الانشغال الزائد بالمسألة السورية له ما يبرّره طبعاً، وخصوصاً لجهة إتيانها ــ فوقياً ــ على نمط كامل من العلاقات الدولية. هكذا أفهم «كمنخرط في الصراع» وكيساري معني بالكتل الاجتماعية التي همّشتها الحرب حدود المسألة تلك. أمّا ما يفيض عن هذه الحدود فهو مصطنع على الأغلب، ولا يمتّ إلى اهتمامات اليسار بصلة، لا بل يكاد يعطّل عملية انخراطنا الفعلي في صراع الطبقات على مستوى العالم. لسبب ما لا يبدو مفهوماً بالنسبة لي حدث «الانخراط» هنا بدينامية عكسية وتورّط اليسار المعني أصلاً بقضية الصراع الاجتماعي في عملية كادت تستهلكه تماماً، وتستنزف قدرته على مجابهة صراع الرأسماليات (حصل الاستخدام على النحو الآتي: طرف استخدم من جانب الروس وحلفائهم والطرف الآخر من جانب الامبريالية الأميركية وأتباعها). بالأساس لم يكن التعويل على اليسار بشقّيه مجدياً في هذه المرحلة. فنحن نعلم تماماً من تجربة سوريا أنّ اليسار المساند «للثورة» أو المناهض لها هو الأقلّ حساسية من بين أقرانه في العالم تجاه الصراع الذي تخوضه الطبقات العاملة والكادحة هذه الأيام. وإذا ما استعرضنا نتاج هؤلاء حيال تصاعد الاحتجاجات العمّالية والفلّاحية في المنطقة والعالم (مصر، تونس، جنوب أفريقيا، كولومبيا، تشيلي... إلخ) فسنجد أنّه هزيل جدّاً بالقياس إلى الجهد الذي انصبّ على تبرير عمليات القتل داخل سوريا وتسويغها (مرّة باسم الثورة ومرّة أخرى باسم الممانعة، وكلتاهما أهزل من الأخرى). سبق أن تحدثنا هنا عن «الأكشن» الذي توفّره عملية الاصطفاف إلى جانب طرف يمارس القتل والتهجير، وهو ما لا يتوافر بالقدر نفسه لطبقة لا تجد من يصطفّ خلفها، أو من يصفّق لبطولاتها. طبقة «حطّمها تماماً» صراع النظام الفاشي مع فاشيّات مجرمة مثله، ومع ذلك لم ألحظ لها ولمعاناتها وجوداً في كلّ النتاج اليساروي الذي واكب الاحتجاجات ــ ما خلا بعض الأدبيات التي كانت تصدر بين الفينة والأخرى عن تيّار اليسار الثوري ــ وهذه ليست صدفة بالمناسبة، «فاليسار» هنا ينفّذ أجندة يمينية بالكامل ويتلقّى تمويله من جهات (مستعمرات الخليج عموماً وأخصّ بالذكر قطر والسعودية) تبطش بالعمّال في بلدانها وتواظب على سنّ تشريعات مناهضة لحقوقهم، هذا إذا لم تخرجهم بالكامل من سوق العمل في حال لجوئهم إلى الإضراب. للتذكير فقط فإنّ «مئات العمّال» قد قتلوا منذ بداية الصراع هنا، ولم يجرؤ أحد من هؤلاء اليسارويين على ذكرهم لمجرّد أنهم ينتمون إلى طرف معيّن. الإدانة تحصل وفقاً للانتماء السياسوي فقط (وأحيانا الطائفي)، فالطبقة التي ينتمي إليها أولئك الفقراء والمسحوقون لا تدخل في التصنيفات المتعارف عليها، لا بل يجري تهميشها بالضبط لأنّها طاردة للتصنيفات الكولونيالية ومفكّكة لها. لقد لاقى العمّال بالفعل عنفاً يمكن وصفه بالوظيفي والمقصود لذاته، فهم الطبقة التي تحفظ إضافة إلى وحدتها وحدة المجتمع وتماسكه، وهذا سبب إضافي لتعميق كراهية الرأسماليات والكومبرادور المحلّي لهم (هل من يذكر رامي مخلوف؟). يفعلون ذلك بتفان رغم أنّهم ليسوا أكثرية داخل المجتمع، ورغم كون هذا المجتمع زراعيّاً أكثر منه صناعيّاً. كلّ هذا لم يمنعهم من فعل ما يجب فعله، أقلّه لردع الحرب عن تحطيم طبقات أخرى داخل المجتمع. يمكن كذلك الحديث عن قدرة العمّال على الاستمرار في ظلّ «بيئة صناعيّة» يشرف النظام على توزيع عوائدها، وحين يصل الباقي أو المتّفق عليه إلى بيئة المعارضة ينهب بدوره، ولا يصل منه إلى المهمّشين والفئات الضعيفة إلّا الفتات. هكذا تشتغل آلة الحرب عادة، مستفيدة من تقلّص بيئة العمل وخروج عشرات الآلاف من العمّال إلى العطالة الموقّتة أو الدائمة (دمّرت حتى الآن