التكهنات والتسريبات والتحاليل والتصريحات عن معركة فاصلة في القلمون بين داحس النظام وغبراء المعارضة، أو العكس، تحتشد فيها الآلاف المؤلفة لتقليم أظفار هذا أو ذاك، ملأت الصحف والمواقع الإلكترونية وشاشات التلفاز. أخبار المعركة الكبرى راجت، وحُدِّد شكل المعركة والتواريخ والمواقيت والسيناريوات والخطط، وتحدثت عن تداعياتها إقليمياً وارتداداتها على الداخل اللبناني، وربطت الاستحقاقات فيها وبعدها على نتائجها.
كثر الحديث عن حشود ضخمة لحزب الله، وعن نشر الجيش السوري أعداداً كبيرة من الراجمات وبطاريات المدافع واستقدام طائرات «ميغ 29» و«سوخوي 27»، بعد أن أخفاها في إيران، وعن حصوله على أسلحة حديثة من روسيا لهذه المعركة، في مقابل حشد المعارضة أكثر من عشرين ألف مقاتل من كل الفصائل والكتائب وتعزيز قواتها بدبابات «ت 72»، وحصولها على صواريخ متطورة وعن تحصينات وكهوف وأنفاق. هناك مَن تكهّن بحسمها قبل «جنيف 2»، وآخرون تحدثوا عن صمود أسطوري للمعارضة إلى ما بعد بعد جنيف، وعن إمكان المعارضة في احتواء الهجوم وتحويله إلى هجوم مضاد قد يصل إلى مركز النظام في العاصمة.
كذلك يعتقد محللون أن معركة القلمون هي معركة السعودية. لذا ستكون صعبة ومؤلمة ومصيرية، وستفرز واقعاً جديداً، وتوازناً بين النظام والمعارضة. لا شك أن المنطقة الممتدة من قارة _ النبك _ دير عطية _ عسال الورد _ يبرود _ الزبداني _ صيدنايا _ معلولا _ مضايا، وصولاً إلى الجوسية وإلى عرسال، ذات أهمية بالغة وتعتبر مناطق حساسة وهامة، وتشكل مساحة كبيرة يزيد طولها على 180 كيلومتراً، أما عرضها فهو عرض سلسلة جبال لبنان الشرقية.
وهي منطقة شاسعة ومترامية وليست موقعاً محدداً كالقصير ومحيطها، ولا يمكن السيطرة عليها بالوجود العسكري المباشر بمعركة حاسمة، بل بعمل عسكري طويل يعتمد تقنيات وفنوناً مختلفة من الحصار، إلى قطع الإمداد، إلى القضم، إلى تشتيت شمل القوى المعارضة. يتخلل العمل الطويل مراهنات على متغيّرات منها الظرفي كتغيّر المناخ، حيث سيسيطر الثلج على السلسلة الجبلية ويعوق حركة المسلحين، بعد أقل من شهر من الآن، إلى احتمال تغيّرات سياسية مترافقة مع المفاوضات لعقد «جنيف 2»، ورسائل ورهانات ومواقف أخرى.
وللمنطقة أهمية خاصة، لكونها متاخمة للحدود اللبنانية، واسترجاعها يغلق منافذ تهريب السلاح ونوافذ المقاتلين ويؤمّن ظهر الجيش السوري، ويتحوّل الجهد إلى الشمال السوري، لذلك لا يمكن التعاطي مع معركة المنطقة برهانات متسرّعة، وبخطوات متهوّرة، فمسألة الربح والخسارة فيها مسألة قاتلة.
ومن حقائق الأمور على ما يبدو، أنّ المعركة ضُخِّمت وكأن هناك مَن تعمّد ذلك، ومن باب التهويل والرهانات وربما من باب التضليل لعرقلة ملفات أخرى.
