لَزوالُ الدنيا أهونُ على الله عزَّ وجلَّ من سفكِ دمِ مسلمٍ بغيرِ حقٍّ (حديثٌ نبوي) **
يمكن اعتبار «التتريس» و«الانغماس في الصف» من أهم وأخطر العناوين والاصطلاحات المتداولة في الأدبيات السلفية الجهادية المعاصرة، على قلة ذيوعهما في الكتابات غير السلفية، وخصوصاً في المقاربات التي عالجت موضوع الأحكام الشرعية «الدينية» التي تبيح أو تحظر أو تتحفظ على العمليات المسلحة الانتحارية كما يسميها الرافضون لها، أو «الاستشهادية» كما يسميها الداعون إلى القيام بها والمؤيدون لهم.

كلمة تتريس، لغةً، هي اشتقاق على زنة تفعيل من «تِرس» وهو الدرع، أما اصطلاحاً فهو مرادف للاصطلاح العسكري الحديث، والذي يُكْثِر جيشُ العدو الإسرائيلي من استعماله وتطبيقه في حروبه العدوانية، «الدروع البشرية»، ويعني أنْ تحيط قوة عسكرية مسلحة نفسها بعدد من المدنيين العُزل من أهل المنطقة التي تقاتل فيها لتتجنب استهدافها من قبل المقاومين المسلحين والمعادين لها في تلك المنطقة. هذا هو المعنى العام للاصطلاح، أما معناه الحصري في الأدبيات السلفية فيقترب من هذا المعنى، ولكن مع عدم اشتراط كونه مقصوداً ومخططاً له من قبل القوة المتدرعة بالبشر «المتترسة». فمن وجهة نظر السلفيين الآخذين بالتتريس والانغماس، إنّ مجرد وجود قوات العدو في مناطق المدنيين المسلمين سيجعلها حكماً وواقعاً مُتترسة، وعلى هذا يجوز الانغماس بين صفوف المسلمين المدنيين بهدف ضرب تلك القوة المتترسة واستهدافها بالسلاح. والخلاف ليس هنا تحديداً، بل في الإجابة عن السؤال المركزي والمهم في هذا الموضوع الذي يقول: ما حكم المسلمين الذين قد يقتلون أو يصابون أو يتضررون مادياً خلال عملية استهداف العدو المتترس؟ لا خلاف كبيراً وعميقاً بين جميع التيارات والجماعات السلفية على جواز استهداف العدو المحتل في المناطق التي يقيم فيها المدنيون المسلمون، لأن هذا هو واقع الحال كما يقولون، ولهذا فإنّ استهدافهم في هذا المكان أو في غيره جائز ومشروع مع توخي الحيطة والحذر حتى لا يُصاب المدنيون بضرر أو أذى. ولكنّ الخلاف يبرز بقوة، كما قلنا، حين نناقش موضوع القيام بعمليات انتحارية تستعمل فيها كميات ضخمة من المتفجرات في سيارات أو أحزمة ناسفة ملغمة بمواد حديثة شديدة الانفجار من نوع (سي فور C4)، ومع تفجيرها يكون احتمال سقوط قتلى وجرحى من المدنيين المسلمين حتمياً ولا يمكن تفاديه؟ فما هو الموقف من كون المنتحر سيقتل نفسه وعدداً من المسلمين الأبرياء عن سابق قصد وتصميم بذريعة أنه سيقتل معهم عدداً من أفراد العدو؟ هنا تتوزع التيارات السلفية وشيوخها، وسواء كانت جهادية أو غير جهادية، إلى قسمين رئيسيين هما:
ــــ هناك من يرى أنّ هذه الأعمال والعمليات غير شرعية دينياً، ويعتبرها قتلاً للنفس الإنسانية التي حرَّم الله قتلها، سواء لجهة من يقوم بها، أي المنتحر، أو لجهة ضحاياها من الأبرياء المدنيين، ويدعو إلى تجنبها. وأصحاب هذا الرأي يستندون في رأيهم إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية عديدة وصريحة في نهيها عن الانتحار وبإطلاق القول، لعلّ من أبرزها الآية القرآنية «ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق»، الأنعام:151، والآية «ولا تقتلوا أنفسكم، إنّ الله كان بكم رحيماً»، النساء:29. أما الأحاديث النبوية التي تنهى عن الانتحار فكثيرة ومنها حديث مشهور للنبي نصه «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها يطعن بها نفسه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً». وهناك حديث قدسي، نصه: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بادَرَني عَبْدي بِنفْسِه، فحَرّمْتُ عليه الجنة». كذلك هناك العديد من شيوخ السلفية الذين يمثلون هذا التيار، من أبرزهم العلّامة عبد العزيز الراجحي، وتُنسب آراء رافضة لهذه العمليات إلى الشيخ الألباني والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، وقد ميزنا الراجحي لأننا نمتلك تسجيلاً واضحاً بصوته، فيما كانت التسجيلات للشيوخ الآخرين الموجودة على النت قد تم ضربها وتدمير محتواها من قبل السلفيين الانتحاريين على الأرجح، ونُسبت إليهم مواقف أخرى معاكسة، وسنقف عند هذه الآراء مفصلاً في مناقشتنا لشرعية العمليات «الاستشهادية» من عدمها ضمن عنوان آخر.
