سلسلة من المواقف صدرت عن أطراف من المعارضة السورية، السياسية والعسكريّة (الجهادية)، تصبّ جميعها في اتّجاه واحد: سحب «الشرعيّة» من «ائتلاف قوى المعارضة والثورة». اتّهامات وانسحابات وفضائح فساد مالي وإداري في أروقة تكتّل سياسي هجين، يصرّ بعض المتدخّلين في الأزمة السوريّة على وصفه بـ«الممثل الشرعي لتطلعات الشعب السوري»!
فاتحة تلك المواقف جاءت مع «البيان الرقم 1»، الذي وقّعته ثلاث عشرة جماعة إسلامية تقاتل في سوريا، أبرزها «جبهة النصرة»، «حركة أحرار الشام الإسلامية»، «لواء التوحيد»، و«لواء الإسلام». أعلن أصحاب البيان رفضهم الاعتراف بالحكومة التابعة لائتلاف المعارضة السورية، المزمع تأليفها برئاسة أحمد طعمة، وممّا جاء فيه أنّ كل ما يصدر عن الائتلاف غير ملزم للموقّعين، كما دعا البيان كافة القوى المدنية والعسكرية إلى التوحّد ضمن «إطار إسلامي واضح» وإلى «تحكيم الشريعة» واعتبارها «المصدر الوحيد للتشريع». وبالفعل لم يطل الأمر حتّى أُعلن إنشاء «جيش الإسلام»، واليوم يتحدّث أحد «رموز» المعارضة، وهو ليبراليٌّ سابق، عن «مجلس إسلامي» يمثل «الثورة» ويقودها.
ليست المرة الأولى التي يصدر فيها بيان من هذا النوع. قبل نحو عام، وفي ردّ فعل على إنشاء «ائتلاف قوى المعارضة والثورة»، أعلنت كتائب ومجموعات إسلامية مسلّحة منتشرة في مناطق حلب وريفها، في بيان مصوّر بُثّ في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، رفضها الاعتراف بالائتلاف الناشئ، وبلغ الأمر حدّ اتّهام الائتلاف بالعمالة للغرب و«بالتآمر على الثورة». لم يقتصر البيان على ذلك، إذ أعلن الموقعون، حينها، تأسيس «دولة إسلاميّة عادلة» في مناطق حلب وريفها. وإنّ من بين من أصدروا «البيان الرقم 1»، جماعات سبق لها أن شاركت في بيان تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 الآنف الذكر، وفي مقدّمتها «جبهة النصرة»، و«لواء التوحيد»، و«أحرار الشام».
لم يكترث الائتلاف المعارض للأمر في ذلك الحين، ولا يبدو أنّه معنيّ اليوم بالرد الجدّي على هذا الموقف الصريح المناهض له والطاعن في شرعيته، وما قيل عن لقاءات ومفاوضات بين رئيسه الجربا وكبرى المجموعات المشاركة لن يُصلح ما أفسدته إرادات المموّلين، وتعارض مصالحهم.
ليس خافياً أنّ خصوم الائتلاف الجدد هم (إلى جانب داعش) من يملكون السيطرة الفعلية على الأرض، في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، أو ما يحلو للبعض تسميتها «المناطق المحررة». المفارقة أنّها المناطق عينها التي يُفترض بحكومة أحمد طعمة أن تُباشر العمل فيها والإشراف عليها، فيما لو قيّض له النجاح في تأليفها، ولم يلق مصير سلفه غسان هيتو، وحكومته التي لم تر النور.
يبدو أنّ الشرخ يزداد بين المستوى السياسي للمعارضة المنضوية في الائتلاف، والقوى المسلّحة الفاعلة ميدانيّاً على الأرض. لن يكون من اليسير على الائتلاف تجاهل هؤلاء فيما لو أراد أن يستعيد شيئاً من «التمثيل الشرعي» الذي يدّعيه. يُستبعد أن يفرض خياراته السياسيّة عليهم بالقوة، وخصوصاً أنّ «الجيش الحر»، الذي يُفترض أنّه الذراع العسكرية للائتلاف، لم يعد العنوان الأبرز للـمعارضة المسلّحة في سوريا، إذ فشل في أن يكون مظلة جامعة لمختلف الكتائب والألوية المسلّحة، كما أنّ تنامي دور الحركات الجهادية، المحلّية منها أو تلك المرتبطة بـ«الجهاد العالمي» وتنظيم «القاعدة»، خلط الأوراق أكثر فأكثر، وزاد من تعقيدات المشهد الميداني، المعقّد أصلاً.
