قضايا المشرق | يبدو واضحاً أن الأزمة السورية تتجه نحو ربع الساعة الأخير من عمرها الذي امتد سنتين ونصف سنة من الصراع الدامي. صراع له دوافع محلية، لكنه اتخذ مساره العنيف التدميري بسبب التدخل الإرهابي للتحالف الاستعماري الغربي وأدواته الصهيو ــ وهابية العثمانية. أراد هذا التحالف، من خلال تدمير سوريا، إعادة ترتيب المنطقة بما يضمن تأمين مصالح الإمبريالية وأمن إسرائيل في ظل الانكفاء الأميركي عن الشرق الأوسط. لقد صمدت سوريا أمام الهجمة الهستيرية لتحالف الرأسمالية والظلامية، وبصمودها، انكسرت هذه الهجمة الوحشية، بكل ألوانها، على المستوى الإقليمي، بدءاً من مصر إلى تونس وحتى ليبيا. وها هي نُذر الثورة تتجمع في السودان ضد النظام القمعي المتأسلم، بينما تتزايد مؤشرات انتقال الأزمة والإرهاب إلى تركيا التي ستدفع ثمن السياسات الحمقاء للحكم الإخواني العثماني الذي ولغ في دماء السوريين، وفي تدمير البنى التحتية والصناعية السورية.لا شك أن المرحلة الأخيرة من الأزمة السورية ستكون مليئة بالمفاجآت السياسية والعسكرية والمحاولات الدموية من أجل إفشال الحل السياسي وتعطيله. وهنا يأتي دور المعارضة الوطنية، الداخلية والخارجية، للتخلص من التذبذب السياسي والمراوحة والانخراط في صراع سياسي نشط مع القيادة السورية ضمن الحقائق الموضوعية المحلية والإقليمية الدولية الجديدة، ومنها زعامة الرئيس بشار الأسد ومحورية الدور الوطني للجيش العربي السوري. وقد نال الأسد والجيش هاتين المكانتين بما خاضاه من تجربة قاسية ومريرة وغنية أعطتهما رؤية مختلفة تماماً لسوريا الجديدة التي قاتلا، سياسياً وعسكرياً، من أجلها سنتين ونصفاً، ببسالة عزّ نظيرها. وهي سوريا التي يستحقها الشعب السوري حقاً؛ سوريا المستقلة والديموقراطية والعلمانية والمقاومة والمؤسسة على الخيار التنموي التقدمي والعدالة الاجتماعية.
وربما كان على الوطنيين السوريين في الدولة والمعارضة الوطنية معاً، منح الأولوية للفرص القيادية التاريخية التي تنتظرها سوريا الجديدة، وخصوصاً في بناء التحالف المشرقي الذي يتمتع الآن بإمكانية واقعية لإنجازه، قد تستمر من 10 إلى 15 عاماً، هي فترة الانكفاء الأميركي المتوقعة، التي ستكون خلالها، عاجزة عن محاربة أو إفشال قيام تحالف المشرق العربي. وهذا التحالف الممكن كفرصة سورية بالأساس، هو ضرورة لكل الدول المشرقية، من أجل حل المشاكل الطائفية والعرقية في هذه الدول والتوصل إلى صيغة جماعية لمعالجة المشاكل والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي تواجهها، ومن أهمها التحدي الإسرائيلي. فللتحالف المشرقي، بحجمه وإمكاناته، القدرة على بناء قوة عسكرية قادرة على محاصرة «إسرائيل» وضمان تآكلها، ونسج التحالفات الندية إقليمياً ودولياً في سبيل ذلك. وأشير، هنا، إلى ما يعنيه هذا المسار لنا، كأردنيين، من آفاق واسعة لضمان التوصل إلى تفاهم وطني على إحداث تغييرات نوعية في السياسة الداخلية والخارجية، تقوم على استيعاب مشكلة الأردن الاقتصادية المزمنة في إطار تنموي مشرقي، بما يؤمن تحرر البلاد من الهيمنة السعودية، وبما يمنحها القدرة على مواجهة السياسات الإسرائيلية الهادفة إلى إلغاء الكيان الأردني.
إن سوريا الجديدة، كالمشرق الجديد، لن تتخلص من أزمات الانشقاق الداخلي إلا بالعلمانية. ويمكن المرء أن يتلمس هذا الميل لدى القيادة السورية، إلا أنه لمن المقلق أن لا يكون لدى أصدقائنا الإيرانيين، التفهّم الكافي لضرورة العلمانية في ديار المشرق.
