في زمن الحروب، ليس فقط الفكر السياسي، والممارسة السياسية يتجليان وفق أشكال وآليات وحتى مضامين مختلفة، فالسياسات الاقتصادية كذلك، تخضع للتغيير النسبي وحتى الكلي أحياناً. بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا، حاول فلاديمير إيليتش لينين تطبيق «شيوعية الحرب» لمواجهة تداعيات الحرب والثورة ومخلفات النمط الإقطاعي المتخلف. لكنه ولظروف بالغة التعقيد والصعوبة لم يفلح في ذلك. ومن المرجح أن جملة الظروف الذاتية والموضوعية، وحتى الدولية لم تكن قد نضجت، لوضع المداميك الأولى لنظام شيوعي. مما اضطر لينين لاعتماد سياسية «النيب» (الاقتصاد الجديد) وكانت سياسته الاقتصادية الجديدة تشكل خطوة أولى في اقتصاد رأسمالية الدولة، الذي تم اعتماده لتجاوز الأزمات التي خلّفتها الحرب العالمية الأولى.
بينما اقتصاد السوق الاجتماعي فإن تجلياته الأولى تعود إلى بداية العشرينيات من القرن الماضي وكان لماكس فيبر قصب السبق في وضع ملامحه الأولى في ألمانيا. ولاحقاً أكد لودفيغ ايرهارد بأن اقتصاد السوق الاجتماعي هو نظام سياسي اقتصادي يقف على قدم المساواة مع النظامين الاشتراكي والرأسمالي، ويقوم على: حرية تكون الأسعار ــ استقرار عرض النقود ــ المنافسة بدون احتكار ــ استقرار الملكية الخاصة ــ استقلال المشروعات الاقتصادية ومسؤوليتها ــ الدور المحدود للدولة... وقد كانت هناك محاولات لتطبيقه في ألمانيا في النصف الأول من القرن الماضي. وكان نشوء اقتصاد السوق الاجتماعي محاولة لمعالجة تداعيات الحرب أيضاً.
بينما جون ماينرد كينز فقد وضع أسس السياسية الكنزية مع دخول الاقتصاد الرأسمالي العالمي في أزمة الكساد العظيم (تضخم ركودي) (1929 ــ 1933) من خلال كتابه الشهير «النظرية العامة في الفائدة والنقود والتوظيف»، وكانت تقوم على: دور الدولة الحمائي، التشغيل العام لحل مشكلة البطالة، تحجيم حرية رأس المال وحرية التجارة التي تأسست على أفكار آدم سميث، وساي، التي تعتمد على قدرة السوق الخفية في التحكم بآليات العرض والطلب، وبأن الرأسمالية قادرة بفعل قوانينها الذاتية على ضبط آليات اشتغالها وتجاوز أزماتها... وقد حافظت حكومات بعض الدول الرأسمالية على تطبيق السياسة الكنزية التي تؤكد على دور الدولة الأساسي في إدارة الاقتصاد حتى الفورة النفطية الثانية (1979 ــ 1980) ليلمع آنذاك نجم المنظّر النيو ليبرالي ميلتون فريدمان الذي أعلن بداية نهاية دور الدولة التدخلي في السياسات الاقتصادية، وقد وضع حينها أسس التحوّل النيوليبرالي الذي تجلى بإطلاق الحرية لرأس المال، التحرير النقدي، تحرير التجارة، تحوّل شكل الإنتاج الرأسمالي من شكله الإنتاجي إلى شكله المالي والخدمي. وقد تبنّى الرئيس الأميركي رونالد ريغان، ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر توجهات ميلتون النظرية. وقد أسس هذا التحول للأزمة الاقتصادية في عام 2008.
وكان من نتائج الحرب العالمية الثانية أيضاً، إبرام معاهدة «بريتون وودز» عام 1946، التي ربطت الدولار بالذهب، واستمر العمل بها حتى إعلان الرئيس الأميركي نيكسون إلغاء العمل به في آب من عام 1971.
أما في سوريا فقد تعرضت لحصار اقتصادي خانق في عام 1986، عانى جراءه المواطن السوري ضائقة مادية كبيرة، أحد مستوياتها ندرة المواد في الأسواق. لكن الحكومة آنذاك حافظت على توفير المواد الأساسية والسلع الغذائية عبر منافذ بيع تابعة لها، مع إبقاء الأسعار ضمن حدودها الطبيعة. وهذا يتناقض مع الواقع الراهن الذي يتميز بعرض سلعي كبير يترافق مع ارتفاع مرعب للأسعار، وتراجع الدولة عن دورها في تأمين السلع الضرورية والأساسية الغذائية والطبية والدوائية، مع الإبقاء على حرية اشتغال التجار والمستوردين دون رقابة تذكر.
إن ظروف الحرب الراهنة، تضع على كاهل الحكومة والقيادات السورية العليا مسؤوليات كبيرة، قد يكون من أهمها وضع سياسات وآليات اقتصادية جديدة، تستطيع من خلالها تجاوز انعكاسات انهيار الاقتصاد السوري، الذي ينعكس بمزيد من الأزمات على الشعب السوري.
لقد بات واضحاً بأنه لم يعد يوجد مجال للاستمرار في تنفيذ سياسات الاقتصاد السوق الحر. وهذا يحدّ منه بطبيعة الحال الحصار الاقتصادي المفروض على سوريا، هروب الرساميل السورية، وتدمير البنى الإنتاجية. فالاقتصاد السوري بكليته يعاني من الانهيار والدمار. ومع هذا لم يزل الاحتكار وحرية رأس المال يعبّران عن شكل العلاقات الاقتصادية السائدة، وتحديداً التبادل التجاري السلعي. وهذا يساهم في ازدياد تفاقم الفقر والمجاعة، إضافة إلى اشتغال المضاربين على تصعيد أزمة صرف الليرة أمام الدولار في محولات متكررة للاستحواذ على أكبر كمية من الدولار الموجود في الأسواق، وأيضاً استنزاف البنك المركزي عبر صفقات استيراد وهمية.
