يحار المرء في كيفية تعاطي القوى السياسية التقليدية مع الحرب القائمة هنا. فبينما تتعامل معها المعارضات المختلفة (وخصوصاً هيئة التنسيق) بمنطق سياسوي ينهض على فكرة التسوية وحدها، تتصرّف القوى المافياوية التي بيدها الأمر على أساس أنّ الحرب غنيمة لا يمكن تفويتها. النظام أيضاً يعتبرها كذلك، ولو بدا أنّه «يتصرّف كدولة» لا كطرف في الحرب، لكن حتّى لو فعل ــ أي تصرّف كدولة ــ سيبقى مساهماً أساسياً في عملية إذكاء الحرب وإدارتها اقتصادياً. بالأساس لا يمكن التصرّف بخلاف ذلك، فالدولة هنا تتماهى مع السلطة المافياوية في عملية الإدارة ولا تنفصل عنها إلا عند الضرورة، بمعنى أنّها تسخّر أدواتها كافة في تنظيم الحرب وجعلها تعود على السلطة بما يكفي لإبقائها قائمة، ولا تنصرف إلى مهمّتها المؤسّساتية إلا حينما تأمرها السلطة بإعادة توزيع الفائض على «المناطق الخاضعة لها». لنقل إنّ السلطة توسّع «الجباية» من الناس بحيث تصبح شاملة لكلّ العمليات التي طرأت على الاقتصاد بعد انتقاله من ضفّة إلى أخرى، بما فيها عمليات النهب المباشر التي تحصل على الحواجز وداخل بيئات المعارضة الجاري اخضاعها. لا تدخل رواتب الموظّفين والعاملين في مؤسّسات الدولة مباشرة في هذه العملية، فالضرائب المحصّلة من المواطنين لا تزال تصبّ في خزينة الدولة، وهي تسهم إلى جانب التدفّق النقدي من الحلفاء في الخارج (وخصوصاً إيران) في توفير الكتلة النقدية المخصّصة للرواتب والأجور.
أصبح لدينا بالتالي بنية اقتصادية معقّدة لا تقوم فقط على أساس التبادل التجاري الاعتيادي أو معادلة ضرائب مقابل أجور، فإلى جانب قوى الحرب وما تفعله بالاقتصاد ثمّة سلطة تتصرّف على هواها، فمرّة تنهب الناس لكي لا تبدو كدولة فقط (يهمّ السلطة كثيراً في هذه الظروف أن تتصرّف كأزعر الحي أو كأزعر بين زعران يتصارعون على الهيبة)، ومرّة أخرى تموّل احتياجاتهم حتّى تكسب ولاءهم وتؤجّل انفضاضهم عنها قدر الإمكان. هذا التوزيع الذي يقوم به النظام يساعده على التحكّم بمجريات الأمور أكثر بكثير من الآخرين، فهو يعلم أنّ الحرب عملية اقتصادية بالدرجة الأولى، وقد اختبرها بالممارسة وابتزاز الأعداء والخصوم، وهذه خبرة لا تتوافر لكثير من فصائل المعارضة التي «تتهافت على التسوية» بأيّ ثمن كان. هؤلاء يعتمدون في استعجالهم الأمر على رصيدهم الأخلاقي، وكذا على عدم انخراطهم في الحرب من موقع التبعية والإذعان للمموّلين الخارجيين (السعودية، قطر، إيران... إلخ). في حالة مثل سوريا تصبح مقاربات مماثلة ساذجة في أفضل الأحوال، فالمعاندة التي تبديها السعودية مثلاً للتسوية المرتقبة لا تأتي من فراغ، إذ تستند إلى دورة اقتصادية عملت هي ومسلّحوها داخل البلد على تثبيتها بعدما توقّفت السلطة عن تمويل احتياجات البيئات الاجتماعية المعارضة والمنتفضة ضدّها.
بإمكان المعارضة أن تزعم العكس، وتقول بإمكانية تأثير الغرب على السعودية لإقفال حنفية تمويل الحرب، إلا أنّ ذلك يحتاج إلى آليّة واقعية تفكّك سيطرة القوى المتسعودة على البيئات تلك. وهو أمر مستبعد في ظلّ الاحتضان الاجتماعي الذي يلقاه المسلحون المحلّيون من السكّان والأهالي هناك. لنتذكّر فقط أنّ منطقة مثل الغوطة الشرقية تقبع منذ أشهر داخل حصار يفرضه النظام عليها، ولا يسمح بموجبه بأيّ تبادل معها. لا سلع تدخل إلى هناك أو تخرج منها، فقط المدنيون يسمح لهم بالخروج، وغالباً ما ينقل هؤلاء خبراتهم الاقتصادية والإنتاجية إلى بيئات آمنة (غالباً ما تكون موالية)، وهذه بدورها تستفيد من قدوم وافدين جدد لتوسّع الدورة الاقتصادية الخاصّة بها. وكلّ ذلك يصبّ في النهاية في مصلحة السلطة التي تحاصر منطقة هنا، لتحصد بعد إخراج قواها الانتاجية مالاً وفيراً هناك. الأمر الذي يزيد من نقمة البيئات المحاصرة ومن تصميمها على إيجاد «بدائل» لا تتوافر حالياً إلّا من خلال التمويل السعودي والنفطي عموماً للقوى المحلّية والتكفيرية هناك. طبعاً هذه القوى تصرّفت كما تتصرّف أيّ سلطة في حالة حرب، بمعنى أنّها استفادت من الأموال التي تأتيها في تحصين «بنيتها العسكرية»، ثم تصرّفت بالباقي وفقاً لما تمليه «احتياجات بيئتها».
