لا يزال المشرق العربي في قلب العدوان الإمبريالي ــ الرجعي المفتوح، رغم التفادي الراهن للحرب الأميركية ضد سوريا. وفيه نشهد اللحظات الأخيرة من مخاض ولادة نظام عالمي جديد، متعدد الأقطاب، على أنقاض الهيمنة الإمبريالية التي دامت لعقدين من الزمن. نظام تعمل على قيامته، دول وقوى، من مشارب مختلفة، يجمعها نزوع استقلالي معادٍ للإمبريالية وإرادة سياسية على مواجهة المخاطر والتحديات. عالمياً، تشكل دول «بريكس» عنوان هذا التحالف المضاد، الذي يتمظهر، في الصراع الدائر في منطقتنا، عبر محور يضم روسيا والصين وإيران وسوريا وحزب الله. ولم تمنع الاختلافات بين مكوناته، هذا المحور من أن يتبلور كقوة مقابلة للهيمنة الأميركية، تشتبك معها لفرض شروط تصبُّ في مصلحة البشرية جمعاء. ونلفت إلى أن حزب الله اللبناني هو القوة الشعبية الوحيدة المشاركة في تحالف هذه الدول بشكل واضح ومعلن مع دور عسكري، رغم الوجود التاريخي، في منطقتنا، لقوى سياسية أخرى، شعبية ومناضلة ومقاومة، تنتمي في معظمها إلى التيارين اليساري والقومي. وباعتقادنا، فإنه بمعزل عن أسباب ذلك، يرتب «انحصار» المقاومة الشعبية المسلحة بجهة واحدة، نتائج سلبية ليس أقلها استسهال محاصرتها.
تحوّل حزب الله، بمقاومته الجبّارة والمدهشة، إلى لاعب إقليمي مؤثر ولكنه، مع ذلك، عجز عن التحول إلى حالة شعبية واسعة مستقرة على امتداد الإقليم. فلقد أدّى التوتر المذهبي، المفتعل وغير المسبوق، والمستعر منذ عدوان تموز 2006 على لبنان، في امتداد نتائج الاحتلال الأميركي للعراق إلى محاصرة تأثير المقاومة المنتصرة على العدو الصهيوني. ونجح تحالف العدوان، إلى حد بعيد، في التركيز على الطبيعة الطائفية لتركيبة حزب الله، و«شيطنة» دوره الوطني والقومي المقاوم، تسهيلاً لعملية محاصرته والسعي لشل دوره. لكن ذلك لم يكن ممكناً، بهذا القدر من السهولة النسبية، لولا جملة من السياسات والممارسات والأوضاع التي أدّت إلى نكوص بقية القوى السياسية المعنية بالقضية الوطنية والقومية. والحال أنه، في هذا الصراع الدائر، ورغم الحاجة الماسّة إليهم، موضوعياً، لا نجد أدواراً لهذا الطيف الواسع من القوى وامتداداتها الجماهيرية، في الحرب الميدانية. وفي ذكرى انطلاقة «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» ضد الاحتلال الإسرائيلي (أيلول،1982)، يصبح السؤال ضرورياً عن محدودية انخراط التيار اليساري، الوطني التحرري، اللبناني والمشرقي، في المعركة الدائرة في بلادنا مع الإمبريالية والرجعية، الخصمين التاريخيين والدائمين لليسار.
لقد سبق لنا («الأخبار»، أيلول 2012) أن بيّنا الحاجة والإمكانية لاستعادة عاجلة لدور جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، انطلاقاً من ضرورات الصراع المحتدم في المنطقة ومن الواجب الوطني واليساري والعمل على بناء جبهة مقاومة مشرقية تتشكل من القوى العلمانية اليسارية والوطنية والقومية. وكان لذلك، لو حصل، أن يساهم في تفادي تلك الحملة المذهبية المسعورة التي واجهتها مقاومة حزب الله خلال مشاركتها في معركة «القصير» الاستراتيجية. كذلك يمكن الجزم بأن التلكؤ في هذه المهمة التاريخية الواجبة، ساهم، ولو نسبياً، في كشف ظهر التحالف المقاوم. ذلك أن الدينامية التي يولدها قيام المقاومة المشرقية، ومن ثم آليات عملها وانخراطها في النضال العملي، كانت ستترك، داخل كل دولة مشرقية خصوصاً، آثاراً، وترتب نتائج على المستويين الشعبي والرسمي. فما الذي أدّى إلى ذلك؟
