(1)

قضايا المشرق | صحيح أن الأنباط كانوا من أصول عربية، لكن في عهد ازدهار البتراء كان الإسلام في رحم التاريخ، بينما كانت الوثنية الموغلة بالقدم تحت حماية الحضارة اليونانية الرومانية، المزينة لكل الوثنيات السابقة والمعاصرة والمستقبلية، كانت أناقة وزينة الخزنة تكتسب معاني واسعة وساحرة من التدين الغامض.

إنها الخزنة، القلب النابض الساحر والخرافي لعاصمة الأنباط؛ الحيطان الصخرية تصعد إلى أعلى متحولة من كل الجهات الى مناديل زرقاء فاتحة. الخزنة مغموسة في ظلال باردة، حزينة، حلوة كتلك التي تلف أروقة الكنائس والمساجد.
الروائي ألبرتو مورافيا (بتراء اللامدينة: عاصمة سكان الكهف)

(2)


الصحراء أيضاً لم تتأخر ... آوت خلقاً كثيراً، وأنبتت له زروعاً وشجراً ونعماً أخرى، فأكلوا، وتعارفوا، وتكاثروا، وفتشوا أيضاً اهتدوا إلى إيماءات الخفاء، وقوّموا الأنام في الناموس.
في قيعان اليم نامت الأقوام التي سارت يوماً على الشطآن ورقدت آثار الأولين الذين أبدعوا أنبل آيات العمران وشيّدوا أجمل البنيان وشقّوا بين الديار الدروب، وبصموا أحاضيض السبل بعجيب النقش ووسموا الأرض بمنظومات الفسيفساء.
الروائي إبراهيم الكوني (صحراء الكبرى)

(3)


أطبقت أجفانها. من تكون هي، إن كانت التواريخ تتكرر في كل مكان، وكانت صفحات أشخاصها تتمازج الواحدة بالأخرى؟ وما يكون الانبعاث؛ إن كان لا نهاية لأي شيء؟ لعل الأمر أن يكون شيئاً آخر تواصلاً دائماً، واستئنافاً أبدياً.
استأنفت سيرها، من دون وعي. بلغت المنعطف الأخير في وادي السيق، اتسعت الجدران الصخرية، كما لو أنها تصبح ممراً لوليد جديد يبحث عن مخرج يتيح له أن يغادر رحم الأمومية، ويتنشّق الهواء الحر ويرى ضوء النهار.
شمس الصباح، فيما وراء الظل، تشع ساطعة على الواجهة الوردية للخزنة، فوق عري إيزيس الساحر.
آن واد مينكوفسكي (إيزيس في البتراء)

(4)


كان المكان خالياً تماماً وبارداً. وقف في الزاوية الأكثر ظلمة، وضع رأسه بين يديه وبكى بصمت. كان الزوار يمرون لا ينتبهون لوجوده. كان يؤلف جزءاً من الحجر الأحمر، امتزج بالصخر. لم يعد هنا على الإطلاق. دموعه ترشح مثل الرطوبة فوق الجدار، لم يكن يعلم أنه سيبكي من الانفعال، يوماً، داخل ضريح الحارث الثالث الملك النبطي، انه الشاهد المتأخر على حب ضائع وعلى ولهٍ محطم، كان يفكر في شجاعة هؤلاء العرب البدو الذين نحتوا في الصخر علامات الأبدية، تلك الأبدية التي جعلت من ذكرهم سماء ثابتة، ولغزاً وكنزاً يتعذر الحصول عليه ...
الروائي الطاهر بن جلون (عائده)

(5)


ما هي الأشكال الوردية التي تخفق وراء الشق في نهاية السيق؟
ظهور مرتبك عند العطفة الأخيرة للمضيق المؤدي إلى مشهد فسيح هل هو فتح المسافة أمام الصوفي بعد إقامته من خرم إبرة؟
«حين تتسع الرؤية تضيق العبارة»، يقول النفري، رجل اليقظة والليل في مخاطباته الإلهية. ينهكه المطلق كما ينهك السراب التائه في الصحراء.
النفس متقطع. نشعر بالانبهار أمام أشهر صروح الموقع. لم يهدأ ذهولي إلا لاحقاً بعد زيارات عدة إثر مشاهدتي صور المعبد/ الضريح الواجهة العالية المنحوتة في الجبل توقظ إحساساًً بالقرب يجعل الانتماء إليها غير مقرر. إن اصطدام الأمكنة والأزمنة يشوّش المعالم، فلا أعود أعرف ما إذا كنت بالإسكندرية أو في آسيا الصغرى في بومبي أو هركولانوم، في العصر البطليموسي أو الاستهلاني، هل أنا أمام رسم خداع أم مبنى حقيقي؟
عبد الوهاب المؤوب (البقعة البيضاء)

(6)


