زرتُ سوريا للمرَّة الأولى عام 1975. كنتُ – آنذاك – شابّاً فتيّاً حالماً. وقد ذهبتُ إليها مباشرةً، تقريباً، من «مليح» (قريتي في محافظة مادبا)؛ حيث كان مروري بعمّان مرور العابر. ولا أذكر شيئاً الآن عن ملامح ركّاب سيَّارة الأجرة العموميَّة التي ركبتها مِنْ عمَّان إلى دمشق؛ لكنَّني أتذكر الطريق القديم الضيِّق الذي سلكته السيَّارة مِنْ درعا إلى دمشق؛ فلم يكن طريق الأوتوستراد قد أُنشئ – آنذاك – بين الأردن وسوريّا؛ لا في الأراضي الأردنيَّة ولا في الأراضي السوريَّة. وأتذكَّر مِنْ تلك الرحلة ساحة المرجة، والمبنى القديم لمحطَّة الحجاز والسيَّارات (والحافلات) ذات الموديلات القديمة جدّاً؛ بحيث بدتْ لي دمشق، حينها، كمتحفٍ بديع للسيَّارات القديمة.
قبل ذلك، كانت دمشق في ذهني هي حاضرة بلاد الشام الأولى التي كان أجدادي، حتَّى مطالع القرن الماضي، يذهبون إليها سيراً على الأقدام أو ركوباً على الخيول. فقد كانت – آنذاك – عاصمة بلادهم السوريَّة الواحدة. وبالتالي، فلم يكونوا مضطرّين – عند ذهابهم إليها أو إيابهم منها – للوقوف عند أيّ حاجزٍ حدوديٍّ، أو لحمل جوازات السفر وما إلى ذلك. وكان جدّي المباشر موسى دعَّاس القبيلات، الذي كان لا يزال حيّاً، هو أحد أولئك الذين عاصروا ذلك الزمان وعرفوه.
لم أُطِل المكوث هناك؛ ولكن، بسبب تلك الرحلة الأولى (الأولى لي إلى أيّ مكانٍ في العالم)، خسرتُ جواز سفريّ الأوَّل؛ حيث قامت السلطات بمصادرته.
وبعد ثلاث سنوات، أي في عام 1978، أَسرَّ لي أشقّائي بأنَّ جدّي استعاد جواز سفريّ بوساطة مسؤول أمنيّ كبير مِنْ منطقتنا، وأنَّه يخفي الأمر عنِّي كي لا أحاول السفر مجدّداً؛ فرحتُ أُلحّ عليه إلى أنْ أعطاني الجواز. وصادف، بعد وقتٍ قصير، أن انتدبني الحزب الشيوعيّ الأردنيّ للسفر إلى كوبا للمشاركة في مهرجان الشباب العالميّ، وأُبلِغتُ بأنَّني يجب أنْ أذهب إلى دمشق ومِنْ هناك أركب الطائرة إلى هافانا. فنزلتُ إلى وسط البلد في عمَّان، وقصدتُ سوق الملابس المستعملة، فاشتريتُ بِذلة وقميصاً وحذاءً رسميّاً. وفي اليوم المقرَّر ركبتُ سيَّارة أجرة وانطلقتُ إلى سوريا، وأنا قلقٌ مِنْ أنْ يصادر الأمن جواز سفري عند الحدود ويمنعني من المغادرة. لكن عندما بلغتْ بنا السيَّارة مركز الحدود الأردنيَّة في الرمثا، فوجئتُ بأنَّه لم يُطلَب منّا التوقّف لإتمام إجراءات سفرنا هناك، ولم يتعدَّ الأمر إلقاء نظرة سريعة على جوازاتنا من الشرطيّ الواقف عند الحاجز الحدوديّ. وقد فعل ذلك مِنْ دون أنْ ينزلنا من السيَّارة، ثمَّ تركنا نمضي إلى درعا.
كانت العلاقات الرسميَّة بين الأردن وسوريا، آنذاك، في أوج ازدهارها، في إطار ما سُمِّي، في حينه، الوحدة السوريَّة الأردنيَّة. وفي هذا الإطار، نفسه، جرى تسهيل سُبل التنقّل بين البلدين وقُلِّصَتْ إجراءاته، كما تمَّتْ إقامة العديد من المصالح الاقتصاديَّة المشتركة بينهما، ووُضِعَتْ آليَّات متَّفق عليها للتنسيق بين الدولتين في مختلف المجالات.