سياسياً، لا يمكن التيار اليساري، الوطني العروبي التحرري، أن يبقى خارج المعركة الوطنية، مهما تكن المبررات. فذلك، عدا عن كونه واجباً وطنياً واضحاً، هو المدخل الضروري للمساهمة في عملية إعادة بناء الدولة الوطنية المستقلة وتوحيد المجتمع وتطوير النظام السياسي وتبني نهج اقتصادي وطني وتنموي. وهذا التيار، المنتشر بشكل واسع، هو أصلاً مشدود، فكرياً وسياسياً ووجدانياً، بإرادة وتصميم على خوض المعركة الوطنية. وهو يكتفي، حتى الآن، بخوض هذه المعركة على الجبهات الفكرية والسياسية والإعلامية والشعبية والتعبوية، وله في ذلك مساهمات نوعية، كان للعديد منها أثر كبير لا يمكن تجاهله. لا بل إن بعض هذه المساهمات («الأخبار»، ناهض حتر) جرى التأسيس عليه لإعادة تصويب وجهة بعض الخيارات الكبرى. كذلك إن المساهمة النوعية المميزة في هذا المجال، تتجلى في الدور الوطني والتوحيدي الكبير الذي يقوم به «الرفيق» قدري جميل، من موقعه الرسمي كوزير في الحكومة السورية، ممثلاً لحزب الإرادة الشعبية. وفي لبنان تتقدم المعركة الايديولوجية أيضاً بمساهمة واسعة نسبياً استطاعت تطويق أثر الليبراليين على الخيارات الوطنية لليسار. إن هذا الدور المؤثر، على الجبهات آنفة الذكر، لا يزال ينقصه، لكي يكتمل، إطلاق القدرات الكامنة، لدى هذا التيار، في المجال العسكري المقاوم. ولقد تبيّن لنا، أثناء انعقاد «اللقاء المشرقي للدفاع عن سوريا»، الذي انعقد في بيروت هذا الصيف، بمبادرة يسارية، أن الدعوة لقيام مقاومة مشرقية لاقت ترحيباً ودعماً وتأييداً من المشاركين من بلدان المشرق العربي، الذين تبنوا توصيات ملموسة في هذا المجال يجري العمل على ترجمتها. ومع أن بعض الأحزاب اليسارية، المتأثرة بالنزعات الليبرالية، كانت قد رأت «أن المؤامرة الخارجية على سوريا لا تواجه بالوسائل العسكرية» (بيان اللقاء اليساري العربي)، فإن معظم القوى المشاركة في هذا اللقاء نفسه، وجماهيرها، هي من أنصار المشاركة الفعالة في المعركة الوطنية. مع ذلك، ثمة مسافة لا تزال تفصل ما بين الإرادة السياسية والترجمة العملية، وهي مسافة بات تجاوزها سريعاً، مهمة حيوية وداهمة. فكيف السبيل إلى ذلك؟
واقعياً، لا بد من الإقرار، علانية، بوجود معوقين اثنين، سياسي وعملاني، يؤخران القيامة الفعلية لجبهة المقاومة المشرقية.
المعوق السياسي محدود أثره، لتعلقه بمسألة كلاسيكية، هي مسألة التحالفات والتقاطعات بالنسبة إلى الأحزاب العمالية والشيوعية. يوجد، في هذا المجال، انقسام بالرأي، مؤداه استنكاف البعض عن التقاطع أو التحالف في جبهة وطنية شعبية ضد الاحتلال والعدوان بسبب الموقف من بعض القوى المشاركة في مثل هذه الجبهة. وهذا الموقف تعبّر عنه، على سبيل المثال، القيادة الحالية للحزب الشيوعي اللبناني. غير أن التيار الأقوى والأوسع انتشاراً، لبنانياً وعربياً، هو التيار الذي يعتبر المسألة الوطنية أولوية تفترض عملاً جبهوياً وطنياً يقوم على مساحة الالتقاء المشترك بين قوى مختلفة. لكن نفس هذا التيار يتحرك ضمن ثابتتين: سياسية وأخلاقية. فخيار المقاومة بالنسبة إليه غير منفصل عن الخيارات السياسية الداخلية، ما يحتم ـ بالتالي ـ تمسكه باستقلالية واضحة نسبياً ضمن إطار أي تحالف جبهوي مقاوم.
أما المعوق الثاني، العملاني، فأثره كبير وحيوي. ذلك أن القدرة على تجاوزه، بشكل كامل، لا تتوافر لدى التيار اليساري العروبي التحرري، رغم سعة انتشاره في المشرق. فبيئته الأساسية وجماهيره تتشكل من الفئات الشعبية، المحدودة الدخل أو معدومته. وهذا التيار، إذ يختزن كل ما لا يستطيع المال «شراءه»، يحتاج إلى ما لا يمكن توفيره إلا بالمال. فمن دون دعم مالي ولوجستي جدي، لن يكون بمقدور التيار اليساري، ومعه جبهة المقاومة المشرقية، أن يقدم مساهمة وازنة وتحمل فرقاً.