فواقع القلمون مغاير تماماً لما جرى في غربي العاصي ومدينة القصير، والمسألة لا تحتاج إلى كل هذه التعبئة والتسريبات، بالرغم من الأهمية الجغرافية لتلك المناطق. إلا أن هناك ظروفاً أملت على النظام سحب قواته من المنطقة، وتركه لها كان حاجة لحماية العاصمة بعد نجاح المعارضة في اختراق العمق، فمناطق الأطراف لا تشكل خطراً داهماً، لذا يمكن تأجيلها، وهذا ما جرى، ما أدى إلى تغلغل كبير للمعارضة في تلك الوديان والجبال والقرى، وشكل ذلك خلفية كبيرة لقوات المعارضة وطرق إمداد لها باتجاه دمشق. وفي حال سقوط القلب، تتهاوى الأطراف تلقائياً. والمقارنة بين القلمون والقصير تختلف، حيث توجد قرى موالية للنظام في معظم مناطق القلمون، بعكس القصير، وكان النظام قد أهملها لأسباب غير معروفة، وهو قادر على استيعابها مجدداً، وقد حصل ذلك في مرات سابقة، لهذا لا يشعر بارتباك حيالها. وبعد الانتهاء من الغوطتين، سيعمل على إعادة صلة الوصل وتسليح الموالين، وهو قد بدأ بهذه الخطوة في مناطق صيدنايا ومعلولا، ولهذا السبب ليس مطلوباً عملية عسكرية كبيرة على غرار القصير. فاستكمال السيطرة على الريفين الدمشقي _ الحمصي ينهي أي أهمية لجرود السلسلة الشرقية وتصبح معزولة.
إن امتداد الريفين أعطى أهمية لوجستية كبيرة لمناطق القلمون، وحوّلها إلى نقاط ارتكاز نتيجة التداخل في ما بينها وجعلها بقعة جغرافية واحدة يكمّل بعضها بعضاً مترامية بشكل منسجم.
وانشغال النظام بمعركة العاصمة وريفها عزز من وجود الكتائب المسلحة ضمن سيطرة كاملة في مناطق متروكة.
فمنذ أن استعاد الجيش المبادرة، بدأ باستعادة المناطق الواحدة تلو الأخرى، ضمن وتيرة ممنهجة وعلمية، بحيث تُفصل المناطق بحسب الأهمية الجغرافية والاستراتيجية وبتكتيكات فعالة ومجدية، وعبر عمليات قضم، وهذا الأسلوب أسقط أو سيسقط المزيد من المناطق التي تشكل دفاعات أساسية لمناطق القلمون.
من الطبيعي أن يعيد الجيش انتشاره في المناطق التي كان قد اضطر إلى الانسحاب منها للمشاركة في معركة دمشق، وبذلك يكون قد أصلح الخلل بإخلاء الجرود والسلسلة الجبلية والمناطق الحدودية، وهذا نصف المعركة.
في كل الحالات من دون السيطرة على العمق الدمشقي والحمصي المتصل بمنطقة القلمون، تصبح المعارضة غير مؤهلة لأداء دور محوري على المستوى العسكري، مع انعكاسه على الموقف السياسي، ولا تمتلك مقومات صمود. فبمجرد إعادة السيطرة على الغوطتين تسقط أهمية القلمون. وطبيعة المناطق النائية والمعزولة والمتباعدة تحوّل نقاط القوة لدى المعارضين إلى نقاط ضعف. فمعظم القرى متباعدة وتفصل بينها أراضٍ مكشوفة وتضاريس الجرود والجبال والسهول غير الصالحة لقتال طويل الأمد. قد تصلح لمعارك كر وفر إن فشل النظام في استعادة الريف الدمشقي والحمصي بحيث يشكلان امتداداً طبيعياً، وفي حال العكس تصبح في حكم الساقطة عسكرياً، مع العلم أن البيئة الشعبية معادية بشكل واسع للمعارضة، ما يعوق حركتها. جاء تضخيم معركة القلمون في سياق التضليل والتهويل ولتشتيت المعارضة، وهي أحدثت إرباكاً. ولكن هذا لا يعني أن لا معركة في القلمون، بل ستكون في سياق عادي وبنَفَس طويل ومهل مطاطة تستفيد من تهيئة ظروف قد لا تكون متوافرة في الوقت الراهن. والنظام يعطي أهمية كبرى لحلب بعد استكمال استعادة كامل الريفين الدمشقي والحمصي، والمعركة الفاصلة ستكون في حلب، إن عسكرياً أو سياسياً، وعندها من الطبيعي أن يحصل انهيار دراماتيكي لفصائل المعارضة؛ فمحاصرة وسقوط المنظومة القيادية للمسلحين في حلب سيدفعان الكثير من المجموعات المسلحة إلى الاستسلام دون الحاجة إلى موت مجاني.
