يقول الإمام الشافعي: «ما جادلتُ عالماً إلا وغلبته، وما جادلني جاهلٌ إلا غلبني». يوصف أحياناً كلام الشافعي هذا بالاستعلائي، فالادعاء المقابل والمنطقي الجاهز هو: لا أحد ينفرد بحق القرار حول من هو الجاهل ومن هو العالم/ المثقف.
يوجه الشافعي كلامه هذا الى العالِم (المثقف)، يَعلم الشافعي أن من سيقرأ كلامه هو من يبحث عن العلم لا جاهلٌ. بقوله هذا يعمل الشافعي عملين: 1) هو يحث الناس على المزيد من العلم، 2) يعرف نفسه كمثقف ذي وظيفة ومسؤولية.
الجهل هو حقيقة موجودة، وحل «الأحجية» التي طرحها الشافعي أعلاه وأنا على يقين أن الشافعي عرفه كل المعرفه هو: الجاهل لا يُجادل. الجاهل يمكن حثه على العلم والمعرفة وإن تكاسل ورفض ذلك فسيبقى جاهلاً.

في كتابه «مستقبلٌ واهم» الذي يعالج به سيغموند فرويد موضوع الأديان يقول: «الجماهير دائماً غبية» (نعم بهذه البساطة!). إذا خففنا من شدة وضوح هذا الجملة ووقعها، نقول: إن الجماهير دائماً أكسل من أن تبحث عن المعلومة بل تريدها أن تصل جاهزة وبقوالب بسيطة وواضحة ليتمكنوا من مضغها وتكرارها بسهولة، هذا الأمر يجعل الجماهير فريسة لأبسط وأسخف الدعايات بل وأحقرها.
الجاهل الكسول الذي لا يبحث عن المعرفة لا يمكن اقناعه الا بالدعاية. الدعاية ممكن أن تلعب على وتر جمعي (قومي مثلاً) و/ أو عشوائي (ديني مثلاً) ولكن العامل الحاسم هو أن تلعب الدعاية على وتر الخوف. كلما كان الخطر الذي كانت تروّج له الدعاية أوضح (لا بواقعيته بل ببساطة استيعابه) كان نطاق تأثير الدعاية أوسع.
البروباغندا هي ظاهرة موجودة وستبقى موجودة دائماً، ليس بامكاننا أن نفرض واقعاً «لا دعائياً» في سيرورة هذه البشرية الممتدة من مسارح الرومان الدعائية المتنقلة في أرجاء الإمبراطورية حتى شعراء البلاط عند العرب وصولاً إلى قناة «الفوكس نيوز» في الولايات المتحدة. الدعاية حتمية. في ظل هذا الواقع يُسأل السؤال:
أليس من واجب أولئك الذين لا يتقاعسون عن الوصول إلى المعلومة أن يصبّوا قوالب دعاية مضادة عدا كونهم معارضين ناقدين؟ أليس من واجب المثقفين أن يستعملوا آليات الدعاية نفسها بكل انحيازها من أجل تخويف الجماهير من العدو الحقيقي، خصوصاً حين تهب رياح المحن والأزمات؟ ولا بد أن يقوم فصيح ويقول: «لكن من هو العدو الحقيقي!».
إن مراجعة تاريخ العرب منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى وانهيار الامبراطورية العثمانية، يمكنها أن توصلنا إلى استنتاج واحد فقط: عدونا هو الامبريالية، تنفذ الامبريالية مخططاتها عن طريق محاولات لتفكيك الأمة ومن ما زال يشك بمقولة «فرّق تسد»، وأن الأمة المفككة يصعب أن تدحر عدوها، ومن ما زال يرفض أن يراجع تاريخ البلاد ويعرف أن سبب نجاح الحملة الصليبية الأولى في بلادنا كان الأمة المفككة آنذاك. ومن لا يعي أن ما نعيشه اليوم هو ناتج لاتفاقية سايكس ــ بيكو المشؤومة، ومن ما زال لا يأبه لهذا الكلام أو يأخذه بعين الإعتبار فهو إما منتفع وإما جاهلٌ كسول لا كلام معه ولا جدال! من الصعب اقناع المنتفع لكن بالإمكان الوصل والتأثير على الجاهل الكسول.