شعرتُ بالاطمئنان ما إنْ غادرت السيَّارةُ الرمثا باتّجاه درعا، وعندما وصلنا مركز الحدود السوريّ هناك، طلب منّا السائق أنْ ننزل من السيَّارة، وندخل المركز لتقديم جوازات سفرنا إلى الأمن ليختمها. فلم أشعر بالقلق؛ لكن، عندما دخلنا المبنى، فوجئتُ بأنَّ الأمن الموجود فيه هو سوريّ أردنيّ مشترك؛ وعندئذٍ، بدأ القلق يساورني، وقدَّمتُ جوازي للأمن الأردنيّ، كما طُلبَ منِّي. راجع الشرطيّ الجالس خلف زجاج «الكاونتر» بعض السجلّات الموجودة لديه، وما لبث أنْ أبلغني بأنَّه قد تمَّ حجز جوازي ويجب عليَّ العودة إلى عمَّان. شعرتُ، عندئذٍ، بالإحباط الشديد، وتأكَّدتُ أنَّ فوائد «الوحدة» – مهما عمَّت – فإنَّها لن تشمل مواطناً، مثلي، مغضوباً عليه من السلطات.
خرجتُ من المبنى تائهاً حزيناً، وأخذتُ حقيبتي مِنْ سيَّارة الأجرة وأخبرتُ سائقها بأنْ لا ينتظرني، ثمَّ قصدتُ عسكريّاً سوريّاً شابّاً يحرس الحاجز الحدوديّ مسلّحاً ببندقيَّة كلاشنيكوف، ووقفتُ عنده، وألقيتُ عليه التحيَّة، وسألته عن الطريقة التي يمكن أنْ أجد بها سيَّارةً تقلّني إلى عمَّان. فقال لي: هل أعادوك؟ قلتُ: نعم. فبدا متعاطفاً معي، وطلب منِّي أنْ أنتظر معه قليلاً ريثما تأتي سيَّارة ذاهبة إلى عمَّان فيضعني فيها. ورحنا، في أثناء ذلك، نتجاذب أطراف حديثٍ ودِّيّ ونتبادل السجائر، إلى أنْ جاءت حافلة سوريَّة متوسِّطة، فطلب مِنْ سائقها بأنْ يقلَّني معه إلى عمَّان. شكرته، وصعدتُ إلى الحافلة، فوجدتُ جميع ركّابها سوريين، وعلمتُ أنَّ وجهتهم النهائيَّة ليست عمَّان، بل السعوديَّة ليعملوا فيها. وهكذا، لم تتعدَّ زيارتي الثانية لسوريا مركز درعا الحدوديّ، وانتهتْ، أيضاً، بمصادرة جواز سفري الأوَّل، نفسه، للمرَّة الثانية.
اُعتُقِلتُ عام 1979، على إثر تظاهراتٍ حاشدة تشرَّفتُ بقيادتها في الجامعة الأردنيَّة ضدّ توقيع اتّفاقيَّات كامب ديفيد، وأمضيتُ في سجن المحطَّة خمس سنوات، بتهمة الانتماء إلى الحزب الشيوعيّ الأردنيّ. بعد ذلك، مضتْ السنون وأنا ممنوعٌ من العمل والسفر إلى أنْ اندلعتْ انتفاضة نيسان 1989، فدخلتْ بلادنا، على إثرها، ابتداءً من عام 1990، مرحلة الانفراج السياسيّ (التي شاعت تسميتها المرحلة الديموقراطيَّة)، فأعيد المفصولون من العمل إلى أعمالهم، وأُعيدتْ جوازات السفر المصادرة إلى أصحابها. فأخذتُ جوازي، الذي كان قد مضتْ عليه خمسة عشر عاماً منذ مصادرته في المرَّة الأولى، وجدَّدته، وبعد مدَّةٍ قصيرة، انتدبني الحزب للمشاركة في مؤتمر شابيّ كان مقرَّراً أنْ يُعقَدَ في عدن في جمهوريَّة اليمن الديموقراطيّ. وطُلِبَ منِّي أنْ أغادر إلى دمشق، وألتقي بممثِّلنا هناك، الرفيق سمير حدَّاد، ليرتِّب أمور سفري بالطائرة إلى عدن.