إن ما روّج له من معركة مفصلية تندرج في إطار المراهنات الخاطئة، فهناك فريق لا يريد تصديق انهيار المشروع الأميركي ولا يزال يراهن ويتوهّم ولا يدرك حقيقة ما يجري وما هي طبيعة الأحداث وإلى أين ستؤدي. والمسار العام للأزمة السورية قد انقلب وتغيّر منذ أن تلاشت احتمالات الضربة العسكرية الأميركية على سوريا، وأصبح السياق الطبيعي استكمال التفاهمات الأميركية _ الروسية والأميركية _ الإيرانية، وحتى «جنيف 2» هو محطة في سياق التسوية، ودون ذلك مجرد لعب في الوقت الضائع.
إن نجاح النظام في تجاوز مسألة السقوط والانهيار فرض واقعاً جديداً تجلى في نجاحات عسكرية أهمها استعادة السيطرة على معاقل مهمة للمعارضة في أهم المناطق في الريفين الدمشقي والحمصي.
لهذا فالمراهنات السابقة التي اعتمدها فريق 14 آذار قد تبخّرت، وما يجري في الساحة اللبنانية هو ردود فعل ميؤوس منها، وما يجري في طرابلس من أحداث هو نتيجة تقاعس المؤسسات العسكرية والأمنية، والأصح هو صراع أجهزة، من جهة، ونتيجة للفراغ الأمني من جهة ثانية، أكثر مما هو مرتبط بأحداث إقليمية. على كل، لا تزال كل القوى تنظر إلى ما سيجري في معركة القلمون التي يبنى عليها الكثير، وبالرغم من الأهمية القصوى لتلك الساحة الجغرافية إلا أن حقيقة الأمور ستكون بشكل مختلف عمّا نُشر وكُتب وعُرِض.
فمعركة القلمون ستأتي في سياق عام وكنتيجة لمعركة الغوطتين الغربية والشرقية وكتحصيل حاصل لاستعادة الجيش السوري لكامل الريفين الحمصي والدمشقي، ما سيفرض واقعاً جديداً، وخاصة في ضوء النتائج المرتقبة لـ«جنيف 2».
بالمقابل، مع استعادة سلطة العاصمة دمشق نفوذها وقوتها في المدن المتداخلة، حماه _ حمص _ دمشق ومتفرعات البادية، سيكون انتشار الجيش السوري على طول الحدود والجرود والقرى والبلدات دون الحاجة إلى عملية عسكرية كبيرة، فالسيطرة على الريفين ستجعل مناطق قارة _ النبك _ دير عطية _ مضايا _ معزولة ودون فائدة عسكرية؛ لكون سقوط العمق يجعل هذه المناطق النائية خارج دائرة التأثير. وهذه المعطيات ترجّح مقدرة النظام على حسم كل مناطق الريف الدمشقي _ الحمصي _ الحموي قبل نهاية العام، وبالنتيجة فالظروف التي أملت على بعض القوى أن تراهن في الساحة اللبنانية على متغيّرات كبيرة خاب ظنها وما عليها سوى العودة إلى الواقع والتعقّل.
* كاتب لبناني