استكمالاً لمقال سابق، بعنوان «من تاريخ الجهاد الإسلامي السوري»، («الأخبار»، 2/9 /2013)، حاول إضاءة جانب من الأسباب الكامنة وراء صعود «السلفية الجهادية» في الأزمة السوريّة، تعرض السطور التالية لمشاركة سوريين، ودورهم في «الجهاد العالمي»، منذ غزو الاتحاد السوفياتي (سابقاً) لأفغانستان، وصولاً إلى «قاعدة الجهاد» المنظمة الجهاديّة الأممية، وعنوان الإرهاب الدولي الأول. ذلك أنّ «التغذية الراجعة» لنشاطات هؤلاء عادت بأثرها على بلدهم سوريا، مدعومة بخبرات إضافيّة حملها أشقّاؤهم من «الجهاديين الأمميين». وبالتكامل مع حمَلَة «إرث الجهاد» المحلي السالف ذكره، أُضفيت على الأزمة السورية لمسات، هي مزيج من إرهاب الجهادَين، المحلّي والعالمي، ولا يُعرف إلى متى تستمرّ، وكيف ستزول آثارها.إذن، لم يقتصر نشاط «الجهاديين السوريين» على بلادهم. احتلّت سوريا المرتبة السابعة، من بين خمسة عشر بلداً عربيّاً، ينتمي إليها «معظم الشهداء من المجاهدين العرب» في أفغانستان. وإضافة إلى السوريين المقاتلين مع «المجاهدين»، عمل سوريّون آخرون في «الإعلام الجهادي» وتغطية أخبار الجهاد الأفغاني والترويج له. منهم، مثلاً، عدنان ابراهيم، كان يعدّ على مدى عامين، «التقرير الأسبوعي»، الذي يصدر بتمويل سعودي. وتولى سوريّ آخر، هو أحمد زيدان منصب رئيس تحرير نشرة «الثبات» الأسبوعيّة. وسبق لزيدان العمل أربع سنوات في مجلة «الجهاد»، وكانت تصدر عن «مكتب خدمات المجاهدين»، التابع لعبد الله عزام أحد «أبرز أعلام الجهاد» في القرن العشرين، و«الأب الجهادي» لأسامة بن لادن والقاعدة.
يُذكر أنّ عبد الله عزّام نفسه درس في كلية الشريعة بدمشق، وحصل فيها على الماجستير، وكان على صلة بمروان حديد (1934 ـــ 1976)، مؤسس «الجهاد السوري». تأثّر عزّام بفكرة حديد عن «الطليعة الجهاديّة»، التي تقوم في جوهرها على فكرة «قلّة مجاهدة تقود المعركة وتعمم الثورة»، وهي الأساس الذي قامت عليه لاحقاً «قاعدة الجهاد» أو «تنظيم القاعدة». ولم يقصّر إسلاميّون سوريّون مرموقون في الحجّ إلى أفغانستان وزيارة «المجاهدين». من ذلك زيارة سعيد حوّا، أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، إلى معسكر خالد بن الوليد. حينها خطب حوّا في المجاهدين، وأثنى عليهم ووصفهم بـ«قدوة الأمة الإسلاميّة كلّها». جدير بالذكر أنّ حوّا نفسه سبق له التنظير لفكرة «الجهاد العالمي» في كتابه «نحو خطوة إلى الأمام على طريق الجهاد المبارك»، ظهرت طبعته الأولى مطلع سبعينيات القرن الماضي، أي قبل سنوات قليلة من شروع جماعته الإخوانيّة وطليعتها المقاتلة بتنفيذ مشروع إرهابها الجهادي في سوريا، الذي استغرق النصف الثاني من السبعينيات حتى أوائل عام اثنين وثمانين.
ثمّة أيضاً كتابات لسوريين وثّقوا تجارب جهادهم الأفغاني أدباً وشعراً. منهم محمد علي صوّان، وهو محامٍ من إدلب، وكان عضواً في «الإخوان المسلمين»، ترك المحاماة عام 1980، ليلتحق «بالمجاهدين الأفغان»، مصطحباً ولده محمد ياسر، الذي قضى هناك.