أخذتُ زوجتي وطفلتنا يارا، معي، إلى دمشق، لكي نمضي معاً بعض الوقت هناك ريثما أغادر إلى عدن فتعودان هما عندئذٍ إلى عمَّان. أقمنا في فندق في ساحة المرجة. وسرعان ما أبلغني الرفيق سمير بأنَّ المؤتمر الذي اُنتُدِبتُ له قد أُلغي، فاستفدتُ بوقتي في لقاءات مكثَّفة مع ممثِّلي حركات التحرّر العربيَّة التي كانت لها مكاتب عديدة في دمشق، في أوَّل الشارع المؤدِّي إلى طريق الربوة. قابلتُ المعارضة البحرينيَّة اليساريَّة، ولفتَ نظري أنَّ مكتبهم يعجّ بالشباب والفتيات على قدم المساواة، وقابلتُ المعارضة السودانيَّة، والعراقيَّة. وبعد ذلك زرتُ مقارَّ التنظيمات الشيوعيَّة السوريَّة... إلخ. وذهبتُ مع عائلتي إلى المطاعم والمتنزَّهات التي كانت موجودة على جانبي طريق الربوة (طريق بيروت القديم)، ثمَّ ذهبنا، بالميكروباص، بأجرة تكاد تكون رمزيَّة، إلى بلودان والزبدانيّ وعين الفيجة، وتجوّلنا في الحميديَّة والصالحيَّة وباب توما، مراراً.
وهكذا، انفتح أمامنا الطريق إلى سوريا. وفي الفترة الواقعة ما بين أوائل التسعينيَّات وبين عام 2011 الذي اندلعتْ فيه الأحداث الحاليَّة في سوريا، كان آلاف الأردنيين يمضون إلى دمشق واللاذقيَّة، في عطلة آخر الأسبوع والعطل الرسميَّة الأخرى، ليمضوا بضعة أيَّام، هناك، في رحلة سياحيَّة جميلة وآمنة ومرفَّهة، تكلِّفهم أقلّ بكثير ممَّا تكلِّفهم الإقامة في فنادق شاطئ العقبة أو البحر الميِّت. فكانت الحدود الأردنيَّة والسوريَّة، آنذاك، تكتظّ بالمسافرين إلى حدٍّ مزعجٍ جدّاً.
في البداية، كنّا (أسرتي وأنا) نذهب بسيَّارات الأجرة، أو بالحافلات العامَّة، ثمَّ بعد ذلك صرنا نذهب بسيَّارتنا الخاصَّة. ولي ولأسرتي ذكريات جميلة جدّاً في مختلف المدن السوريَّة؛ دمشق، حلب، الزبدانيّ، بلودان، صدنايا، معلولة (التي تتعرَّض هذه الأيَّام لعدوان متتابع من المجموعات الوهَّابيَّة المسلَّحة)، حمص، حماه، حلب (أتذكَّر أكوام البرتقال على مداخل حلب)، وطرطوس، وبانياس، واللاذقيَّة وشواطئها الجميلة على البحر الأبيض المتوسّط، وغابات الفرلّلق وجبال كسب الخضراء العالية بالقرب من الحدود التركيَّة. وأشعر بالحزن العميق، الآن، وأنا أتابع أخبار هذه المناطق الجميلة الفاتنة وهي تقع تحت وطأة ظروف الحرب المدمِّرة، وكيف أنَّ بعضها يخضع، أحياناً، لقوى لا علاقة لها بالجمال وبالحضارة، فتفرض عليها قوانين الصحراء وثقافتها
وقيمها.
