مَن يدرس سلوكية اللبنانيين (أو الاجتماع السياسي اللبناني) من الداخل، وكذلك من الخارج، يلاحظ أنهم يتساكنون، أو قل يتعايشون، ولا يعيشون معاً. المساكنة، أو المعايشة، تكون عادةً بين أضداد أو بين أغيار. اللبنانيون يتعايشون داخل مجموعات، لا مجتمعات. لا غلوّ في القول إنهم يتصرفون، غالباً، كأخصام أو كأغيار، لا كجيران وأقرباء ورفقاء وأصدقاء وزملاء. التنافر غالب، التوادّ عابر، الخلاف والاختلاف قاعدة، التوافق والتعاون استثناء.اللبنانيون، في معظمهم، يميلون إلى إنكار هذه الحال المزمنة. الإنكار سليقة لبنانية مردّها، ربما، إلى غريزة البقاء. ينكرون ما هم فيه علّ الإنكار يساعد على بقاء المساكنة والمعايشة. ولأن المعايشة اضطرار والعيش المشترك اختيار، فإن اللبنانيين موجودون غالباً في حال اضطرار لا حال اختيار. التعايش، لا العيش المشترك، أضحى طريقة حياة. للتعايش مقاربات ومستلزمات ولوازم وأدوات أبرزها ما يمكن تسميتها إدارة التعايش. لصاحب الإدارة، في كل زمان، كنية. فهو شيخ أو أمير أو متصرف أو حاكم أو رئيس. وقد تنحصر الرئاسة في رئيس واحد أو قد تتجسد في اثنين: رئيس جمهورية ورئيس حكومة.
في حاضر لبنان، رئيس الجمهورية يلي الأحكام ولا يحكم. الحكم، بحسب الدستور، لمجلس الوزراء مجتمعاً، وبحسب الممارسة لرئيس الحكومة. في الواقع، بحسب ما آلت إليه الأمور، لا رئيس الجمهورية ولا رئيس الحكومة ولا أحد يحكم أحداً في هذه الجمهورية المفعمة بالتعايش والتكاذب المزمنين بين أفرادها ومجموعاتها.
آخر حكومات لبنان استقالت منذ نحو ستة أشهر، وما قامت أخرى مقامها، فأضحت في حال تصريف الأعمال، بل في حال تصريف الأقوال. قضايا وتحديات كبرى نشأت وتفاقمت، لكن حكومة تصريف الأعمال امتنعت عن تصريفها أو مجرد النظر فيها.
صحيح أن صلاحية الحكومة المستقيلة تنحصر، بحسب العلم الدستوري، بتصريف الأعمال العادية، لكن التجارب الدستورية والسياسية المتعاقبة أجازت للحكومة، بل أوجبت أحياناً، أن تعمل وتتصرف وأن تتخذ أخطر القرارات عند مواجهة ظروفٍ وقضايا وتحديات استثنائية. وقد واجهت حكومة نجيب ميقاتي في حال تصريف الأعمال الكثير من القضايا والتحديات الخطيرة، لكنها امتنعت عن الاجتماع والتقرير.
امتناعها عن الاجتماع مردّه إلى أسباب داخلية وأخرى خارجية. داخلياً، ثمة تعددية مذهبية مزمنة ومرهقة، زادتها صراعات الزعامات المحلية على السلطة وتناحرها شدّةً وضراوة، وفاقمتها تدخلات خارجية لها مواطئ قدم ووكلاء وجلاوزة محلّيون، وعقّدتها منافسات ومنازعات على المصالح والنفوذ، ومدَّ في عمرها وفعاليتها رضوخ طويل متمادٍ من مكوّنات الاجتماع السياسي اللبناني لحال المساكنة والمعايشة المزمنتين وغياب أو، في الأقل، محدودية العيش المشترك.
إلى خطر الاستعمار الصهيوني الاستيطاني الاقتلاعي، إلى مخاطر وتحديات جمّة، ومع ذلك لم تلقَ استجابة أو مواجهة لدى الشبكة الحاكمة. وعندما تصدّت جماعة من أهله للاحتلال الإسرائيلي وقاومته بالسلاح والسياسة، واجهت، وما زالت، معارضة شرسة، بعضها من أركان الشبكة الحاكمة وبعضها الآخر من مكوّنات الاجتماع السياسي اللبناني نفسه.
خارجياً، تتعرض المنطقة لحرب ناعمة تشنّها «إسرائيل» وحلفاؤها ووكلاؤها، وترمي إلى تفكيك دولها القائمة وتفتيتها إلى «جمهوريات موز» على أسس قبلية وطائفية ومذهبية وإثنية، فلا تقوم بعدها للعرب من الفرات إلى النيل قائمة. ولا جدال في أنّ لبنان، كغيره من دول المنطقة، يعاني كوارث هذه الحرب الناعمة وتداعياتها.
ما المخرج من هذه الحال المزرية؟
السؤال مطروح على القوى الوطنية الحية، وليس ـ بطبيعة الحال ـ على أركان الشبكة الحاكمة وحواشيهم وأزلامهم والمستفيدين من الحال الراهنة، ولا على وكلاء الأجانب على اختلاف المشارب والمذاهب.
لا غلو في القول إن غالبية اللبنانيين لا تستشعر حاجة ضاغطة لقيام حكومة فاعلة. لعل مردّ ذلك إلى أنهم جربوا «حضور» الحكومات، وكذلك غيابها، فما وجدوا فارقاً بين الحالين. غير أنّ غياب الفارق لا ينفي ضرورة وجود إدارة، بشكل أو بآخر، لتوفير حاجتين أساسيتين: التنسيق والتوفيق بين مكوّنات الاجتماع السياسي اللبناني في إطار المساكنة والمعايشة، ومواجهة التحديات، ولا سيّما الخارجية منها، بغية توفير الحد الأدنى من أسباب الحياة وكرامة العيش والدفاع عن النفس والمصالح.
