يقود الحديث، أو تكرار الحديث، عن ضرورة إقدام السلطة السورية على صياغة مبادرة سياسية إلى عدة أمور ومستلزمات، وما أكثرها! سنضرب صفحاً عن فكرة وجيهة من نوع أن الوقت قد تأخر على هذا الأمر. أبعد من ذلك، سيقول آخرون، وليس بدون مبررات جدية، إنه ليس من طبيعة النظام الذي أدمن الأمن أن يجنح نحو السياسة: أي نحو المرونة والتسويات والتغيير... في بعض الجواب على ذلك يمكن الاستعانة بالقول المأثور: أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً. فكيف إذا كان الأمر يتعلق بمحاولة وقف شلال الدماء المتدفق أبداً في أرجاء سوريا، مقروناً، بذلك الدمار الهائل والخسائر الفادحة والهجرة المخيفة والأذى العظيم... والتي تصيب سوريا وناسها ودورها وتاريخها وعمرانها، كما تصيب العرب بما يمكن وصفه بالنكبة الثالثة بعد اغتصاب فلسطين ونكسة عام ١٩٦٧.الظروف الراهنة ملائمة تماماً لصياغة مبادرة سياسية رسمية سورية: تبدأ من زوال خطر توجيه ضربة عسكرية أميركية على غرار ما كان قائماً أوائل الشهر الماضي. يضاف إلى ذلك أنّ الإدارة الأميركية نفسها، المشغولة إلى حد كبير بهموم أزمتها الداخلية، هي أكثر من يشيد بـ«التعاون» السوري للتخلص من المخزون الكيميائي تنفيذاً لقرار مجلس الأمن ذي الرقم ٢١١٨. إلى ذلك، فمنذ معارك القصير حتى اليوم، يتسم الوضع الميداني بتحقيق تقدم للجيش النظامي على قوى المعارضة في محاور ومناطق ذات أهمية لا شك فيها. ثم أضيف أخيراً عامل جديد، وهو نشوب قتال بين الفريق الأكثر تشدداً وارتباطاً بـ«القاعدة» وفصائل أخرى، وخصوصاً «الجيش الحر» والمقاتلين الأكراد. يضاف إلى ذلك، أيضاً وأيضاً، مناخ الخيبة الذي ساد بعد إلغاء مشروع الضربة العسكرية، والذي شمل أنقرة والرياض خصوصاً... هذا إلى ارتباك المواقف حيال تسليح المعارضة وحيال مرجعيتها القيادية (بين الرياض والدوحة وأنقرة...). ويصب في مصلحة السلطة السورية أيضاً بروز دور القوى المصنفة إرهابية وتناميه. فهذا البروز مربك للمعارضة بالجملة، ومضعف لإمكان توحدها، ومعقّد لعلاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب.
في حسابات السلطة السورية، حساباتها المعتادة، أنّه طالما الأمر على هذا النحو، فلماذا المبادرة السياسية أساساً؟! ويذهب كالعادة، أنصار السلطة السورية إلى حدود المزايدة عليها في تحديد مواعيد للحسم والانتصار الكامل. ليس الأمر على هذا النحو. وتحسن بعض شروط الصراع لمصلحة السلطة السورية لا يعني أبداً أنها باتت قادرة على حسمه لمصلحتها في وقت قريب أو بعيد. القوى التي تقاتل السلطة السورية، الداخلية منها والخارجية، تملك الكثير من الإمكانات التي تسمح لها بإدامة الصراع إلى أمد غير محدود... وبعضها، كما هو معروف، يعتمد تكتيكاً قائماً، بشكل شبه كلي، على استمرار استنزاف سوريا وحلفائها إلى أقصى درجة يستطيعها (للعدو الإسرائيلي وحماته مصلحة كاملة في ذلك). ولا شك أن من نتائج إدامة الصراع بلورة لوحة جديدة من التحالفات والتناقضات على حساب التناقض الأساسي مع العدو الإسرائيلي وحماته.
إن تقديم مبادرة (لا مناورة) سياسية هو أمر شديد الاتصال بمحاولة إيجاد حل للمحنة السورية ولوقف معاناة شعبها. وهو أمر مطلوب، بالدرجة الأولى من السلطة السورية قبل سواها. وهو أمر مناسب لها الآن، بالضبط، لأنها في مرحلة تقدم ميداني كما أشرنا. بديهي أنه لا يجب الاستعاضة عن ذلك، أو التعبير عن ذلك بإطلاق مواقف من نوع: لا حوار مع المسلحين. سيكون ذلك تعبيراً عن رفض الحوار، لا عن السعي إليه. إنّ في ذلك أيضاً إمعاناً في الاستقالة من مسؤولية التفتيش عن مخارج وتسويات وإيكال هذا الأمر إلى القوى الخارجية والتدويل المهيمن.
ثم إنّ تقديم مبادرة هو عمل سياسي صائب من حيث المبدأ. وليس تقديم مبادرة مشروطة بنجاحها المسبق والمضمون. وما سبقت الإشارة إليه من تناقضات المعارضة السورية ومن ارتباك القوى الداعمة لها يشجع على إحداث انعطافة نوعية في مواقف السلطة السورية. ويمكن القول، بدون مبالغة، إنّ أي مبادرة جدية من قبل السلطة السورية، باتجاه الحل السياسي، ستحقق نصف أهدافها سلفاً: فهي ستشير إلى مسار سياسي صحيح وضروري من قبل السلطة. وهي ستربك معظم أطراف المعارضة وداعميها الخارجيين. وهي ستعزل القوى الإرهابية المتطرفة، كما ستفضح أولئك الذين لا همّ لهم سوى تدمير سوريا.
قلنا مبادرة لا مناورة. ذلك يعني إعادة قراءة مسؤولة للمعطيات وللممكنات وللمخاطر. وذلك يعني أيضاً استخلاص الدروس الضرورية في ما يتعلق بمستقبل النظام الذي يحتاج إليه الشعب السوري. وهو نظام ينبغي أن يكون، بالضرورة ديموقراطياً ومقاوماً في الوقت نفسه!
* كاتب وسياسي لبناني