لم تتفكك البنية الداخلية اليابانية عقب استسلام اليابان العسكري في آب 1945 أمام القوة العسكرية الأميركية، إثر ضربتي هيروشيما وناغازاكي النوويتين، بل حصل على العكس من ذلك توحد داخلي للمرور تحت سقف الدستور الياباني الجديد، الذي فرضه وصاغه المحتل في 3 أيار 1947، رغم كونه ينزع من طوكيو حق اعلان الحروب وشنها، قبل أن يجري على أساس هذا الدستور عقد المعاهدة الدفاعية مع واشنطن، ومع ثمان وأربعين دولة من التحالف الغربي في زمن الحرب الباردة في يوم 8 أيلول 1951، وهو ما أعقبها عملية استعادة «سيادة» الدولة اليابانية في 28 نيسان 1952.حصل شيء معاكس في أفغانستان لما حصل في اليابان عقب غزو السوفيات العسكري في 27 كانون أول 1979: تفكك في بنية السلطة الحاكمة بعد قتل السوفيات الرئيس الأفغاني حفيظ الله أمين، زعيم جناح (خلق - الشعب) في الحزب الشيوعي الحاكم قبل أن يجلبوا من براغ زعيم جناح (بارشام – الراية) بابراك كارمال وينصّبوه رئيساً، ثم حصل تفكك وانفجار في البنية المجتمعية الأفغانية لم يستطع الانقلاب العسكري الشيوعي في 27 نيسان 1978 إحداثهما رغم دخول بعض المنظمات الاسلامية في العمل المسلح ضد الشيوعيين على أثره. وقد أتاح التفكك الانفجاري للبنية الداخلية الأفغانية في مرحلة ما بعد 27 كانون أول 1979 المجال لقيام تحالف واسع امتد من واشنطن إلى اسلام آباد والرياض، مع عشرات آلاف المتطوعين الاسلاميين، استند إلى بنية داخلية واسعة رافضة للغزو السوفياتي. وهو ما أسهم في جعل أفغانستان بين عامي1980و 1989 الأرض الميدانية المباشرة لكسر موسكو أمام واشنطن في الحرب الباردة (1947 - 1989).
في العراق المغزو والمحتل عام 2003 كانت الصورة أوضح: بنية مجتمعية متفككة، منذ انتفاضتي شهر آذار 1991 اللتين لاقتا تأييداً واسعاً من الشيعة في الجنوب والوسط، ومن الأكراد في الشمال، كان موقفها من الغازي والمحتل بعد اثني عشر عاماً وفقاً لموقفها من السلطة الحاكمة لصدام حسين ومبنياً عليه، حيث وقفت غالبية كاسحة من الوسط السني العربي ضد الغزو والمحتل الأميركي، فيما وقفت مع الأميركي غالبية كاسحة من الشيعة والأكراد. خلال عشر سنوات من مرحلة ما بعد سقوط بغداد يوم 9 نيسان 2003 ازداد التفكك المجتمعي العراقي، وفقاً لتلك اللوحة التي ظهرت الصورة الجنينية لها عام 1991، ثم أصبحت واضحة الملامح في أيام الغزو الأميركي لبلاد الرافدين، لمّا انقسم العراقيون بين مؤيد ورافض للغزو وفقاً لانتماءاتهم الطائفية والاثنية (شيعة وأكراد - سنة عرب). ولم يحصل تبدل في تلك اللوحة، رغم ظواهر مثل «الصحوات» و«القائمة العراقية» التي حاول من خلالها بعض السنة العرب التقرب من الأميركي في مرحلة ما بعد عام 2007 لكسر الثنائية الشيعية _ الكردية، التي أصبحت حاكمة في عراق ما بعد 9 نيسان 2003، كما كان السنة العرب في الدولة العراقية الحديثة منذ تنصيب البريطانيين فيصل بن الحسين ملكاً على العراق في آب 1921. إذا أردنا دراسة تلك الحالات الثلاث، نجد التالي: في يابان 1945 ـــ 1952 كان هناك توحد ياباني أمام الأميركي المحتل ارتأى الانحناء العسكري _ السياسي مقابل مشروع العملقة الاقتصادية تحت ظل واشنطن تماماً، كما كان موحداً أمام الأميركي في الحرب ضده منذ أيام الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربور (7 كانون أول 1941). هذا هو السبب الذي منع تفجر البنية الداخلية اليابانية عقب الاحتلال العسكري الأميركي لليابان عام 1945، أي إن التوحد الداخلي قبيل ومن ثم أثناء التدخل العسكري الخارجي هو الواقي من انفجار البنية الداخلية المجتمعية في مرحلة الغزو وما يعقبه من مرحلة احتلال. هذا الوضع الياباني لم يكن موجوداًً في أفغانستان 1979 ــ 1989، لكنه في الثمانينيات لم يأخذ طابعاً إثنياً، بل سياسياً، بين شيوعيين واسلاميين مع تحالفات خارجية لهما ضد بعضهما بعضاً، فيما في الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 أخذ الانقسام والانفجار الداخلي الأفغاني أمام الغازي ثم أمام المحتل وطوال اثني عشر عاماً مضت منه طابعاً إثنياً، هو نفسه الذي كان أمام حكم حركة طالبان في كابول بين عامي 1996 و2001 بين قاعدة باشتونية موالية ومعارضة طاجيكية ـــ أوزبكية ـــ الهازارة الشيعة كانت تدعم «تحالف الشمال» ضد «طالبان». ويلاحظ خلال اثني عشر عاماً مضت على غزو واحتلال أفغانستان منذ 7 تشرين أول 2001، أنّ تلك اللوحة الانقسامية المجتمعية في الضد والمع على أسس إثنية من حكم طالبان، الذي استمر خمس سنوات، قد استمرت هي نفسها، لكن في شكل انفجاري في مرحلة الاحتلال الأميركي، بعدما عبرت عن نفسها في مرحلة الغزو الأميركي (تشرين الأول وتشرين الثاني 2001) بنفس الملامح التخطيطية الخرائطية التي كانت ضد طالبان منذ حكمهم لكابول في أيلول 1996. ما حصل أفغانياً جرى عراقياً أيضاً: الانقسام السياسي تجاه حكم صدام حسين بدأ يأخذ منذ آذار1991 ملامح طائفية ـــ إثنية في المع (السنّة العرب بغالبية كاسحة) والضد (شيعة وأكراد)، بخلاف ما كان عليه الوضع في عراق عبد الكريم قاسم، لما أخذ الانقسام السياسي ملامح أيديولوجية بين شيوعيين وعروبيين، وقد انتقل هذا الانقسام العراقي الظاهر منذ آذار 1991 ليظهر بصورته نفسها أمام الأميركي الغازي والمحتل، لكن مع أخذه في مرحلة ما بعد 9 نيسان 2003 طابعاً انفجارياً للبنية المجتمعية، كاد أن يصل في عامي 2006 و2007 إلى مرحلة الحرب الأهلية.
* كاتب سوري