هكذا فعل النظام أيضاً، ولكن في حالة المعارضة تصبح الهواجس أكبر تجاه التدوير الذي يحصل للأموال، فهناك قامت «الثورة» لكي توقف النهب الذي يمارسه النظام المافياوي وتحدّ من فتكه بالأطراف. هذا ما يجب أن يحصل في حالة الثورة، غير أنّ الوضع على الأرض كان مختلفاً، إذ كما بيّنت سابقاً الكتلة النقدية الآتية من الخليج لا توضع في تصرّف المعارضة لكي تموّل بها حربها ضد النظام فحسب، بل لأجل أن يحرم الفقراء من الاستفادة منها أيضاً. هذه سياسة عامّة لتلك المستعمرات، وليست خاصّة بالنظام في سوريا فقط. فقد فعلوا ذلك سابقاً في أفغانستان وباكستان، وسيستمرّون في فعله في أيّ مكان تظهر فيه قوى مستعدّة للامتثال لأجندتهم المتنوعة: مزيج من الانحياز الطبقي والبطريركية القروسطية والطائفية الوظيفية والنيوكولونيالية.
لنتصوّر أنّ جهة مختلفة هي التي كانت تموّل «الثورة» في سوريا، وخصوصا في مناطق مثل الغوطة كيف كان سيبدو التعاطي مع طبقات المجتمع حينها؟ في الثورات عادة تكون حصّة المسحوقين والمهمّشين من الثروة ــ بعد تحديدها و«مصادرتها من الأغنياء» وتوزيعها على الشعب كما فعل عبد الناصر حين أقرّ قانون الإصلاح الزراعي ــ أكبر من غيرها، فهم يساهمون بفاعلية في «الأعمال القتالية» أو في تشغيل المعامل والمصانع التي تتسبّب الحرب ــ أو الثورة ــ بإيقافها، وإذا أضيف إلى مساهمتهم إسهام النساء وكدّهن تصبح القاعدة الاجتماعية للثورة أوسع بكثير، ويغدو بالإمكان مدّ رقعتها باستمرار مع كلّ دخول جديد إليها من جانب الشعب وفئاته المختلفة. حصل هذا الأمر في الجزائر ومصر وفلسطين واليمن وعمان والعراق أيّام المدّين الناصري والشيوعي، ولم يتوقّف إلا حين بدأت السعودية بضخّ الأموال لإجهاضه وإبعاده عن حدود الجزيرة العربية.
كان بإمكان المعارضة هنا أن تقدّم نموذجاً مختلفاً للناس لو لم تلجأ إلى السعودية كخيار وحيد وفعلي. قطر بهذا المعنى هي تفصيل ولزوم ما لا يلزم، وقد لمسنا ذلك ملمس اليد، إذ لم يبق لها على الأرض حالياً ما يعينها على بناء مستوصف حتّى. كلّ الشبكات المالية التي أقامتها في الفترة الماضية انهارت في ظرف أقلّ من شهرين، ولا نعرف حتّى الآن مصير الباقي منها، وهذه إشارة إضافية على انعدام قدرتها على التأثير اقتصادياً (وبالتالي سياسياً) خارج قنوات الريع المباشر (لهذا يقال عنها إنّها فقاعة مالية أو مجرّد صندوق من صناديق الخليج المالية).
السعودية بخلاف قطر تملك التأثير خارج القنوات المالية، ولهذا استطاعت السيطرة اقتصادياً على مناطق النفوذ القطرية والتركية داخل سوريا، وهي الآن تحارب لتثبيت هذا النفوذ وتدعيمه مالياً. بصراحة أيضاً لا يملك المحاصرون داخل مناطق المعارضة أن يرفضوا ما تقدّمه لهم السعودية، «فلولاً دعمها لماتوا جوعاً»، بحسب ما يقولون. ومسألة الفناء من عدمه لا تنفي وجود التناقضات التي بيّناها أعلاه، ولكنها تؤجّل انفجارها، وتدفع بالأمر إلى ستاتيكو شبيه بما يفعله النظام في أماكن سيطرته. فالسلطة هنا لم تعد تحوز التأييد ذاته الذي كانت تحظى به سابقاً، ولولا جرائم المعارضة وتقتيلها البشع للناس لانفضّت «قطاعات عريضة» عن النظام. تحدّثنا سابقاً عن ابتزاز السلطة للمجتمع بفكرة الدولة والخدمات، وهذا ينطبق على البيئات المعارضة كما على الموالية. يمكن اعتباره كذلك جزءاً من الأدوات التي تستعملها السلطة كي لا تظهر بمظهرها الفعلي أثناء الحرب، بمعنى أنّها تفضّل تعامل الناس معها على أنّها دولة ترعى الجميع لا سلطة تفرّقهم وتعتاش على اقتتالهم ونهبهم. والحال أنّها كذلك بمقدار معيّن هو مقدار تماثلها مع باقي أمراء الحرب ومجرميها. في الحرب التي نعيشها يستوي المجرمون من كلّ الأطراف، وهذا ليس انتقاصاً من قدر البيئة التي تقاوم السلطة، إذ إنّ هذه الأخيرة تقاوم في مكان، وتفعل العكس في مكان آخر. بالأساس تحصل المقاومة لأنّ الكتلة المالية الموضوعة في التصرّف ليست مخصّصة لأمر آخر غير هدم السلطة واقتصادها.
