يمكن المرء أن يعتبر إمساك الجيش بخيوط اللعبة في مصر إيذاناً بنهاية ما. هذه وجهة نظر قائمة اليوم ولا يجوز الاستهانة بها تحت أيّ ظرف، أو التقليل من شأن الأرضية التي تستند إليها. وخصوصاً أنّ هنالك ثوريين بدأوا يتورّطون في تبنّيها على خلفية أنّ القمع الذي يطال الإخوان اليوم لن يوفّرنا غداً إذا ما استتب له الأمر. لا يهمّ هنا إن كانت الأرضية التي تنمو عليها المظلومية الجديدة «إسلامية» أو ذات خلفية دينية، فهذا «أمر ثانوي» بالنسبة لما تستطيع السياسة فعله حين تنهار الحواجز أمامها. في مصر حدث الانهيار على نحو نهائي، وبالتالي أصبح المجال متاحاً لمقارعة السلطة في أيّ وقت، وعلى أيّ أرضية كانت. وهذا بالضبط ما يحاول الإخوان المسلمون فعله الآن، مستفيدين من الحساسيّة التي يبديها الثوريون تجاه أعمال القتل والاعتقال والتعذيب التي تمارسها السلطة، أيّ سلطة. وهذا ما أقصده بالتحديد من الكلام عن «تورّط النشطاء» وتعثّرهم بالمظلومية الإخوانية. من يراقب وسائل التواصل الاجتماعي التي يستخدمها هؤلاء يلحظ كيف اختلف تعاطيهم مع القاعدة الاجتماعية للإخوان. قبل سقوط مرسي كانت التسمية المتعارف عليها الكترونياً للإخواني أو المتعاطف معه (هذا الأخير كان يجري التعامل معه على قاعدة: «مش إخوان بس بيحترمهم»، وهو تعبير شاع كثيراً قبيل موجة 30 يونيو) هي: «الخرفان». قال «الخرفان» كذا ولم يقولوا كذا، إلى أن بدأت السلطة الجديدة بالتغوّل عليهم وإخراجهم من الحيّز العام. حينها فقط أصبحوا في موقع الضحية، وبالتالي بات لزاماً على اليسار (وأنا أتناوله باستمرار لأنّه الرافد الأساسي للكتلة الاجتماعية التي أسقطت رئيسي جمهورية حتى الآن، أمّا موقعه وحجمه داخل المجتمع فهذا أمر آخر تماماً) المنشغل بالاشتباك الدائم مع السلطة أن يضع قضيتهم إلى جانب القضايا التي يواظب على متابعتها (حقوق العمّال والفلاحين والفئات المهمّشة، تصحيح الأجور، الضمان الاجتماعي، الرعاية الصحّية والطبابة، التعليم المجّاني، العدالة الضريبية، مواجهة الاحتكارات وأصحاب الرساميل... إلخ). وقد حصل ذلك بالفعل، إلى درجة أنّك لم تعد تقرأ مصطلح «خرفان» في أيّ من الأدبيات المتداولة بين الثوريين.
هذا لا يعني أنّ المجتمع قد تخلّى عن المصطلح بدوره، فهو لا يزال تحت تأثير الانشقاق العمودي الذي أحدثه الإخوان (والاسلامويون عموماً) داخله، وفي نظر طبقات اجتماعية كثيرة فإنّ الطرف الوحيد المؤهّل لرأب هذا الصدع هو الجيش. لذلك تحديداً لا يجد المرء تطابقاً كبيراً بين مواقف الطليعة الثورية التي تتعامل مع الجرائم المرتكبة من جانب الإخوان والجيش بالتساوي والطبقات الاجتماعية التي لا يعجبها ما يعجب الثوريين. لقد غدت هذه الطبقات بعد 30 يونيو الحامل الاجتماعي للسلطة الحالية، وبما أنّ السلطة التي فوّضوها بإسقاط مرسي تتعامل مع الإخوان على أنّهم «أعداء للمجتمع»، فهي ــ أي الطبقات ــ ستتعامل معهم بنفس الطريقة، وستلفظ كلّ من يحاول ضمّهم إلى العملية السياسية وفكّ العزلة عنهم. بالنسبة إلى الثوريين الأمر مختلف تماماً، فهم لا يؤيّدون الإخوان، لكنهم «مضطرون» إلى التضامن مع قاعدتهم الاجتماعية التي تتعرّض لعسف شديد من جانب السلطة. وتضامنهم هذا يجعلهم عرضة لعزلة من نوع مختلف. أيّ متابع للحملات الإعلامية والشعبية التي تشنّ من جانب مؤيدي الجيش على أسماء مثل علاء عبد الفتاح ومنى سيف وخالد علي وريم ماجد و... إلخ يعلم أنّ الظروف التي يعمل من خلالها هؤلاء هي الأسوأ منذ سنوات، حتى أنّها أسوأ من أيّام مبارك. فالقاعدة الجماهيرية للجيش عريضة بالفعل ومتنوّعة طبقياً إلى درجة كبيرة، وهذا يصعّب على الثوريين استقطاب الفئات التي اعتادوا استقطابها (العمّال، الفلّاحين، النساء، الطلبة... إلخ).