مثال معاصر لدعاية حقيرة هو «الخطر الشيعي»/ «الشيعة هم كفّار»، هذا أبسط نوع من الدعايات وأشده تأثيراً. فهناك عدو واضح (الشيعة) وهو «خطر» ثم إن كون الشيعة «كفّاراً» يبطل أي نقاش يمكن أن يتم الخوض به حول أي فعل أو خطوة حسنة لأي فرد شيعي أو حزب يرأسه شيعي، في الفكر الدعائي المضاد لهذه الدعاية لا يجب أن تكتفي وسائل الإعلام بأن تعطي منصة لشخصيات وطنية تنتمي للطائفة الشيعية أو ابراز انجازات حزب الله على وجه المثال. هذا سيكون استمراراً لنهج «الجدال مع الجاهل»، بل عليك أن تضرب بالدعاية المضادة ذاتها مثل أن تحضر رجل دين سنياً ذا مرجعية دينية واجتماعية، وأن «تبيع» بواسطته الخطر الحقيقي، خطر الطائفية الذي لن يؤدي إلا إلى إضعاف الأمة. كثير ما تلجأ قناة «الميادين» إلى هذه الطريقة.
لا يمكن القبول بواقع ينفرد به رئيس الاستخبارات السعودية الأمير بندر بن سلطان والشيخ يوسف القرضاوي بالدعاية عن أهمية الهجوم الأميركي على سوريا، بينما يقف المثقفون وقفة المعارض الناقد. كذلك لا يمكن أن تترك الساحة لقنوات سورية موالية للنظام. التلفزة السورية الإخبارية هي ديناصور بروباغندي قد انقرض في جميع أصقاع الكرة الأرضية، لكنه ما زال ينبض في دولتي سوريا وكوريا الشمالية.
يمكن الجزم أن هذه القنوات توقفت بتطوير فكرها الدعائي عند قنوات البروباغندا الستالينية في ستينيات القرن المنصرم، ولم تتحسن مذّاك الا بالمؤثرات البصرية والصوتية. أذكر أنني كنت أستسخف القناة السورية وأنا طفل أنتظر ساعة برامج الأطفال، فما بالك بعد عشرين عاماً وهم ما زالوا يزرعون صور الرئيس في كل بث ويغنون ويهللون للجيش السوري. إن تقارير قناة سوريا الإخبارية هي تقارير تلقينية بحتة، خطاب مباشر وحقن أفكار. إذا ما عدنا لقول فرويد إنّ «الجماهير دائماً غبية»، نريد أن نقول للقناة الأخبارية السورية: لكن ليس بهذا الغباء!
لا يمكن التعويل على الإعلام السوري بأن يبث الدعاية المضادة ضد العدوان على سوريا، فبالإضافة لأدوات البروباغندا المُستهلكة وكليشاهاته الرخيصة فهو بالأول والأخير يعمل بشكل معلن تحت إمرة النظام.
إن الاسم الرسمي لمخطط الهجوم الأميركي على سوريا في أغلب قنوات التلفزة (العربية أيضاً) هو «الضربة الأميركية / الغربية»، وهذا المصطلح يمر عند أغلب المشاهدين مرور الكرام. إن تسمية هذا الهجوم بـ«ضربة» هو تطبيع مع هذا الهجوم وشرعنته، أما الاسم الذي اختارته قناة «الميادين» فهو «العدوان الأميركي». قناة «الميادين» هي قناة وطنية حتى الآن، فالوطني عليه أن يعرف ويعي ما هي أخطار وأبعاد دخول الولايات المتحدة إلى سوريا. الوطني يعي ويعلم ما أصاب شعبنا في العراق جرّاء الحرب الأميركية، والوطني يعرف ما سبب تشوق إسرائيل للعدوان على سوريا.
«الميادين» قناة تقف بحزم ضد هذا الهجوم. هناك العديد من المآخذ على هذه القناة في ما يتعلق بتغطيتها لأخبار الحرب الأهلية في سوريا وتقاعسها عن الوصول إلى المواطنين السوريين المعارضين الشرفاء في ساحة المعركة، إلا أنه وفي ما يتعلق بمخططات الولايات المتحدة لضرب سوريا، فالأجدر دعمها بل والتشبث بها لتجند وتجيّش الجماهير وتُهزّئ كل جاهل ومنتفع وأحمق يدعم هذا العدوان الكارثي على سوريا. إن الدعاية المضادة ضد الحرب على سوريا هو عمل في قمة الوطنية، كما كانت الدعاية المضادة ضد الإخوان المسلمين في مصر وكشف تآمرهم على الثورة عملاً وطنياً. للأسف استمرت الدعاية ضد «الإخوان» عند أغلب القنوات والصحف المصرية حتى بعد سقوطهم عن العرش، بل وباتت تتستر على أخطاء نظام العسكر. أتمنى أن لا تحذو «الميادين» حذو تلك القنوات. إن عدم البحث الجدي بجرائم النظام يمكنه أن يفقدها صدقيتها.
* كاتب فلسطيني