هاتان الحاجتان الحياتيتان ممكنة تلبيتهما في الحاضر والمستقبل المنظور. ففي مقدور القوى الحية، وبعضها ممثَّل في حكومة تصريف الأعمال، وبعضها الآخر موجود وفاعل في المجال العام، أن تضغط بوسائل عدة، سياسية وشعبية، بغية حمل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على دعوة مجلس الوزراء للاجتماع استثنائياً من أجل اتخاذ قرارات استثنائية بشأن التحديات الماثلة على النحو الآتي:
أولاً، مواجهة اعتداءات «إسرائيل» المتواصلة على المياه الإقليمية اللبنانية وعلى المنطقة الاقتصادية البحرية الخالصة، بغية السطو لاحقاً على مكامن النفط والغاز اللبنانية وتعطيل عمليات التنقيب والاستخراج، وذلك بتدابير سياسية وأمنية وطنية صارمة.
ثانياً، إقرار المراسيم اللازمة لاستكمال إجراءات المناقصة والمزايدة اللازمة لأعمال التنقيب عن النفط والغاز في المياة الإقليمية اللبنانية والمنطقة الاقتصادية الخالصة ووضعها موضع التنفيذ بلا إبطاء.
ثالثاً، ترفيع قدرات الجيش وقوى الأمن الداخلي، عديداً وعدة وعتاداً، لبسط سلطتهما الفاعلة على طول حدود لبنان الشمالية والشرقية مع سوريا بغية منع أعمال التسلل والتهريب والإخلال بالأمن.
إذا تعذّر إقناع ميقاتي وبعض حكومته بضرورة اتخاذ المواقف والتدابير الآنفة الذكر، فلا مناص عندها من اللجوء إلى نظرية الظروف الاستثنائية التي تولي السلطة القائمة صلاحيات استثنائية تجيز لها تالياً اتخاذ قرارات استثنائية لحماية الحقوق والمصالح الوطنية العليا وتعزيزها. في هذا الإطار، يصبح بإمكان الوزراء شاغلي الحقائب الرئيسية، السياسية والاقتصادية والأمنية، اتخاذ القرارات والتدابير الاستثنائية اللازمة في مجالات اختصاصهم.
بإمكان وزير الطاقة والمياه، مثلاً، أن يجيز استثنائياً بقرار منه التدابير والإجراءات الآيلة إلى إجراء المناقصات والمزايدات اللازمة لمباشرة أعمال التنقيب عن النفط والغاز. وفي مقدور وزيري الدفاع والداخلية اتخاذ القرارات اللازمة لحماية الأمن الوطني وتعزيزه في نطاق اختصاصهما. الأمر نفسه ينطبق على سائر الوزراء أصحاب الحقائب الأساسية في كل ما تقتضيه مصالح البلاد العليا.
هذه القرارات الاستثنائية التي يتخذها الوزراء المختصون في ظروف استثنائية وفي مواجهة تحديات استثنائية، ليست قابلة للتنفيذ فحسب، بل هي أيضاً محصّنة سياسياً ضد الإبطال في قابل الأيام نتيجة سوابق لبنانية ثابتة في هذا المجال. ذلك أنه غداة انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل سنة 1988، عاش لبنان واللبنانيون تجربة سياسية فريدة من نوعها. فقد عيّن الجميل قبل دقائق من انتهاء ولايته حكومة برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون لتحلّ محل حكومة الدكتور سليم الحص التي كان قد أقالها. الرئيس الحص عدّ مرسوم الإقالة غير دستوري وبلا مسوّغات وطنية وسياسية مقنعة، واستمر في قيادة حكومةٍ تابعت القيام بمهماتها على معظم الأراضي اللبنانية. العماد عون عدّ حكومته شرعية ومكّنها تالياً من ممارسة سلطاتها في المناطق، التي كانت تحت سيطرة الجيش اللبناني الخاضع لقيادته.
اتخذت حكومتا الحص وعون خلال الفترة الممتدة بين أواخر سنة 1988 وانتخاب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية سنة 1989 سلسلة قرارات، بعضها بالغ الأهمية، وبعضها الآخر متناقض مع «نظيره» على ضفة الحكومة الأخرى. ومع ذلك، جرى قبول و«تشريع» قرارات كلا الحكومتين في عهد الهراوي بموجب تسوية سياسية تقليدية. فهل ثمة ما يمنع تشريع القرارات الاستثنائية لوزراء حكومة ميقاتي بعد استقامة الأوضاع سياسياً ودستورياً في قابل الأيام؟
تبدو الحكومة، في الثقافة السياسية الراهنة زينة كمالية، ولا تشكّل في نظر غالبية الناس، وحتى بعض أركان الشبكة الحاكمة، حاجةً حياتية. هذا يجعل مسألة القرار الاستثنائي في الظروف الاستثنائية الراهنة حاجة حياتية لا يجوز أن تحول دون اتخاذه شكليات دستورية باهتة أو مصالح سياسية مشبوهة.
من يجرؤ أصلاً على إلغاء أو إبطال قرارات استثنائية اتُّخذت في ظروف استثنائية لحماية مصالح وطنية عليا؟
* محامٍ ـــ نائب ووزير سابق