لا يعنى من يقوم بالهدم بالتواصل القائم بين المدن والأرياف، ولا ينظر أصلاً إلى الأمر من زاوية أنّ هنالك دولة يجب أن تبقى قائمة لتوفير احتياجات من تبقّى من معارضين وموالين. قرأت منذ فترة تحليلاً يؤوّل استهداف جيران الغوطة بالهاون اقتصادياً، فيقول إنّ «المناطق الموالية» هناك تنتج يومياً ما يوازي تسعة ملايين دولار، وخصوصاً بعد نزوح معظم الورش والمعامل الصغيرة الموجودة في الريف إليها. بحسب التحليل تصبح الغاية من القصف بالهاون تعطيل الكتلة النقدية المتداولة هناك ومنعها من إحداث التراكم المطلوب، وهذا يعني ببساطة معاودة تهميش القوى العاملة التي أخرجها حصار النظام من الغوطة وجوارها.
قد لا يكون هذا التحليل دقيقاً، ولكنه بالتأكيد يطرح أسئلة فعلية عن المنهج الذي تتعامل به المعارضة مع الواقع المراد تغييره. نعرف مثلاً أنّ النظام ينتهج تجاه البيئة الاقتصادية في ريف دمشق سياسة تدميرية شاملة، وهو يعلم أنّ إخراج الورش والكتلة العمّالية من هناك سيصبّ في مصلحته أخيراً، كما سيزيد من قدرته على إمساك الناس اقتصادياً، غير أنّنا لا نعرف الكثير عمّا تريد المعارضة فعله اقتصادياً.
في النهاية لا يمكنها الاستمرار في تأجيل الأسئلة المتعلّقة بحياة الناس وتواصلهم مع الآخرين إلى الآبد. لقد فعلت ذلك «بنجاح» حتّى الآن مستفيدة من السياسات الفاشية للنظام، إلا أنّها ستجد نفسها قريباً أمام واقع يتغيّر باستمرار، ويفرز في كلّ مرة قوى جديدة تريد أن تعمل وتقاوم فناءها. الريع النفطي لا يوفّر لها ذلك، بإمكانه طبعاً أن «يقوّض النظام» الذي يحاصرها ويموّل الحرب ضده، لكنه لا يصلح لبناء اقتصاد سياسي بديل. الناس هنا باتت تعرف أنّ الحرب طويلة، وبالتالي لم يعد أمامهم من خيار إلا التكيّف معها. هذا لن يحصل بالنزوح وحده، وإنّما بالحفاظ على بيئات صالحة للعيش واستيعاب أكبر قدر ممكن من البشر.
هكذا، يصبح ممكناً الحديث عن تشغيل لهؤلاء، فالحياة خارج البيئة الأصلية تحتاج إلى مصاريف كبيرة، وهذا لن يكون بغير الحصول على عمل. طبعاً الفرص الآن غير متوافرة كثيراً، ولكنّها موجودة بحكم الواقع الذي أملته الحرب. فهذه الأخيرة لم تفرض علينا فقط أن نعمل بأجر لدى ميليشياتها.
كما قلت هذا عمل لا يمكنه الاستمرار طويلاً، فهو خارج أيّ مقياس ممكن للنشاط الاقتصادي، وهو فضلاً عن ذلك قائم على القطيعة والاحتراب المتواصل، بينما الاقتصاد تبادل بالدرجة الأولى، وتواصل بين أفراد تجمعهم منفعة مشتركة. هذه بالنسبة إليّ على الأقلّ ألف باء الاقتصاد السياسي، ولكن لا يبدو أنّ هنالك من يهتمّ بها على الإطلاق. حتّى المعارضة الوطنية التي تمتلك قواعد شعبية في الغوطة وغيرها لا يعنيها أن تفاوض انطلاقاً من حقائق مماثلة. لهؤلاء أقول مرّة أخرى: السياسة بحاجة أحياناً إلى «معجم طبقي»، هكذا علّمنا الخواجة ماركس.
* كاتب سوري