وهناك من يرى فيها عمليات «استشهادية» لا غبار عليها، بدليل نية القائم بها، وهي الاستشهاد في سبيل الله وليس الانتحار، ولأن سقوط قتلى من المدنيين أمر لا مفر منه في كل الأحوال. ومن السلفيين الانتحاريين المغالين من يذهب بعيداً فيوكل إلى الله يوم القيامة الفصل بين القتلى فإن كانوا أبرياء أدخلهم الجنة كشهداء وإلا كان العكس، أو اعتبار من يقتل أسارى المسلمين في حالة التتريس مجاهداً وقتلاه شهداء، مثلما قال الشيخ السوري علي الشحود (وأجاز أكثر أهل العلم قتل أسارى المسلمين إذا تترس بهم الكفار ولم يندفع شر الكفرة وضررهم إلا بقتل الأسارى من إخواننا، فيصبح القاتل مجاهداً مأجوراً والمقتول شهيداً). ويمكن اعتبار أحمد الخلايلة «الزرقاوي» ممثلاً لهذا التيار، ويضاف إليه الكويتي د. عجيل جاسم النشمي، عميد كلية الشريعة في الكويت، وآخرون. ونسجل، إننا قصرنا كلامنا هنا على ما يتعلق بقتال السلفيين الجهاديين للغزاة الأجانب غير المسلمين في بلدان المسلمين، ولم نخض في موضوع اعتبار بعض التيارات السلفية الجهادية لأنظمة حكم في بلدان إسلامية اعتبرها الانتحاريون المغالون في حكم العدو الغازي الذي تجب محاربته مثلما تجب محاربة الغازي الأجنبي، وهذا موضوع آخر ومختلف عما نحن في صدده.
هناك رأي ثالث، هو في الحقيقة متفرع عن الرأي الثاني الذي يمثله البرقاوي والنشمي وآخرين، ويقول هذا الرأي بشرعية العمليات «الاستشهادية» ضد العدو المتترس بين المسلمين، لكن مع توخي الحيطة والحذر الشديدين، وبعدم جوازها إذا كان هناك احتمال أكيد بسقوط ضحايا بين المدنيين الأبرياء ويأخذ بهذا الرأي ويدافع عنه الشيخ عصام البرقاوي «أبو محمد المقدسي»، وهو أستاذ الزرقاوي وشيخه، وقد اختلف معه قبل مقتله وخرج الخلاف إلى العلن، وسنتوقف عند أهم مفاصل هذا الخلاف في مناسبة أخرى.
أما «الانغماس في الصف»، ويرد أحياناً في أدبيات التراث الإسلامي القديم والكتابات السلفية المعاصرة بعبارة «حمل الواحد على العدو الكثير» أو «التغرير بالنفس» وهما عبارتان أقل أهمية من الأخرى «التتريس»، أو لنقل إنهما يتكاملان معها عملياً. والانغماس اصطلاحاً يعني تسلل أو انغماس المقاتل الانتحاري، سواء كان مسلحاً بسيارة مفخخة أو بحزام ناسف أو بكليهما بين صفوف ومناطق وجود المسلمين بهدف الوصول إلى مقاتلي وآليات ومؤسسات العدو، بعد أن يتنكر المنغمس جيداً، ثم يفجر نفسه وما معه في وسطهم أو داخل مقارّهم أو وسائط نقلهم. ويمكن اعتبار هذا المصطلح متعلقاً بالجانب العملي لمصطلح التتريس أو مفهومه، فإنْ جاز الأول واعتبر مشروعاً من وجهة نظر بعض السلفيين جاز الثاني والعكس صحيح.
إن الكتابات السلفية المعاصرة تدمج بين هذا المفهوم الحديث للانغماس وبين خلفيته التاريخية في عصر صدر الإسلام؛ وهم يحتجون بحادثة اقتحام هشام بن عامر لصفوف جيش الروم في معركة جرت قرب القسطنطينية، حينها هجم بمفرده فارساً على صفوف العدو وقاتل حتى قتل، فقرأ أبو هريرة الآية التي تقول: «ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، البقرة: 207، فاعتُبرت الحادثةُ وما قاله أبو هريرة تفسيراً عملياً لهذه الآية، وعوملت كحادثة هجوم انتحاري مع أنها لا يمكن أن توصف بهذا الوصف. فأولاً، لم ينغمس المهاجم هشام بن عامر في هذه الحادثة في مناطق إقامة المسلمين المدنيين الأبرياء والعزل بل في جيش العدو. وثانياً، هو لم يكن يريد الانتحار حتى لو بقي له أمل ضئيل في النجاة لا يتجاوز الواحد بالمئة بحكم نوع وطبيعة أسلحة ومعارك ذلك العصر. لقد قام المقاتل المسلم هشام بن عامر هنا بعملية اقتحام، خلال مواجهة بين جيشين، في معارك كانت تبدأ عادة بالمبارزات الثنائية، ويمكن خلالها أنْ تحدث أحداث خاصة وفردية كأن تجمح فرسٌ بفارسها أو ينتاب الفارس عارض صحي أو نفسي ما، كما مرَّ بنا في مناقشتنا لحالة الصحابي البراء بن مالك في مناسبة سابقة («الأخبار»، عدد 2117 في 30 أيلول 2013) وقد حللنا الحوادث التي جرت له أو قام هو بها بهدف تبرئته من فعل الانتحار.
