حين تتوقّف الحرب ولو لبرهة معيّنة يظنّ الناس أنهم عبر استعادة بعض «الطقوس» التي سبقت اندلاعها إنما يعاودون وصل ما انقطع من تقاليد الاحتجاج ضدّ السلطة. يفعلون ذلك وهم يرفعون الشعارات نفسها التي رُفعت وقتها، ومن دون الانتباه غالباً إلى حجم «التغير» الذي حلَّ بالنظام نفسه قبل الآخرين، حيث أصبح مطلب إسقاطه يتطلّب بالضرورة إسقاط جميع الكيانات السلطوية التي نشأت بجواره، ومعظمها إن لم يكن كلّها تقريباً تفعل مثلَه وأسوأ حتى، أي تقتل وتنكّل بالناس وتحطّم بيئاتهم الاجتماعية، وتتسبّب بموجات نزوح هائلة داخل البلد وخارجه. استحالة القيام بذلك ليست ناتجة فقط من الدينامية التي تربط موضوعياً بين هذه الأنظمة جميعاً وتجعل من الاعتراض عليها فعلاً متصلاً، بل أيضاً من التعارض بين الناشطين ضدّ هذه السلطة أو تلك. فمن يريد إسقاط «نظام الأسد» لا يناسبه في هذه المرحلة إسقاط سلطة جيش الإسلام أو جبهة النصرة، والعكس صحيح أيضاً، حيث لا توجد ضمانات لدى الفئات الاجتماعية التي يحميها النظام (وهي عريضة قطعاً) بعدم التعرّض لها بالقتل أو التنكيل في حال تم إسقاطه عسكرياً أو بالتدريج عبر الانتقال السياسي. طبعاً هذا النقاش لا علاقة له بالواقع الذي أفضت إليه الحرب، ولكنه يعود إلى الواجهة في كلّ مرة تُثار فيها قضية البيئات الاجتماعية المعارِضة التي يستهدفها النظام بالقصف، وآخرها التظاهرات التي خرجت في الغوطة وادلب ودرعا وحلب أثناء انعقاد الهدنة لمعاودة التذكير بالأسباب التي اندلعت من أجلها «الثورة».
الصراع متمحور حول استعادة البيئات والأراضي التي احتلها «داعش»

المطابقة بين الشعار والواقع

في الحقبة التي خرجت فيها هذه الشعارات إلى العلن كانت أهميتها أنها تستجيب لواقع لم يعد ممكناً تفاديه، فالنظام كان يتآكل بالفعل وخصوصاً في نظر الطبقات التي استمد منها شرعيته. الممارسات الأمنية التي لجأ اليها في مواجهة الاحتجاجات زادت الأمر تعقيداً، ودفعت بالناس إلى «التمادي في الاعتراض»، وعبر هذا التمادي انتقل المحتجون من رفع شعار «الإصلاح» أو إقالة محافظ هنا ومدير أمن هناك إلى المطالبة بإسقاط النظام. عندما رُفع هذا الشعار كانت السلطة لا تزال مسيطرة على معظم الأراضي السورية ولم تكن قد فقدت أجزاءً كبيرة منها لمصلحة هذا التنظيم المسلّح أو ذاك، ولذلك فإنّ المطالبات بالإسقاط كانت واقعيةً إلى حدّ كبير ومنسجمة مع طبيعة الاحتجاجات التي تبدو «مثل النظام» «مهيمنةً» ومنتشرة في أرجاء سوريا كافة. هكذا، وبقدر ما كان النظام محتفظاً بمركزيته وهيمنته على الجغرافيا السورية كاملةً كانت الشعارات المرفوعة في الاحتجاجات تبدو متّسقة مع ذاتها ومع الواقع الذي تعترض عليه، ولكن ما إن بدأ هذا الواقع بالتغيّر حتى أصبحت الشعارات تسير بالتعارض مع التطورات، وهو ما أدى إلى انحسارها تدريجياً لمصلحة أخبار الحرب والقتال الميداني. لم يحصل ذلك بسبب رغبة النظام في استدراج الانتفاضة إلى فخ التسلّح كما تقول أدبيات المعارضة، بل لأن تطوراً ما قد حصل، وهذا التطوّر كان من الصعب تفاديه تماماً كما كان مستحيلاً تفادي الاحتجاجات بالنسبة إلى النظام. الأحداث وخصوصاً في أوقات الصراع لا تتطوّر وفقاً لمشيئتنا، بل تخضع غالباً لشرط موضوعي، وهذا الشرط عندما لا يُعجِب البعض يجرى تصويره وكأنه حصل بموجب مؤامرة، بينما هو في الحقيقة نتاج لواقع تتداخل فيه عوامل عدّة ولا يجرى فيه تغليب عامل على آخر وفقاً للاعتبارات الذاتية التي تحكم مع الأسف معظم تصوّراتنا عن حركة الواقع وتعقيداته. بهذا المعنى فإنّ شعار «إسقاط النظام» الذي عاودت التظاهرات الأخيرة رفعه في الغوطة الشرقية وادلب وحلب ودرعا لا يأتي من ضمن سياق التطوّر الموضوعي للأحداث ويُعتبر في الجزء الخاصّ بتناول النظام تجاوزاً للواقع أكثر منه استعادةً لشرط الاحتجاج. هذه الاستعادة ستصبح ممكنة فقط في حالة الاعتراف بوجود أكثر من سلطة في البلد، عندها سيكون الربط بين النضالات الحاصلة ضدّ هذه السلطات قد حصل تدريجياً، وبالتالي يكون سياق الاحتجاج قد استُعيد على قاعدة الاعتراف بالواقع الجديد الذي همّش النضال ضدّ سلطة بعينها لمصلحة نضالات متعدّدة ومترابطة ضدّ مجموع السلطات التي تحكم الجغرافيا السورية، ابتداءً بداعش والنصرة، مروراً بالنظام وليس انتهاءً بجيش الإسلام وأحرار الشام ومتفرعاتهما الوهابية الأخرى.