يبدو أنّ تهديدات جدّية تواجه مستقبل الائتلاف وهو لم يُنهِ عامه الأول بعد. ذلك أنّه، إضافةً إلى المواجهات بين «الجيش الحر» وجماعات القاعدة في بعض المناطق، وبين الأخيرة وغيرها من التنظيمات الجهادية، ودون الدخول في التقليل أو التهويل من دور «القاعدة» ومستقبلها في سوريا، بات من المؤكّد أنّ ثمة مشروعين متعارضين، ولا يمكن التوفيق بينهما، يحولان دون نجاح الائتلاف في بلورة موقف موحّد يجعله طرفاً سياسيّاً وازناً في معادلة حلّ الأزمة. الأول، ما يعلنه الائتلاف من السعي إلى إقامة دولة مدنية تعددية (يتحاشى رموز الائتلاف لفظة «ديمقراطية»، وآخر الأمثلة خطاب أحمد طعمة بعد تكليفه تأليف الحكومة)، ورغم ضبابية المقصود بـ«مدنية» غير أنّ «الائتلافيين» يؤكّدون أنّها لن تكون دينية أو عسكريّة.
وأمّا المشروع الثاني، فقد ورد بعض منه في «البيان الرقم 1»، وهو ما يعلنه أصحابه صراحة: حدّه الأدنى يتمثّل في «تحكيم الشريعة» واعتبارها المصدر الوحيد للتشريع. يريده البعض في صيغة «دولة إسلامية عادلة»، فضلاً عن حلم «الخلافة الإسلامية» الذي يدغدغ أذهان البعض، ولا يخلو الائتلاف ولا «المجلس الوطني» من مكوّنات رئيسية فيهما ليست بعيدة عن هذا
المنحى.
وفي وقت لا يبدو فيه المشروع الأول مُتاحاً مع استمرار الحرب، فإنّ المشروع الثاني قد بوشر تنفيذه عملياً في المناطق الخاضعة لسيطرة دُعاته، من خلال سلطة «الهيئات الشرعية»، وفرض التعليم الديني، والمحاكم التي يديرها أشخاص لا علاقة لهم بالقانون، ولم يتلقّوا أي تأهيل قضائي، وإنّما «يحكمون بالشريعة»!
ومع عودة الحديث عن «جنيف 2» وإمكانية الوصول إلى حلّ سياسي، بالاستفادة من «التسوية الكيميائية» والتفاهم الروسي/ الأميركي حولها، يبدو أنّ المفاوضات بين المعارضة والنظام تكاد تكون أمراً لا مفرّ منه، ما يطرح تساؤلات عن الحجم الحقيقي للائتلاف، وقدرته على أداء دور مفاوض رئيسي في أيّ خطة لتسوية سياسية تنهي العنف، وتضع أسس المرحلة الانتقالية، وخصوصاً مع تآكل شرعيّته المفترضة، التي لطالما تغّنى بها هو ومن يقف وراءه.
وإذا وقعت المعجزة وأمكن التوصّل إلى اتّفاق عبر التفاوض، كيف سيتمكّن الائتلاف من ترجمة الالتزامات السياسية الناجمة عن عملية التفاوض إلى أفعال ملموسة، يُفترض تطبيقها على أرضٍ وخطوط تماسّ وجبهات، يسيطر عليها من لا يعترفون له بوصاية أو تمثيل أو شرعيّة، ويُعلنون جهاراً نهاراً رفضهم لأية عملية سياسية، أو لحكم «بغير ما أنزل الله»؟!
* كاتب سوري