ربّما يكونون بحاجة في المستقبل إلى تعبئة كبيرة و»مقنعة» ضدّ السلطة حتى يعاودوا العمل بين تلك الفئات بنفس الدرجة من النجاح. الخطاب الأخلاقي هنا لا ينفع كثيراً، فنحن إزاء صيرورة تاريخية يعاد فيها فرز القوى باستمرار، وغالباً ما يكون الفرز على أساس طبقي، أي من يرى المجتمع أنّه الأنسب لتحقيق مصالحه، وهو «أمر أخلاقي» بالضرورة، لكنه يتسبّب كما في حالة الانتقال من حكم الإخوان إلى «حكم الجيش» (أو العكس) باهراق الكثير من الدماء. بهذا المعنى تفقد السلطة شرعيّتها عندما يتعارض وجودها مع مصالح المجتمع بطبقاته المختلفة، وهو ما لم يحدث حتّى الآن مع «السلطة المدنية» المتحالفة مع الجيش. الثوريّون انتبهوا إلى هذه النقطة متأخّرين وشرعوا في «مراجعة خطابهم المناهض للجيش» في ضوء خروج كتل جديدة من موجة يونيو، بمعنى أنّهم لاحظوا انعدام قدرتهم على التأثير خارج دوائرهم المعتادة، ويسجّل للالتراس أنّه أدخلهم في ديناميّة جديدة سيكون لها ما بعدها. قبل ذلك كانوا يتكلّمون عن الاعتقالات والدم أيضاً، غير أنّ كلامهم بدا خارج السياق الاجتماعي الذي قرّر كما في أيام عبد الناصر حرمان الإخوان من حقوقهم السياسية. بالمناسبة، هذه ليست فاشيّة بالمطلق، فقد حصل ذلك سابقا مع أعضاء الحزب الوطني ولم يعترض أحد وقتها على عزلهم سياسياً، لا بل جرى التهليل لحرمانهم من الحقوق باسم الثورة ومن جانب نفس القوى التي تعترض اليوم على التنكيل بالإخوان. والفارق بين الأمرين هو أنّ التواطؤ هذه المرّة من جانب أجهزة الدولة العميقة (الأمن والجيش والبيروقراطية الحكومية) كان أكبر بكثير، إلى درجة ارتكاب مجازر ضدّ الإخوان، على اعتبار أنّهم لم يندمجوا يوماً في بنية هذه الدولة، وبقوا حتى في أيّام وجودهم في السلطة على عدائهم القديم لها. وهو القاسم المشترك الوحيد بينهم وبين الثوريين الراغبين بدورهم في تفكيك جهاز القمع التابع للدولة إيّاها. وهذا ما يضع الطرفين في مواجهة مفتوحة ليس مع السلطة فحسب، بل مع الطبقات التي شاءت أن تفوّض الدولة العميقة بمهمّة إنهاء حكم الإخوان. ثمّة معضلة هنا تناولتها سابقاً وسأعاود التذكير بها باستمرار، وهي مشكلة عويصة فعلاً، ويتعيّن على الثوريين حلّها فوراً، لأنّها تعوق بالفعل عملية تمدّدهم اجتماعياً ووصولهم إلى شرائح وطبقات اجتماعية ليس من السهل الوصول إليها بمثل هذا الخطاب «المعادي» جذرياً لمؤسّسات الدولة (هذا ليس توجّهاً سلبياً بالمناسبة فبحسب ماركس: تلك هي مهمّة اليسار، وأضيف: تلك هي معضلته أيضاً) التي عرفها المصريون منذ الأزل. لا يتعلّق الأمر بأجهزة القمع التقليدية داخل الدولة (الجيش والشرطة وأجهزة الأمن) بل أيضاً بمؤسّسات مدنية (القضاء مثلاً وهو مستقلّ بحدود معيّنة بخلاف ما يقال في مصر) معروف عنها تبعيتها للدولة حتى ولو كان الدستور ينصّ على استقلاليتها نظرياً عنها وعن أجهزتها (مثلاً خرافة الفصل بين السلطات الثلاث، وهي دعاية رأسمالية وليبرالية قديمة).