من الواضح أن تجاوز هذين المعوقين، السياسي والعملاني، هو أمر ممكن ربطاً بإرادة واستعداد جميع المعنيين، وخصوصاً بقناعتهم المشتركة بالضرورة الوطنية والقومية لتوسيع قاعدة الحلف المقاوم، في مواجهة التحالف الموسع للعدوان. فالاستقلالية داخل منظومة التحالف الوطني المقاوم ضد الاحتلال والعدوان، هي أمر ممكن تكريسه من خلال اعتماد قيادة موثوقة ونزيهة وشفافة ومتمسكة بالمعيار الأخلاقي ومعتدة، بعقلانية وباستقلاليتها. أما ما يتخطى ذلك، فهو يخضع، باعتباره ممارسة سياسية، للشروط الموضوعية للتحالف وأوزان وأدوار مختلف مكوناته. وهو ما يعني أنه دائماً عملية صراعية داخل الوحدة. فاستقلال الخيار السياسي لا يطلب بل يمارس. ويفترض أن يقابل ذلك من قبل الحلف المقاوم، بقناعة أكيدة بأنّ القيمة المضافة، المطلوبة موضوعياً، لليسار لا تتمثل فقط في الدور العسكري المقاوم نفسه، بقدر ما تتجسد في المغزى السياسي والاجتماعي لهذا الدور، ونتائجه على الصعد المحلية والإقليمية والدولية.
أما الجانب المتعلق بالاحتياجات العملانية، فيتطلب فهماً مشتركاً يقود إلى معالجة مرهفة ودقيقة تنهل من الثقافة العربية ما يتصل بقيم الاقتدار وسلوك الكرام واحترام العزّة بالنفس. ذلك أن أقصى ما يمكن اليسار، في ظل ظروفه القيام به، هو المساهمة الرمزية والمحدودة ربطاً بالقدرة. وذلك حاصل، أصلاً، في بؤر صغيرة داخل هذا البلد أو ذاك، بما لا يتجاوز التعبير عن الشعور بالمسؤولية الوطنية.
فمن جهة، التيار اليساري يفيد تراث وتجارب وتاريخ الحركات المقاومة الشعبية بأنّ «إنجازاتها» لم تكن لتتم بمعزل عن دعم جهات تؤيدها من «خارجها». وبناءً عليه، فإنه لا يوجد «مثلبة» ولا «سابقة»، في صوغ علاقة تستند إلى ما تقدّم ذكره تتيح تلقي الدعم، بشكل غير حصري، من المحور المقاوم. وهو محور مكوّن بوضوح من إيران وحزب الله والنظام السوري (السابق). ويفيد في هذا المجال الإشارة إلى أن تلقي الدعم سابقاً من منظمة التحرير الفلسطينية، المموّلة من أنظمة الخليج الرجعية لم يجر التعاطي معه بمثل هذه الحساسية التي يروجها اليساريون السابقون والليبراليون الحاليون. أما من جهة الحلف المقاوم نفسه، فإن شعوره، لو كان موجوداً، بالحاجة إلى تحصين مقاومته، وطنياً وقومياً، وما يتطلبه ذلك من دعم لأطراف أخرى، يجب ألا يبقى أسير العزّة بالنفس ولا الاشتراطات الأيديولوجية. إن تجاوز المكابرة والاعتراف بموجبات الضرورات النضالية، الموضوعية، يجب أن يلهم جميع التيارات الحريصة على انتصار الخيار الوطني الاستقلالي المقاوم في منطقتنا. فليس منطقياً أن تقف إشكالية سياسية فرعية، وأخرى عملانية وفنية في نهاية المطاف رغم بعدها القيمي والأخلاقي، حائلاً دون انخراط سياسي وشعبي واسع في المعركة الوطنية ضد حلف العدوان والتسلُّط. لا بل أكاد أقول، دون تحفظ أو تردد، إن هذا الأمر يجب ألّا يكون مسموحاً به من زاوية المسؤولية الوطنية. ففي ظروف المعركة الوطنية، لا بد من إدارة دقيقة لعلاقة الدعم والمقابل. فمن المفهوم أنه يجب ألّا يتعدّى كل من الحاجة والدعم حدود الموجبات الوطنية للمعركة. لا بل من الأدق القول إنّ مجرد وجود اشتراطات لدى أي من الفريقين، هو دليل على أن الموقف المعلن لا ينبع من منطلقات وطنية. ومهما كابر التيار اليساري العروبي التحرري ومهما اعتدّ بتاريخ نضالاته المجيدة، فلا يستطيع أن يهرب من حقيقة أن تفعيل دوره يتطلب دعماً مالياً ولوجستياً. ومهما كابرت مكونات الحلف الدفاعي الحالي فلا تستطيع أن تهرب من حقيقة أن سمتها الفئوية الغالبة تعوق توسعها وتمددها وتحصين بيئتها الحاضنة. فهل تكفي هاتان الحقيقتان للوصول إلى الاستنتاج الضروري؟
ما يجب أن يعزز ذلك، باعتقادنا، هو التطورات الأخيرة في سوريا حيث تندفع الأمور باتجاه تركز المعركة الوطنية في مجال البناء الداخلي بصفته عامل قوة أو إضعاف للخيار الوطني المقاوم. وفي هذا المجال ستزداد الحاجة إلى تراث التيار المقاوم الذي يربط بين معركتي التحرير والتغيير، وهو الشعار الذي رفعته «جمول». في ذكراها، وذكرى أبطالها وشهدائها، تتأكد الحاجة إليها مجدداً كي تكون رافعة للمقاومة على مستوى المشرق.
* قيادي يساري ــ لبنان