جدل الأولويّات

طبعاً هذا الأمر يبقى في إطار الافتراض لأنّ الواقع لا يزال مختلفاً تماماً، إذ لا يزال الصراع الآن متمحوراً بدرجة أساسية حول استعادة البيئات والأراضي التي احتلتها داعش، وحوّلتها إلى مناطق لاستقطاب مقاتلين من مختلف أنحاء العالم، بالإضافة طبعاً إلى الأراضي التي أخذتها النصرة ولا يزال الجدل بشأنها قائماً. فبينما يعتبرها الموالون مُحتلّة (وهو تقدير صحيح إلى حدّ كبير) تعدّها أطراف في المعارضة إلى جانب جمهورها مُحرَّرة، وهذا الخلاف في الرأي يعقّد المسألة السورية أكثر مما هي معقّدة ويضعها أمام معضلات نظرية قبل أن تكون عملية. من جملة هذه التعقيدات مثلاً ما يطرحه الموالون حول فكرة الأولويات، وما إذا كانت معاودة الخروج ضدّ النظام في هذه المرحلة تُعتبر أولوية فعلاً بالنسبة إلى بيئات لم يعد النظام يحكمها عملياً. من هنا ينتقل هؤلاء إلى فكرة أخرى تُعتبر بمثابة تتمّة للأولى وتفيد بعدم قدرة النظام على حلّ مشكلات ليس هو المتسّبب الوحيد بها (رغم مسؤوليته المبكّرة عنها)، وخصوصاً في المجالات الخدمية والمعيشية التي تديرها في تلك المناطق سلطات المعارضة، ويُعتبر تأثير النظام فيها هامشياً إن لم يكن معدوماً. هذا أمر بحاجة إلى نقاش فعلاً، فنحن بحكم وجودنا هنا نعرف المشكلات التي تعاني منها الأماكن الخاضعة لسيطرة النظام ولكننا لا نعرف الكثير عن طبيعة العلاقة بين تنظيمات المعارضة المسلّحة والأهالي الخاضعين لسلطتها. جلّ ما نعرفه أنّ هذه المناطق تشهد بين الحين والآخر تظاهرات تطالب هذا الفصيل المسلّح أو ذاك بالكفّ عن سرقة المساعدات التي تأتي من دول الخليج أو هيئات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة، وغالباً ما تتعرّض هذه التظاهرات للتفريق أو الضرب بالرصاص، ممّا يفاقم التوتر، ويجعل العلاقة بين الطرفين مشوبةً بالحذر الدائم. ولكن عندما تُستعاد أجواء المواجهة مع السلطة سواءً في حالة الحرب أو الهدنة يختفي هذا التناقض تماماً ويعود الاصطاف في مواجهة النظام إلى حاله. هذا لا يدلّ على تنظيم للخلاف بين الطرفين في المواجهات التي تعتبرها المعارضة مصيرية بقدر ما يشير إلى حجم الخلل في تحديد الأولويات الخاصّة بعمل القواعد والناشطين المتبقّين في تلك البيئات. فمواجهة النظام تبقى ضرورية بالنسبة إلى أيّ عمل للنهوض بتلك البيئة ولكنها ليست المواجهة الأساسية أو المحورية. يمكن اعتبارها في أفضل الأحوال ذريعةً للحفاظ على إرث «الثورة» وسرديتها، على أن يبقى الأمر في إطاره الرمزي، لأن المجابهة الآن لا تحصل مع النظام فحسب، وإن حصلت فليس على نحو مباشر ومادي كما هي الحال مع سلطات النصرة وأحرار الشام وجيش الإسلام و... الخ. سياق المجابهة الآن اختلف باختلاف السلطة الحاكمة، فمن يسرق هناك ليس النظام، ومن يقمع الاحتجاجات ليس هو أيضاً، بإمكانه طبعاً أن يحاصر ويمنع وصول الإمدادات إلى الغوطة وسواها وأن يقصف بالطيران ويتسبّب بوقوع مجازر، ولكن هذا فعل يستحيل منعه من الداخل، وحينما يُسمح بمجابهته لا يكون الناشطون غالباً جزءاً من فعل المجابهة، لأن ثمّة سلطة هناك تحتكر القتال كما تحتكر توزيع المساعدات والإتجار بها. في هذه الحالة فإن المجابهة تصبح مزدوجة ولا تعود فقط في مواجهة النظام، وحتى لو جرى تقديم مجابهته على سواها كما حصل في التظاهرات الأخيرة فسرعان ما سينتهي الأمر، وتعود الاحتجاجات إلى حيث يكمن التناقض الفعلي في هذه المرحلة: السلطة المباشرة التي تعتقل وتنهب وتدير الاحتكارات وليس أيّ سلطة أخرى.

