مهمة تفكيك منطق العدوان الغربي على سوريا ليست، ولن تكون، مهمة سهلة، وهي ليست مهمة مقالة خفيفة من مقالات المناسبات كهذه، بل إنّ ما نرومه هنا بالدرجة الأولى هو مقاربة هذه المحاولة وتسليط الضوء على بعض تفاصيلها ومفاصلها. نوضح أولاً، أنّ المقصود بعبارة «منطق العدوان» لا تعني منحه صفة معيارية إيجابية، على اعتبار أنّ عكس العدوان أو عدم القيام بعدوان هو أمر «لامنطقي»، بل المقصود به السياق التبريري الجدالي الذي يضم مجموعة حجج وأسباب وذرائع يقدمها المدافعون عن شنِّ العدوان لجعله مقبولاً ومبرراً من قبل الرأي العام في بلدانهم وفي غيرها. ثانياً، يمكن توسيع هذه الملاحظة لتشمل لاحقاً القضايا ذات الصلة المباشرة بالموضوع، كاعتبار الدفاع عن سوريا الوطن والشعب رديفاً أو مبرراً للدفاع عن النظام الديكتاتوري القائم، الذي يتحمل مسؤولية ضخمة عن عناده وإصراره على الحل الأمني ورفض التجاوب الحقيقي للانتفاضة السورية في طورها السلمي وقبل أن تتحول إلى تمرد مسلح من وجهة نظر البعض، أو باعتبار هذا الدفاع رديفاً أو مبرراً للدفاع عن المعارضة المسلحة التي ارتكبت بحق الشعب السوري العديد من الممارسات الإجرامية الشنيعة، لعل أخطرها تحويل الانتفاضة السلمية الشعبية إلى تمرد مسلح مدعوم من الغرب الإمبريالي والرجعيات الخليجية والجماعات التكفيرية الدموية.إن المنطق الذي يحاول تبرير العدوان الغربي الوشيك على سوريا (سوريا بمعنى النظام، وبالتالي الشعب كما يتصوره ويقدمه النظام)، هو ذاته المنطق الذي يحاول تبريره وتأييده على سوريا (سوريا بمعنى المعارضة وبالتالي «الشعب» كما تتصوره المعارضة المسلحة). إنّ هذا المنطق، مهما كانت مبرراته التي يحتج بها لا يمكن أن يكون صحيحاً تاريخياً، ومقبولاً علمياً وعملياً. غير أنّ من الضروري عدم الغرق في التفاصيل الهامشية، بل لا بد من المبادرة أولاً إلى إدانة العدوان بوصفه عملاً عسكرياً تقوم به أقوى دول إمبريالية في العالم وذات ماضٍ استعماري إجرامي معروف بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وبتمويل وتسويق من قبل أعرق أنظمة الحكم المطلق الرجعية في المنطقة ممثلة بأنظمة آل سعود وآل ثاني وآل نهيان وآل خليفة يستهدف، بأحدث الأسلحة وأكثرها خطورة، سوريا الوطن والشعب الذي يعيش فيه، ومؤسسات الدولة السورية.
إن إدانة العدوان الغربي والعربي الرجعي على سوريا، ولكي لا تكون ـ هذه الإدانة ـ ممراً ومبرراً للدفاع عن النظام الديكتاتوري واستمرار بقائه، لا بد أنْ تكون مشروطة بإدانة هذا النظام وتحميله مسؤولية ممارساته خلال فترة الانتفاضة السلمية وبعدها، ومطالبته هو والمعارضة المسلحة بالوقف الفوري لإطلاق النار، والشروع فوراً بعملية سلام حقيقية ومقنعة وذات سقف زمني معلوم تشارك فيها المعارضة السورية المسلحة التي لا ينبغي، في المقابل، نسيان مسؤوليتها الكبيرة والمباشرة هي الأخرى وإلى جانب النظام عن المآسي التي يعيشها الشعب السوري اليوم، سواء من خلال ممارستها الدموية خلال التمرد المسلح أو في تحويل الانتفاضة الشعبية السلمية ذاتها إلى تمرد مسلح واستقبالها وتبنيها لذباحي الجماعات التكفيرية والقتال إلى جانبهم.