وهناك أيضاً حادثة مشهورة ومشابهة لما نحن بصدده في التراث الإسلامي، وتتعلق بصحابي آخر هو عامر بن الأكوع، ومفادها أن هذا الصحابي شارك في غزوة خيبر، واشتبك مع أحد المقاتلين اليهود في مبارزة ثنائية بالسيف. وخلال المبارزة ارتد سيف عامر عليه فبتر ساقه ومات متأثراً بجرحه، فقال بعض الصحابة «بَطَلَ جهادُهُ»، وقال آخرون «حُبِطَ عمله»، ومعنى كلامهم أنه منتحر وليس مجاهداً أو شهيداً، فكان رد النبي العربي الكريم عليهم معاكساً، فقد قال: «مَن قال ذلك أشكل عليه الأمرُ... إنه جاهد مجاهد، وإنه ليعومُ في الجنة عَومَ الدعموس». وفي رواية أخرى لهذا الحديث، سُئل النبي عن الصحابي عامر بن الأكوع: «يا رسول الله: أشهيد هو؟ قال: نعم، وأنا له شهيد». ونرجح صيغة الرواية الأولى للحديث على الثانية، لأن مفردة «شهيد» بمعناها المعاصر، لم تكن قد تكرست بعد كاصطلاح قائم بذاته ومعناه، وربما كان قد تكرس أو بدأ تكرسه في أواخر العهد الأموي تقريباً. واللافت أنّ السلفيين الانتحاريين يحتجون بحادثة الصحابي ابن الأكوع للدلالة على أنّ من قتل نفسه دون قصد الانتحار يمكن أنْ يكون شهيداً مجاهداً، ولكن سلفيين آخرين يعتبرونها دليلاً قوياً على موقفهم الرافض للانتحار في ضوء الاعتبارات الآتية:
ــــ إن الصحابي ابن الأكوع كان مشتبكاً في مبارزة ثنائية وليس مُقْدِماً على الانتحار أو مبيتاً للنية عليه مع سابق القصد والتصميم، ولكنه ارتكب خطأً فنياً خلال الاشتباك.
ــــ إن وجود عدد من الصحابة الذين شهدوا الواقعة، اعتبروا ابن الأكوع منتحراً، وجردوه من شرف الجهاد والشهادة لولا تدخل النبي، وهذا يعني أنّ الرأي العام الإسلامي عهد ذاك كان ضد الانتحار بالمطلق، وأنّ تدخل النبي لم يكن بهدف إجازة الانتحار وتسويغه، بل بهدف إزالة الإشكال بدليل قوله «إنما أشكل الأمرُ عليه»، أي على القائل بانتحار عامر، وتوضيح أنّ عامراً لا يعتبر منتحراً، بل مقاتلاً ارتكب خطأً فاستُشهد، وصدق رسول الله.
خلاصة القول، أنّ التتريس والانغماس شأنهما شأن الكثير من المصطلحات والعبارات المستحدثة أو المُعَصْرَنة تشكل جزءاً وطيداً من بنية الخطاب السلفي الجهادي بنوعيه، الجهادي المشروع، والانتحاري الإجرامي الذي لا يقيم أي اعتبار أو احترام للدم البشري عموماً أو لدماء المسلمين الأبرياء العزل خصوصاً. وإنّ الآخذين بالمفاهيم السلفية الانتحارية إنما يضعون أنفسهم في تعارض تام مع القرآن والسنة بوصفهما المرجعين الأكثر قداسة عندهم، وليس هناك من سبيل لتفكيك وهزيمة هذا الخطاب المسيء للإسلام والمدمر للمسلمين وللجهاد التحريري الحقيقي ضد الغزاة والمحتلين الأجانب إلا عبر مقاربة مكوناته الداخلية بطريقة نقدية تحليلية تستند إلى مواجهة الأوهام والأساطير الانتحارية بالوقائع التاريخية المقتربة باستمرار من الحقيقة والبانية لخطابها الواقعي والتاريخي في غمرة حركتها ذاتها، وهذا ما سنسعى للاستمرار فيه.
* كاتب عراقي
** يُروى هذا الحديث النبوي الشريف بصيغ أخرى منها «لهدمُ الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من قتل مسلم من دون حق». ذكره بالصيغة الأولى البيهقي في «شعب الإيمان»، وبالثانية الطبراني، ورواه أيضاً الترمذي ومسلم، وعدّه بعضهم حديثاً صحيحاً، وعدّه آخرون «يرتقي إلى الصحيح».