ولعلّ أهمّ الجهاديين السوريين ممن ذاع صيتهم، مصطفى ست مريم نصار، العضو السابق في تنظيم «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين»، الذي حمل في أفغانستان لقباً جهاديّاً جديداً: «أبو مصعب السوري» أو «عمر عبد الحكيم». عمل مدرّباً في معسكرات المجاهدين، وتعرّف على كبار مشايخ الجهاد، ودرس الفقه الجهادي.
انضم أبو مصعب السوري إلى تنظيم القاعدة عام 1992، ثمّ انتقل إلى أوروبا لينشط هناك. وفي بريطانيا ساعد «قاري سعيد الجزائري» على تأسيس «الجماعة الإسلامية المسلحة»، ودعم «الجهاد الجزائري».
عاد مجدداً إلى أفغانستان سنة 1998، فبايع «الملا عمر» وأسس «معسكر الغرباء» بدعم من حكومة طالبان، وعمل في القسم العربي لإذاعة كابل. وبحسب متخصص في الشؤون الجهادية، فإنّ أبا مصعب السوري «أسهم من خلال كتابه «أفغانستان والطالبان ومعركة الإسلام»، في التنظير والتمهيد لشرعنة نظام طالبان بين أوساط السلفيين الجهاديين ممن باتوا لاحقاً وقوداً لمعسكرات التدريب، التي قادت إلى عدد كبير من الهجمات لاحقاً، ولعلّ أهمّها هجمات 11 أيلول 2001».
بعد سقوط نظام طالبان تفرّغ أبو مصعب للبحث والتأليف. ومن كتبه، «ملاحظات حول التجربة الجهادية في سوريا»، وفيه قدّم ما وصفها بـ«التجربة الجهادية في سوريا» كنموذج للفشل يجب أن تتعلم منه الحركات السلفية الجهادية كي لا يتكرر. أمّا كتابه الأشهر «دعوة المقاومة الإسلامية»، فهو أكبر نتاجه، وبفضله بات أبو مصعب السوري يُعدّ «منظّر الجيل الثالث من السلفيين الجهاديين» في العالم. ترجم الأميركيون كتبه لدراستها، نظراً إلى كونها تقدّم «منهجاً لبناء شخصية مجاهد»، ومرجعاً في التجنيد الذاتي الذي تتبعه الجماعات الجهادية، ولكونه قدّم نظرية «لآليات الجهاد» في مناطق مختلفة من العالم. لم يستثن أبو مصعب بلده سوريا من آفة أدبيّاته الجهاديّة، ويبدو أنّها اليوم تأتي أُكلها. ذلك أنّ «جبهة النصرة» (تنظيم القاعدة في سوريا)، اعتمدت تنظيراته حول «استراتيجيّة الحرب الإقليمية على أرض الشام» لتحقيق سيطرتها وفرض نفوذها، وتعميم إرهابها في مناطق انتشارها. علاوة على ذلك، يحصد النظام السوري اليوم، من جملة ما يحصد، ثمار «التسهيلات» التي قدمها للمجاهدين في العراق، بعد عام 2003، فجاؤوا اليوم من العراق بدولتهم الإسلامية، وألحقوا الشام بها!
في ثمانينيات القرن الماضي، جذب «الجهاد الأفغاني»، على مدى عشر سنوات، نحو عشرة آلاف متطوّع، انتشروا بعدها في أصقاع الأرض سفراء للإرهاب والكراهية. أما اليوم، ولم تكد تنتصف السنة الثالثة من عمر الأزمة السوريّة، فإنّ الأعداد التي حطت كأسراب الجراد في «أرض الشام» نظراً إلى جاذبيتها «الجهاديّة»، تكاد تزيد على أعداد من التحقوا بالجهاد الأفغاني والشيشاني والكشميري والبوسني والعراقي، مجتمعين.
ومع غياب حلّ سياسي يحقن دماء السوريين ويوقف تدمير ما بقي من بلدهم، فإنّ استمرار الكارثة السوريّة يعد العالم بكارثة جهاديّة قلّ نظيرها. إنّها لعنة الدم السوري سيحملها مجانين الجهاد إلى محطّاتهم القادمة.
* كاتب سوري