خاتمة

النقاش سيستمرّ حول الإمكانية التي تتيحها عودة هذه التظاهرات، والمشكلة هنا أنّ من يضع العناوين لا يعتبر نفسه معنياً بالأسئلة التي تطرحها بيئات أخرى على المتظاهرين. وهو ما يحدّ غالباً من تأثير الفعل نفسه ويتركه يتفاعل ضمن بيئة لم تعد تشكّل الكثير ضمن الجغرافيا السورية عامةً، ليس لأنها غير فاعلة بل لأن فاعليتها أصبحت محدودة في ظلّ نزوح معظم سكّانها إما إلى الخارج (تركيا، الأردن، لبنان، مصر، دول أوروبا الغربية) أو إلى الأماكن التي يسيطر عليها النظام. مسؤولية النظام عن هذا التهجير بما في ذلك أعمال القتل التي لا يزال يقوم بها بمعية الغطاء الجوي الروسي لا تعني بالضرورة إنه يتحمل كامل التبعات الأخرى، ومن هنا فإنّ معاودة رفع شعارات ضدّه وكأنه لا يزال الفاعل الوحيد في البلد لن تساعد كثيراً في فهم الإشكاليات التي يطرحها وجود فاعلين آخرين «إلى جانبه» مثل النصرة وجيش الإسلام وداعش وأحرار الشام و... الخ. بالنسبة إلى هؤلاء جميعاً فإنّ خروج تظاهرات في فترة الهدنة وإيقاف الأعمال القتالية ضدّ النظام وحده يعني إعفاءهم من المسؤولية عن كلّ أعمال القتل والنهب التي قاموا بها بعد إخراج النظام من تلك المناطق، وفي المقابل تصوير الأمر وكأنّ النظام وحده هو المسؤول عمّا حصل، في ما يشبه حالة انفصال تامّة عن الواقع ومجرياته. وهذا مجدداً لا يحلّ المشكلة، ولا يسمح بإيصال هذا الحراك إذا أُُريد له الوصول فعلاً إلى خواتيم منطقية تتطابق مع حركة الواقع، وتستجيب للتحديات التي تطرحها. من هنا فإنّ النقاش مع هؤلاء الناشطين يبدأ من تحريك السياق الذي نَشَطوا فيه قليلاً، فبدلاً من قولهم في إحدى الشعارات المركزية المرفوعة «إنها ثورة وليست حرباً أهلية» سنقول العكس مع تعديل طفيف في السياق: «إنها حرب أهلية وليست بالضرورة ثورة». بمعنى أنها كانت ستصبح ثورة لولا خضوعها لسلطة المسلحين التي يرفض الناشطون رفع شعارات ضدّها أُسوةً بالنظام. عندما تُرفع شعارات تساوي أفعال النظام بأفعال المعارضة ولا تَطمُس جرائِمها لتُظهِر جرائِمه سنناقش إن كانت ثورةً أم لا، وسيتكوّن عندها على الأرجح سياقٌ عامّ يسمح بوصول ليس فقط هذا الحراك بل أيضاً كلّ الحراكات الأخرى المناهضة للسلطات القائمة إلى خواتيمها.
* كاتب سوري