مئات المصانع على يد النظام وخرجت مئات مثلها عن العمل بمعيّة ميليشيات المعارضة ورعاتها من الرأسماليين الأتراك). وهذا ما سيدفع غالباً بالكتلة المتعطّلة تلك إلى الانخراط في أيّ نشاط اقتصادي يوفّر لها دخلاً معقولاً. وفي مثل هذه الأوقات لا وجود لنشاطات تدرّ دخلاً خارج إطار الحرب واقتصادها (مثلا تكرير النفط يدويّاً وعلى نحو بدائي في مناطق الجزيرة التي سيطر عليها مسلّحو المعارضة أو التوظيف الكثيف في الميليشيات التي يشرف على تمويلها رجال أعمال مقرّبون من النظام). ها هنا يأتي دور اليسار، لا ليوفّر فحسب بيئة تمنع توظيف مزيد من العمّال في خدمة اقتصاد الحرب، بل لتقديم بدائل أيضاً تتيح لهؤلاء بأن يتفلّتوا تماماً من قبضة مافيات السلطة والمعارضة. حتّى الآن لا يبدو ذلك ممكناً، ولكنّه ليس مستحيلاً بالمطلق، وخصوصاً مع تزايد الاعتراضات على السياسات الاجتماعية للمعارضة في أماكن هيمنتها (لا يزال الاعتراض جنينيّاً داخل بيئة السلطة!). أتمنّى أن يكون النشطاء الباقون هنا على تفاعل مستمرّ مع الواقع المتغيّر باستمرار، فاللحظة الآن مواتية بالفعل للتصويب على اقتصاد الحرب الذي يستخدم في مواجهتنا فحسب، وفي سبيل أن نبقى حطباً للحرب لا أكثر. وفي الأثناء يشعر المرء بالحاجة إلى يسار على النّسقين المصري والتونسي، فهناك حيث التحلّل الاجتماعي لا يزال يجري أفقياً ثمّة من يدافع عن العمّال بمواظبة قلّ نظيرها، وثمّة أيضاً من يناضل ويكافح (أذكر على سبيل المثال لا الحصر خالد علي، هيثم محمّدين، مالك عدلي) لتثبيت وحدة الطبقة العاملة وتدعيم النقابات التي تحفظ لها استقلاليتها عن الدولة وأجهزتها. يحدث كلّ ذلك فيما اليسار هنا عاجز بشقّيه الممانع والمتهكّم على الممانعة عن مجرّد المواكبة لأخبار العمّال أثناء الحرب. لا نريده أن يحضّهم على الوحدة وعدم الانخراط في الحرب اقتصاديّاً، فهذا رهن بالشّروط التي يتحرّكون من خلالها، وبالقدرة على تغييرها لاحقاً. ما نريده من هؤلاء فقط هو أن يتذكّروا أنّ هنالك من يقتل في سوريا لمجرّد ذهابه إلى المعمل صباحاً خلافاً لرغبة القنّاص، أو لوجوده في المخبز أثناء قصف الطيران الحربي للحيّ. لنعتبر التذكّر وعدم النسيان بمثابة فعل هنا، فهو في حالة سوريا انجاز فعلاً، وخصوصاً لدى من بقي في البلد يجابه الحرب ويكافح لاحتواء آثارها على المجتمع. وهؤلاء كثر في الحقيقة وإن لم يظهروا إلى العلن بما فيه الكفاية. تناولهم التفصيلي أحياناً لأخبار الطبقة العاملة ومعاناتها هو ما يجعلنا نفكّر مرّتين قبل إطلاق رصاصة الرحمة على اليسار عموماً. لنقل أنّ يساراً جديداً سيولد مع الوقت من هنا، وسيكون بالفعل امتداداً طبيعيّاً لليسار الذي يتشكّل الآن في مصر (وبدرجة أقلّ في تونس) على وقع الإضرابات العمالية والقطّاعية المتعاظمة. أمّا في لبنان (وكذا الأردن رغم كلّ ما يكتب عن الحراك الاجتماعي هناك) فلا يوجد شيء من هذا، والاستثناء الذي مثّلته هيئة التنسيق النقابية سيبقى استثناء لأنّه محكوم بتوازنات طبقية (لا طائفية) لا يسهل الخروج عليها. على اليسار في لبنان أن يدرك بجدّية أنّه لم يعد قادراً على تقديم النموذج، فالحدث الآن يصنع بمعزل عن تأثيره، والكتل الاجتماعية التي تنتفض هنا وهناك غير خاضعة للمسطرة التي يتحرّك من خلالها النشطاء اللبنانيون. بالمناسبة أين هم الآن ممّا يحدث في العالم من إضرابات واحتجاجات، ولماذا يعجزون عن إيصال تحرّك مطلبي واحد إلى خواتيمه. ثمّة خوف يعتريهم من حصول تحلّل اجتماعي في بيئتهم «مشابه» لما يحدث في سوريا ومصر وتونس و... إلخ. لكنّه في الحقيقة خوف مصطنع ولا يستند إلى منطق متماسك. شخصيّاً أجد أنّ المنطق المتماسك