إن الواقع الاقتصادي الراهن، وتمسّك الحكومة بذات السياسات والآليات الاقتصادية السابقة، وتأخرها عن وضع آليات مالية واقتصادية لمعالجة تجليات الواقع الاقتصادي والاجتماعي الجديد، يضع المجتمع أمام أزمة إنسانية شاملة وعميقة. فاللحظة الراهنة تفترض من الحكومة وأصحاب القرار اعتماد سياسات مالية ونقدية واقتصادية على درجة عالية من الجرأة والحسم، ويأتي في مقدمتها القطع مع سياسات التحرير الاقتصادي التي تضعها مؤسستي النقد والبنك الدوليتين.
ويجب ألا ننسى بأن الحرب الدائرة في سوريا وعليها، يزيد من عجز الجهات الرسمية المسؤولة عن اعتماد سياسات اقتصادية جديدة. فالصعوبات التي تواجه الحكومة في وضع آليات وسياسات اقتصادية، تتجلى في: خروج معظم الناتج النفطي عن سيطرة الحكومة، دمار القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية والخدمية، غياب الأمن على طرقات النقل البري الواصلة بين المحافظات. الحصار الاقتصادي. هيمنة التجار على مداخل ومخارج العمليات الإنتاجية والتبادلية. تفاقم معدلات التضخم. انخفاض معدلات الإنتاج. تراجع قيمة الليرة الشرائية. تفاقم ظاهرة المضاربة والاحتكار. جميع هذه العوامل تساهم في تراجع دور الدولة الاجتماعي. لكن هذا لا يعني تخلّي الحكومة عن المهام الملقاة على عاتقها، كونها مسؤولة أمام المواطن في ضمان استقرار أمنه الغذائي وأمنه العام. وهذا يؤكد على:
ــ ضرورة قيام الحكومة والجهات المعنية بضبط حركة التبادل التجاري الداخلي والخارجي ووضعها تحت رقابتها وإشرافها بشكل مباشر، وتحديداً (المواد الأولية الضرورية للصناعات الوطنية المرتبطة بالقطاعات الإنتاجية الغذائية والطبية).
ــ حماية الإنتاج الوطني من خلال إتباع سياسات حمائية صارمة.
ــ لضمان استقرار حياة المواطنين، يفترض العمل على فرض رقابة واسعة وعميقة على كافة قطاعات إنتاجية المواد الأساسية (الغذائية والطبية والدوائية).
ــ فرض رقابة صارمة على آليات إنتاج وتوزيع الخبز في الأفران الخاصة والعامة.
ــ ضمان الأمن الغذائي عن طريق زيادة دعم قطاع الزراعة والثروة الحيوانية، والاستمرار في تنفيذ المشاريع المائية والإنمائية.
ــ زيادة حجم الموازنة الاستثمارية وتوجيهها نحو المشاريع الإنتاجية الحيوية.
ــ مراقبة الأسواق والعمل على إصدار لائحة تسعريّة ملزمة، وفرض عقوبات رادعة بحق المخالفين ومن يحتكر المواد والسلع الأساسية ويتحكم بأسعارها وآليات عرضها.
ــ فرض عقوبات رادعة بحق المضاربين والمتلاعبين بسعر صرف الليرة السورية.
ــ إغلاق محلات الصيارفة غير المرخصة، وملاحقة المتهربين، والذين ما زالوا يمارسون ذات المهنة في الخفاء، وتحويلهم إلى القضاء.
ــ وضع سياسات ضريبية جديدة تراعي أوضاع الفئات الشعبية وأصحاب الدخل المحدود والشرائح الأكثر فقراً.
ــ الإشراف على القطاعات الإنتاجية الخاصة، وتوظيفها بما يتلاءم مع ضمان استقرار أمن المواطن المعاشي،والحفاظ على تحفيز القطاع الخاص المنتج على المساهمة في عملية التنمية.
ــ اعتماد سياسات تشغيل عامة تستوعب أكبر عدد ممكن من العاطلين من العمل، وضمان مبدأ الرعاية الاجتماعية.
ــ فرض ضرائب تصاعدية على حركة تبادل العملات.
ــ تنتشر في الآونة الأخيرة مظاهر الخطف والتشليح وانتهاك حرمة المواطن وكرامته وسرقة ممتلكاته، وبشكل خاص في مناطق الصراع، وعلى غالبية الحواجز. وهذا يستدعي وضع حد لكافة أشكال التجاوزات والانتهاكات وتقدم المرتكبين للمحاكم المختصة.
في الختام نوجز بعض المهام الملحّة: فرض رقابة وإشراف حكومي كامل على مداخل ومخارج الاقتصاد السوري، مع ضمان تقديم المقصرين والمخالفين للجهات القضائية المختصة. إعادة الدور الحمائي للدولة. التشغيل العام لحل مشكلة البطالة. تحجيم حرية حركة رأس المال وحرية التجارة. ضمان استقرار عرض النقود. المنافسة بدون احتكار. ضمان استقرار الملكية الخاصة. توظيف القطاع الخاص الإنتاجي لضمان استقرار أمن المواطن الغذائي. المحافظة على اقتصاد رأسمالية الدولة لكن بطابع ديمقراطي.
* باحث وكاتب سوري