أما في ما يخص المبررات الآنية والمعلنة لشنّ العدوان، التي يلخصها خطاب التحالف الغربي والعربي الرجعي بمجزرة الغوطة الشرقية، التي قيل بأنها ارتكبت باستعمال السلاح الكيميائي، ونظراً إلى انعدام الثقة التام بكافة أطراف الصراع لأنها جميعاً تاجرت وتتاجر بالدم السوري البريء، فإنّ المطلوب هو إجراء تحقيق دولي علمي وشفاف في الوقائع المتعلقة بهذه المجزرة، تحقيق تشارك فيه الهيئات العلمية الدولية والمنظمات الإنسانية المحايدة ويكون تحت إشراف الأمم المتحدة وتلك الهيئات بشكل مشترك، ودون أية مشاركة مباشرة أو غير مباشرة للدولة العدوة «إسرائيل»، وتعلن نتائجه وحيثياته على الرأي العام ويُعتَبر المسؤولون عن المجزرة وبغض النظر عن هويتهم السياسية، سواء كانوا في النظام الحاكم أو المعارضة المسلحة، مجرمي حرب تنبغي محاسبتهم ومقاضاتهم أمام الشعب السوري وشعوب العالم.
منذ العدوان على العراق وغزوه وتدمير دولته، وليس إسقاط نظام الحكم فيه فقط كما يركز البعض، وغرس نظام حكم رجعي ومتخلف وفاسد فيه، بديلاً للحكم الديكتاتوري الدموي والمتخلف هو الآخر، وهذا «المنطق» اللاعقلاني يتكرر، وها هم أهله يقدمونه اليوم بنسخة سورية لا تكاد تختلف إلا في تفاصيل هامشية وصغيرة عن النسخة العراقية، والمستهدف في كلتا النسختين هو الإنسان أولاً، العقل النقدي والحق في بناء موقف مركب وبناء يرفض المصادرة والقسر والابتزاز الفكري ثانياً. لقد سئمنا المواقف الخطية والتبسيطية التي تختصر الصراع والواقع التاريخي والمأسوي في مواقف «مانوية» لا تخرج عن خيارين كلاهما فظ وعدواني وغير عقلاني؛ يطالب الخيار الأول بإدانة العدوان على سوريا والوقوف في خندق النظام الديكتاتوري دون قيد أو شرط، فيما يشترط الخيار الثاني الذي لا يقل عنه الأول سطحية وبؤساً تأييد العدوان قبل كل شيء والترحيب ببديل للحكم مشكوك فيه، لفرضه لاحقاً على الشعب السوري فرضاً.