الوحيد هناك هو منطق المصارف وأصحاب الرساميل والمافيات السياسية، فيما اليسار والعمّال والطبقة الوسطى غارقون في مماحكات لا طائل منها، وبالتالي لا يشعر النظام ومترسملوه بالخوف منهم أو ممّن يمثلون. وهذا سبب إضافي لبقاء لبنان خارج سياق التحلّل الاجتماعي الحاصل في المنطقة. على هؤلاء إذا أرادوا التأثير فعلاً أن ينخرطوا في الصراع، وأن يكونوا مستعدّين لدفع الثمن، لا أن ينأوا بأنفسهم باستمرار ويكتفوا بالمياومة النضالية غير المستندة إلى سياق اجتماعي. لا يمكن أصلاً مواكبة الاحتجاجات العمّالية والقطاعية في المنطقة والعالم خارج السياق ذاك، وإلّا أصبحنا خارج التاريخ لا خارج التأثير فحسب. الصيرورة الثورية في مصر وتونس «وسوريا» لم تنشأ من فراغ، ولن يكون بإمكانها الاستمرار من دون وجود قاعدة اجتماعية وطبقية عريضة ترفدها بالكوادر المستعدّة للتنازل عن أمور كثيرة في سبيل أن تصبح الثورة ممكنة أكثر. هذا هو الشيء الوحيد الذي يضمن حدوث القطيعة مع النظم والسلالات المتحالفة مع الكومبرادور المحلي، الأمر الذي يجعل التنظير لهذه القطيعة ممكناً بدوره، وليس مجرّد ترف فكري أو تصفية حسابات بين أطراف سياسية محلّية ــ مافياوية بمعظمها ــ. يبدو أنّنا بحاجة هنا إلى مثال ملموس أكثر، وسأختاره من البيئة العمّالية التي ينحاز إليها اليسار لكي لا يبقى الكلام عن تناقضات هذا الأخير معلّقاً في الهواء: عادة لا يحتاج اليسار، أيّ يسار إلى من يخبره عن ضرورة أن يكون حاضراً ولو إعلاميّاً في أيّ مناسبة احتجاجية تندلع تجاه السلطة، أيّ سلطة أو من يمثّلها. وقد حدث في الأيّام الماضية بالتوازي مع صناعة «فقاعة الحرب» على سوريا أن اندلعت احتجاجات عارمة في كولومبيا ضدّ السياسة الزراعية لحكومة الرئيس خوان مانويل سانتوس. التغطية للإضرابات والاحتجاجات هناك لم تكن كما يجب في الإعلام السائد والعميل لرأس المال، وهذا مفهوم في ظلّ انشغال الجميع بالاصطفافات الجاري تأكيدها تجاه مسألة سوريا، لكنّ المفاجأة أتت من الإعلام المحسوب على اليسار (مثل «السفير» و«الأخبار» والفريق اليساري العامل في نشرة ال بي سي الإخبارية)، فهذا الأخير بدا متعفّفا عن مقاربة الاحتجاجات في كولومبيا ولو من باب الأخبار حتّى. وقد وضعنا ذلك إزاء سؤال جوهري يتعلّق بالأولويّات التي يضعها اليسار ــ بشقّيه ــ في هذه المرحلة، ويقرّر في ضوئها أيّ المواضيع تستحقّ الاهتمام، وأيها لا يستحقّ بالقدر نفسه. وعلى ما يبدو فانّ إجماعاً منقطع النظير قد حصل على أن يحتلّ الخبر السوري بؤرة الاهتمام، وهذا جيّد في حال كانت التغطية متوازنة بالنسبة للأحداث الأخرى، لكنّ ذلك لم يحدث بأيّ حال من الأحوال، وبالتالي مرّ الخبر المتعلّق بإضرابات المزارعين وسائقي الشاحنات وعمّال المناجم والطلّاب والمدرّسين ومنتجي الألبان في كولومبيا مرور الكرام. تخيّلوا معي المشهد: كلّ هذه الفئات الاجتماعية تتظاهر ضدّ السلطة في مكان ما، ولا تجد في الإعلام المحسوب على اليسار العربي من يقف إلى جانبها ولو شكليّاً. وهذا ما قصدته مراراً بالكلام عن الانشغال الزائد بالمسألة السورية كلّما تعلّق الأمر بمصير السلطة أو المعارضة. في سوريا الآن طبقة عمّالية تحتاج إليكم وإلى إعلامكم أكثر بكثير من أولئك السفلة والمجرمين الذين يسيّرون حربنا الأهلية. ثمّة قاعدة يتعيّن على اليسار الأخذ بها إذا ما أراد تأكيد انحيازاته الطبقية: أينما تكن الطبقة العاملة والمهمّشون والفقراء والفئات الضعيفة نكن. في كولومبيا لم تكونوا هناك يا رفاق، وأخشى ألّا تكونوا أيضاً في أيّ مكان يرفع فيه العمّال والمهمّشون قبضاتهم في وجه السلطة الطبقية وسياساتها.
* كاتب سوري