبسط الحقائق ومع علم الاقتصاد السياسي، بل هو أيضاً فوق ذلك يسهّل على المعنيّين جرّ مركبة التاريخ إلى الوراء.
* ناشط في حركة «أبناء البلد» الفلسطينية، ومحرر مدونة «حيفا الحرّة»