إننا نطرح هذه المسألة كحوار بين الأصدقاء، أصحاب المصلحة المشتركة في التحرر والتنمية وتفكيك الكيان الصهيوني. ومن دون أي تدخّل من طرفنا في خيارات إيران الداخلية، فإننا نتساءل عن الموقف الإيراني من الإسلام السياسي العربي. من الواضح أن إيران تتجنب الاصطدام بهذه القوة الظلامية المفتتة لوحدة المشرق والعرب، ربما رغبة في إظهار موقفها الرافض للانقسام المذهبي واستغلال الصدام مع الإخوان المسلمين مثلاً، في تأجيج المشاعر المعادية لإيران. يدرك الإيرانيون أنه، في معمعان الصراع الشرق أوسطي، لم يعد لها من أصدقاء حقيقيين في المشرق إلا القوى القومية واليسارية والعلمانية. وذلك، بغض النظر عن أفكار هذه القوى المتعارضة مع الدولة الدينية، إلا أنها تخوض الصراع نفسه من منطلقات فكرية مختلفة ومتعارضة. ولذلك، فهي تجد نفسها في خندق واحد مع إيران في صراعها مع الإمبريالية الأميركية والصهيو ــ وهابية، أما مراهنة طهران على الإسلام السياسي العربي، فهي مراهنة باطلة ولا جدوى منها لسبب بسيط، هو أن الإسلام السياسي السُّني كله نشأ أصلاً في أحضان الوهابية، ويكفي أن نرى صورة مؤسس تيار الإسلام السياسي حسن البنا منحنياً على يد الملك عبد العزيز آل سعود يقبلها، لكي نلمّ بالمشهد كله. هذا التيار الذي نشأ أساساً بالتعاون مع الدوائر الاستعمارية الغربية، لا يمكن أن يتصالح مع أي طائفة دينية أُخرى حتى لوكانت سنية متعارضة معه فقهياً أو سياسياً، وخير دليل على ذلك هو حركة «حماس» التي ما إن حكت جلدها حتى نسيت معركتها ضد الصهيونية وفجرت كل أحقادها على كل ما هو مقاوم ووطني وديموقراطي في سوريا والبلاد العربية. الأجدى لإيران هو العمل الصريح والمنهجي مع قوى ديموقراطية وعلمانية فلسطينية وعربية، تؤمن بالمقاومة نهجاً وسبيلاً ضد «إسرائيل»، وتعزيز قدرة هذه القوى وإمكاناتها للقيام بواجبها في تحرير الأرض. ثم لا بد من التأكيد أن التحالف المشرقي هو الوحيد القادر على أن ينسج علاقات جوار مميزة مع إيران وأن يبني معها محيطاً من التعاون المثمر في مختلف المجالات. وفي الواقع العياني، إن التحالف المشرقي لا يمكنه أن ينهض إلا بتجاوز الإسلام السياسي، السني والشيعي معاً؛ فهذه، في الواقع العياني للمشرق، قوى حرب أهلية، بينما الناظم الممكن للمشرق، في تعدديته الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية، لا يمكن إلا أن يكون علمانياً. آن الأوان للبدء بالتفكير الجاد في المستقبل الذي سيضع سوريا في قلب العالم الجديد، العالم المتعدد الأقطاب، هذا العالم الجديد الذي نشأ، بدوره، من رحم معاناة وآلام الشعب السوري. ومن شروط توطّد قوة هذا العالم الجديد ونموه وتطوره أن يُظهر فعاليته وقدرته على دعم سوريا الجديدة الديموقراطية، اقتصادياً ومالياً، بعد نجاحه وتفوقه في تقديم الدعم العسكري والسياسي والدولي لها، ما أثبت فعاليته في تعزيز قدرة السوريين على الصمود في مواجهة العدوان البربري. إن سوريا، بعد انتصارها، ستكون رمزاً لهذا العالم الجديد الذي تنمو فيه العلاقات الدولية في أجواء جديدة، تضمن المصالح المشتركة لكافة الأطراف المنخرطة في هذه العلاقات النوعية الجديدة، علاقات بعيدة عن روح السيطرة والتبعية والاستغلال الاقتصادي وسيطرة الغرب الاستعماري.
* الأمانة العامة لحركة اليسار الاجتماعي الأردني