تتعكز منظومة حجج الإدارتين الأميركية والفرنسية بوصفهما الدولتين الأكثر هوساً وإصراراً على القيام بالعدوان على مجزرة الغوطة الشرقية. وهنا فهما يكرران أنّ لديهما أدلة قاطعة على أن النظام السوري متورط في ارتكاب المجزرة، ولكن أدلة قاطعة لم تقدم حتى الآن، بما يعني أن أوباما وهولاند يريدان دُفعة من الدماء السورية على الحساب وعلى اعتبار الثقة العمياء بشرفهما وصدقيتهما الشخصية! إنهما هنا يستبقان عمل لجنة تحقيق الأمم المتحدة فتارة يصادران حقها في الوصول إلى استنتاجات وتحديدات للجهة الفاعلة، وأخرى يفرغان عملها من أي مضمون بالترويج لتقارير سرية قيل علناً بأن مصدرها المخابرات الإسرائيلية. إن إصرار الولايات المتحدة وحلفائها على أنّ عمل لجنة التحقيق الأممية يقتصر على التحقق من أن استعمالاً للسلاح الكيميائي قد حدث، وهذا هراء محض. فلا أحد يشكك في ذلك تقريباً، ولكن الأهم هو معرفة الطرف الذي ارتكب الجريمة. إن ما نقوله هنا ليس دفاعاً عن النظام الحكم في سوريا؛ فقد أسلفنا الإشارة إلى أن الثقة معدومة بجميع أطراف الصراع في سوريا، ولكنه فضح لأساسيات منطق العدوان وكشف لملابساته وتدليساته. إنّ اهتمام الولايات المتحدة وحلفائها بما حدث في غوطة دمشق فقط مع اعتراف الجميع بأنّ مجازر أخرى قد ارتكبت بالسلاح الكيميائي ومجازر أفظع ارتكبت بأسلحة أخرى طوال فترة الحرب الأهلية، وخصوصاً في قرى ريف اللاذقية، يعني ضمن ما يعني أمرين: الأول، هو أنّ منطق العدوان يعتمد على الانتقائية لتوجيه ضربة أياً كان المبرر أو السبب في هذه الفترة بالذات وليس قبلها لتحقيق هدف سياسي هو تعديل الوضع على الأرض وترجيح كفة حلفائهم في المعارضة السورية المسلحة. والثاني، هو استهانتهم إن لم نقل إهانتهم لعذابات السوريين ودمائهم التي تسفك منذ سنتين ونصف سنة بأسلحة النظام وأسلحة حلفائهم على حد السواء.
إن الموقف المركب من الوضع السوري عموماً، ولكي يكون متساوقاً مع التاريخ والعدالة وحقوق الإنسان ينبغي أن يبدأ من إدانة العدوان الغربي العسكري الوشيك على سوريا واعتباره عملاً إجرامياً سيؤدي إلى إطالة أمد الحرب واستمرار عذابات الشعب السوري، وقد يفتح الباب على احتمالات تقسيم وتدمير سوريا مزيداً من الدمار. ولكن لا ينبغي الاكتفاء بتسجيل هذه الإدانة، إنما ينبغي ربطها بإدانة نظام الحكم بسوريا وبمعارضيه المسلحين لمسؤولية الطرفين المباشرة عن وصول الوضع إلى ما وصل إليه. أما الجزء الأخير، الذي لا يقل أهمية عن تسجيل الإدانات، فهو المتعلق بالإلحاح على ضرورة الحل السياسي للأزمة السورية ككل وإنهاء القتال والبدء بحوار ورفع الغطاء السياسي عن أي طرف يرفض الحل السياسي ويريد مواصلة سفك الدماء كما أسلفنا. إن موقفاً مركباً كهذا ينبغي له أنْ يسود في خطاب الرافضين للعدوان أو التخندق مع النظام الحاكم فلن يختلف عن التخندق مع المعارضة المسلحة وعموم معسكر «الحربجية» المؤيدين للعدوان الغربي. إن دروس العدوان على العراق واحتلاله وتدميره وسفك دماء شعبه، الذي لم يتوقف طوال عقد من الزمن ولا يزال مستمراً حتى الآن، تؤكد صحة مغزى هذا الموقف المركب وعطل ولا منطقية الموقف التبسيطي المانوي القائم الذي يلخصه شعار: إما أسود أو أبيض!
وأخيراً، إن أمراً جديداً وخطيراً قد حدث على الصعيد العالمي، فلأول مرة يتحول الكونغرس الأميركي بغرفتيه إلى بديل عملي وشبه رسمي للأمم المتحدة بموافقة أغلب الأطراف ورضاهم، وأصبح قرار القيام بالعدوان العسكري على سوريا من عدمه بيد الكونغرس الأميركي، وهذا إنجاز جديد ينبغي تسجيله باسم لأوباما، ولم يبقَ أمام جميع الذين يحبسون أنفاسهم الآن بانتظار قرار الكونغرس سوى إهالة حفنات التراب على ضريح الأمم المتحدة!
* كاتب عراقي