وانظروا إلى عربة الفجر تنزل الشمس منها. تخيّلوا كيف كانت البتراء تنهض كل يوم تمسح جبين النهار وتسير لتكتب تاريخها في موكب من أحصنة الضوء.
إنها الشمس تستيقظ عارية حتى من قميص نومها، تنظر إلى من شقوق نافذتي فيما أنهض، وتقول ناري اليوم سلام وبرد، وكان النهار قد بدأ يتسلّق سلالم الحجر.
تحسنت حنجرتي _ هل سأقدر أم أقول ما لم أعرف أبداً كيف أقوله؟
صخور تنتقش كما يخطر للعين، وجوهاً أعناقاً، أثداءً أردافاً، شموعاً قناديل وسائد أسرة مناديل.
أضيفوا للعلوم علماً آخر _ كيف يلبس الحجر الغواية، كيف يشتهي ويشتهي فاتحاً صدره باسطاً ذراعيه، وكيف يهيئ سريره ويخيل إليك أنك تسمع أهل البتراء يتحدثون معك في الأبواب والنوافذ في الأودية وعلى الذروات تؤمن أن ما معنى هو الباقي أن الذي يطفو بين قدميك دخان عابر.
أدونيس

(7)


... ووجدني أبحث عن تاريخ البتراء وأقرأ كل ما تقع يدي عليه، بالعربية والإنكليزية عن الأنباط الذين بنوها وأحاول تحديد موقعها الزمني من العصور العربية الموغلة في القدم، وصلاتها بالحضارات المحيطة بها، من البابلية والفرعونية إلى الآرامية واليونانية، حتى استبد بي الدافع الذي لحسن الحظ عجزت عن مطالبته، وذهبت أخيراً إلى مدينة الصخر التي لم تعرف البشرية مثيلاً لها شكلاً ولوناً وطريقة في الحياة.
جبرا إبراهيم جبرا

حكمة الصخر


(1)


كل مكان لا يؤنّث لا يعوّل عليه
ابن العربي

(2)


لقد أنشأ الأنباط حضارة كونية ... هي تجسيد مصغر ومسبق للإمبراطورية الإسلامية
المفكر السويسري فيرنر فيسيكل


(3)


تتبع أحوال الأنباط يشير الى مدى تقديسهم للحرية، إنهم شعب مؤسس على الحرية شديد التعلق بها على نحو استثنائي، متمترسون بالصحراء، يتخذونها معقلاً يلجأون إليها كلما واجههم عدو كبير. لا الآشوريون القدماء ولا حتى ملوك مدين الفرس ولا ملوك المقدونيين تمكنوا من استبعادهم مع أنهم سيّروا جيوشاً عظيمة ضدهم ولم يكتب لمحاولات الاعتداء عليهم أي نجاح.
تيودور الصقيلي

(4)


كانت البتراء في القرنين الأول قبل الميلاد والأول بعد الميلاد مدينة عالمية بمعنى الكلمة، تسمع فيها كل اللغات ويشاهد بها جماعات من كل الأجناس والأعراق، لقد شكلت أنموذجاً للتعدد الثقافي والحفاظ على الهوية في الوقت نفسه.
أ. د. فيليب هامون

(5)


السؤال الكبير هو: كيف استطاع هؤلاء البدو (الأنباط) أن يتحولوا من حالة البداوة إلى وضع زراعي وتجاري وأن يبلغوا مستوى رفيعاً من الفنون؟ قد نحشد هنا تعليلات مختلفة، بعضها يقول بحيوية خاصة منحها ذلك الشعب، وبعضها يحيل السائل إلى قوة المؤشرات الحضارية التي أحاطت بهم، وربما قيل إنّ تلك النقلة لم تحدث خلال وقت قصير، وإنما استغرقت ما يقارب من ثلاثة قرون حتى اكتملت لها أسبابها. ولكن مهما نحشد من تعليلات، تظل الظاهرة في ذاتها مبعث دهشة وتأمل وإعجاب.
إحسان عباس

(6)


بلاد بونت التي جاء ذكرها متكرراً في النصوص المصرية، وما جاء بشأن تفصيلاتها الدقيقة في لوحات حتشبوت بالدير البحري والتي عرفت باسم «أرض الإلهة»، وكانت بلاداً تستحق تجريد الحملات عليها بين حين وآخر كما تستحق الزيارات الودية للتبادل التجاري في أحيان أخرى، وباعتبارها ذات صلات حميمة بمصر للحد الذي لم يخص الهيروغليفي بلاداً أجنبية مثل ما خصّها في المدونات المصرية، أن بونت هذه إطلاقاً لم تكن تقع في أفريقيا ولا في اليمن ولا على سواحل عسير في الجزيرة العربية ولا في فلسطين زمن سليمان ولا هي هي بلاد الهند، إنها عاصمة بلاد الأدوميين القديمة التي حملت اسم «سالع» وعاصمة الأنباط «البتراء» وإن كليهما يعنيان معنى واحداً يدل على طبيعة المكان ومناعته.
د. سيد القمني