«الشعب» هنا لن يتصرّف بالضرورة كما يشاء اليسار الراديكالي، الأمر الذي سيحوّل هذا اليسار مجدّداً إلى حالة نخبوية لا تصل إلى «الشعب» الذي هو عبارة عن طبقات اجتماعية متصارعة بالشكل الكافي. وهو ما يفسّر عودة الاحتجاجات الصغيرة ــ المعتمدة أساساً على تجمّعات محدودة وراديكالية التوجّه ــ إلى الشارع بقوّة، مصحوبة برغبة فعلية في الاقتصار على حجمها الحالي، وبالتالي عدم الاعتماد كثيراً على توسيع قاعدتها الاجتماعية. وهذه مشكلة عانى منها اليسار طويلاً قبل أن تأتي الانتفاضات لتحلّها جزئياً، وتترك الجزء المتعلّق بالتنظيم والأدلجة معلّقاً في انتظار ما سيأتي به الواقع المذهل في تحوّلاته.
الآن ومع دخول كتلة كبيرة مثل الالتراس حيّز الاعتراض على جرائم السلطة قد يتطوّر الاحتجاج الصغير مجدّداً، ولكن ليس على النحو الذي حصل في يناير 2011 ويونيو 2013، فهذه كانت تجمّعات ثورية بحقّ، وحدوثها في أقلّ من سنتين لا يعني أنّها ستتكرّر مجدداً في مواجهة «سلطة الجيش» المدعومة شعبياً على نحو واضح. بالطبع سيترك احتجاج الالتراس إذا ما استمرّ وتطوّر إلى ما هو أبعد من الاعتراض على اعتقال أفراد منهم السلطة الجديدة مثخنة بالجراح، فهذا فصيل «ثوري فعلاً» ومتمرّس في الاحتجاج والصدام مع أجهزة الأمن، ولم يعرف عنه أنّه دخل إلى معركة وخرج منها خاسرا. يضاف إلى ذلك أنّه ليس انتهازياً كالإخوان، وليست له مصلحة أساساً في الصدام مع سلطة شارك بنفسه في إيصالها إلى الحكم. كلّ ما في الأمر أنّه وجد نفسه في مواجهة سلطة مرتبكة لا تعرف كيف تحتوي الاحتجاج، وعلى ما يبدو لا تستوعب أيضاً أنّها سلطة يمكن الاحتجاج ضدّها في أيّ وقت، «وبدون مناسبة كذلك». في حالة الالتراس كانت هنالك مناسبة تخصّهم (استقبالهم لفريق الأهلي لكرة اليد في المطار)، وبدل أن تنتهي بسلاسة تحوّلت بفعل بطش السلطة إلى ذريعة لتوسيع رقعة الاحتجاج، وضمّ فئات جديدة إليه لا تشبه الإخوان لا «في الشكل» ولا في المضمون. وهذا هو المطلوب بالضبط في مواجهة سلطة مماثلة. بالأساس لا يمكنك مواجهة السلطة إذا كانت بنيتك مماثلة لبنيتها، وحتّى لو حزت شرعية النطق باسم الضحايا ستبقى في نظر ضحايا آخرين مجرماً وناهباً للمال العام.