وثمَّة ملاحظة تجدر الإشارة إليها هنا، وهي أنَّ سوريا، عندما بدأنا بزيارتها بانتظام في أوائل تسعينيَّات القرن الماضي، كانت لا تزال نموذجاً حقيقيّاً لبلاد الشام المتحضِّرة، المنفتحة، والمتحرِّرة... إذا جاز التعبير. ولكن، بعد سنوات قليلة، عندما تدفَّقتْ عليها الاستثمارات النفطيَّة والسياحة الخليجيَّة، بعد حفر الباطن، بدأتْ تفقد هويَّتها الشاميَّة، شيئاً فشيئاً، وتقترب من المواصفات الوهَّابية الصحراويَّة. وتأثَّرتْ السياحة فيها بهذا التحوّل الخطير، أيضاً؛ فأصبحت المطاعم والمتنزَّهات العامَّة تميل إلى المحافظة، وفي الوقتِ نفسه، انتشرت السياحة الجنسيَّة والنوادي الليليَّة المتلائمة مع الذوق الخليجيّ. وهذان – كما هو معروف – وجهان لعملة واحدة. ثمَّ اختفت مكاتب حركات التحرّر مِنْ دمشق، وبدأتْ الفنادق الفخمة المملوكة لأمراء نفطيين تظهر في أرجائها. وهنا، برأيي، بدأتْ سوسة الثورة المضادَّة الرجعيَّة تنخر جسم سوريا، إلى أنْ كان ما كان بعد ذلك.
للأمانة، ليستْ سوريا، وحدها، هي التي تعرَّضت لهذا التسلل الوهَّابيّ الظلاميّ؛ بل، أيضاً، بلادي الأردن، قبل ذلك.
إلى درجة أنَّه حين نحدِّث الجيل الحاليّ، الآن، عن كيف كان نمط حياة الناس، في بلادنا، وثقافتهم، في ستينيَّات وأوائل سبعينيَّات القرن الماضي، تبدو عليهم الدهشة وبالكاد يصدِّقون.
لقد هاجمت الوهابيَّة بلاد الشام بالسلاح، في البداية؛ فوصلتْ بعض حملاتها إلى أبواب دمشق في القرن الثامن عشر؛ لكنَّها صُدَّتْ عنها. وفي أوائل القرن العشرين عادتْ فحاولتْ مهاجمة بلاد الشام، مرَّةً أخرى، بوساطة حملةٍ عسكريَّة وصلت عام 1922 إلى القسطل على مدخل عمَّان الجنوبيّ، ودهمتْ بيوت قبيلة بني صخر في الصباح الباكر وهم نيام، فقتلتْ منهم كلَّ مَنْ صادفته في طريقها ولم ترحم شيخاً ولا طفلاً ولا امرأةً... فضلاً عن الشباب. وقد استمرّ القتل إلى أنْ استيقظ الباقون، وجمعوا صفوفهم، وشنّوا هجوماً معاكساً على الغزاة، وردّوهم على أعقابهم بعد أنْ قتلوا وجرحوا عدداً كبيراً منهم. ومع ذلك، كرَّرت الوهابيَّة غزوها لبلادنا عام 1924، وتصدَّتْ لها القبائل الأردنيَّة وصدَّتها أيضاً. وأذكر أنَّ أهلنا، حتَّى أوائل سبعينيَّات القرن الماضي، كانوا ينظرون إلى الوهابيَّة كدين آخر (كاليهوديَّة، مثلاً) أكثر ممَّا ينظرون إليها كطائفة إسلاميَّة. ولكن، ما لم تستطع الوهابيَّة تحقيقه بقوَّة السلاح، حقَّقَته – مع الأسف – بالقوَّة الناعمة للمال النفطيّ، بعد الفورة النفطيَّة التي تلت حرب تشرين 1973. وكانت البداية في الأردن بتنصيب القياديّ «الإخوانيّ» المعروف، إسحق الفرحان، وزيراً للتربية عام 1973 أو 1974؛ في الوقت، نفسه، الذي كان يُلاحق فيه بقسوة كلّ منتمٍ إلى الأحزاب والتنظيمات اليساريَّة
والقوميَّة.
والآن، ليس أمام بلاد الشام، كلّها، سوى أنْ تستفيد بهذه المحنة الصعبة؛ فتستعيد هويَّتها المتحضِّرة، وثقافتها المنفتحة، وقيمها المتحرِّرة... وإلا فإنَّ بلداننا ستواصل الانحدار في هذا الطريق الوعر نحو حتفها في قعر وادي الخراب، لتصبح نماذج أخرى من الحالة الأفغانيَّة أو الصوماليَّة... وعندئذٍ، لن نملك سوى تلاوة صلاة الجنازة على روح بلادنا الممزَّقة وهويَّتنا الشاميَّة المندثرة.
* كاتب أردني