بهذا المعنى لا يعني شيئاً أن ترفع اصابعك الأربع في وجه السلطة، فالقبضة مثلها مثل التفاني والتصميم اللذين يحوزهما جمهورك، متروكة لتحوّلات الواقع وديناميّته المتصاعدة. وهذا الأخير قال كلمته في 30 يونيو ولن يعود عنها بسهولة طالما لم يتواجد بعد البديل القادر على إقناع المصريين بجدوى الخروج مجدّدا ضد السلطة، أيّ سلطة. قد تتواجد الإرادة لاحقاً، فهي ليسا ملكاً للإخوان وحدهم، ولكن تواجدها لن يكون مؤثّراً بغياب الحامل الاجتماعي المتمثّل بالطبقات الاجتماعية والشعبية المهمّشة. وهي مهمّشة لأنّها ما زالت تشعر بأنّ الموجات الثورية المتلاحقة لم تحقّق لها الشيء الكثير. حتّى النصّ على حد أدنى للأجور (للأسف لم يربط إقراره بتعيين الحدّ الأعلى وهو ما يفرغه من مضمونه، لأنّه ببساطة لا يكلّف الأغنياء وأصحاب الدخول المرتفعة قرشاً واحداً!) وهو أبسط حقوقها جرى التلاعب به من جانب السلطة الحالية، وبالتالي لم ينفع المهمّشين والعمّال في شيء وجود «ممثّل حقيقي» لهم داخل حكومة 30 يونيو ــ أقصد بذلك النقابي والمناضل العمالي كمال أبو عيطة ــ. ثمّة خيبة أخرى متمثّلة في حركة «تمرّد» التي مهّدت توقيعاتها الشعبية للإطاحة بمرسي وسلطته. هذه الحركة وإن بدت معنيّة بمصالح الطبقات الشعبية عبر ممثّليها في لجنة الخمسين لتعديل الدستور، إلا أنّها دافعت في المقابل عن المحاكمات العسكرية للمدنيين واعتبرت في موقف مخالف لمواقفها المعروفة أنّ «المساس بالجيش» جريمة يتعيّن التعامل معها على قاعدة الإضرار بالأمن القومي للبلد، وهذا يعني أنّ من «يرتكبها» معرّض للمثول أمام قاض غير القاضي الطبيعي.
قد لا تكون هذه القضيّة على سلّم أولويات الطبقات الاجتماعية والشعبية في مصر، لكنّها بالنسبة إلى الثوريين تعني الكثير، وقد مثّلت بالفعل محطّة على طريق إعادة الفرز الحاصلة بين قوى الثورة.
أصبح لدينا في ضوء هذه التصدّعات أكثر من جبهة ثوريّة وأكثر من يسار، وعلى الطبقات الاجتماعية المتصدّرة للمشهد منذ 30 يونيو والناقمة على الجميع أن تختار. حتّى الآن اختارت الجيش الذي لفظ الإخوان ومؤسّسات الدولة العميقة التي ثبّتت سلطته، إلا أنّ المشهد الحالي غير مستقرّ كما يعتقد البعض، بمعنى أنّها ــ أي الطبقات - ستنتفض مجدّداً عندما يبدأ المساس بمكتسباتها. يبقى أن نعرف من سيقود الانتفاض هذه المرّة.
أخشى أن يعتقد البعض بحكم «الواقع الموضوعي» أنّ الإخوان الآن هم المؤهّلون لفعل ذلك. ثمّة يساريون ينظّرون للأمر حاليّاً على اعتبار أنّ الشارع الوحيد المنتفض اليوم هو شارع الإخوان. لهؤلاء أقول مجدّداً أنّ 30 يونيو كان حتمية تاريخية، وسلطة الجيش ستزول مع الوقت، ليس لأنّ الإخوان سيزيلونها بل لأنّ الأفق الذي انفتح قبل سنتين ونصف السنة من الآن أكبر منّا جميعاً. وهذا الأفق يتعيّن بالصيرورة المستمرّة التي غدت عنواناً للمشهد المصري ما بعد 2011. الإخوان بحكم هذا المشهد وديناميّته باتوا ماضياً فحسب. وهذا ما يجب أن يفكّر فيه الثوريّون جيداً وهم يصوغون تحالفاتهم الجديدة. الثورة استمراريّة وليست نكوصاً إلى الخلف. هكذا تقول التجربة المصرية نفسها.
* كاتب سوري