كيف يمكن لإنسان عاقل أن يعلن على الملأ أنه سيخون وطنه، فيما معظم من يقترف هذا الذنب يجهد لأن يُبقي «فَعلته» سراً من أسرار صندوقه الأسود، كما أن الذين يرتكبون هذا الجرم الشنيع غالباً ما يغلّفونه بالوطنية والحرص على المصلحة العامة، ولا يقرّون بأن فعلهم فعل خيانة. وقد شهدت التجربة اللبنانية أحزاباً تعاملت مع العدو الإسرائيلي بحجة الدفاع عن سيادة لبنان.
وهي ما زالت تعتز بتلك الحقبة من تاريخها، وتعدّ نفسها الممثل الوطني للمقاومة اللبنانية الحقيقية، بينما تنكر على مقاومي إسرائيل هذا التمثيل. أما الأفراد، فغالباً ما يبرّرون فعلهم الشائن بأن جُلَّ ما يقومون به هو التعامل مع الواقع المفروض عليهم، وفي الوقت نفسه يدَّعون أنهم يسخّرون علاقاتهم وصلاتهم لتيسير شؤون الناس، ولتقديم بعض الخدمات الضرورية (تخفيف عبء الاحتلال الإسرائيلي عن الناس كما في الحالة الفلسطينية).
أما أنا، فسأعلن على الملأ، ودون مواربة أنني سأخون «وطني» تيمُّناً بالكاتب الكبير محمد الماغوط، الذي اقتبست منه عنوان المقالة. فالماغوط كان نصيراً عنيداً لفلسطين، فضاعت فلسطين، وكان قومياً أكثر من كل الأحزاب القومية، فكان أن عُدنا إلى القبائل والمذاهب والطوائف وصارت القومية موضة بالية. وكان وحدويّاً، لكن بدل إلغاء الحدود بين الدول، رُسِمت حدودٌ داخل معظمها، بين مدينة وأخرى، وقرية وأخرى، وناصَرَ العمال والكادحين، فخسروا مكتسبات كانوا يتمتعون بها، وانتعش الرأسماليون، وكلما وقف مع قضية عادلة، كان نصيبها الخسارة، فسمّى نفسه نصير القضايا الخاسرة، وقرر أن يتحول إلى خيانة وطنه، لعله يكون في ذلك خسارة للخيانة وفوزُ للوطن.
منذ الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، ومعادلة بوش _ بن لادن تقرر مصيرنا. فالعالم بحسب بن لادن «انقسم إلى فسطاطين لا ثالث لهما، فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر». أما بوش، فقد وجّه أوامره إلى الشعوب قائلا: «على كل شعب/ بلد في كل منطقة أن يتخذ قراراً: إما أن تكونوا معنا أو تكونوا مع الإرهابيين». لاحظوا كيف تلتقي الأضداد على موقف واحد. اتفقوا على تقسيم العالم إلى قسمين كلٌ منهما يحتكر واحداً، وفرضا علينا الانضمام إلى أحدهما. ثمّ أعلَنا حرب داحس والغبراء بينهما وجعلا منّا نحن غير المعنيين بهما وقوداً لها. ومن مهازل هذه المعادلة الإكراهية أنها منعت الحياد، وقررت ألّا تسمح بوجود أي خيار ثالث، وإن وُجِدَ هذا الخيار تُشنُّ عليه الحرب من قبل الطرفين. وللمفارقة نراهما يقاتلان جنباً إلى جنب في أكثر من موقع (سوريا مثال حي).
وليس مصادفة أن تكون هذه المعادلة في أساس الأزمة التي تعصف بالبلدان العربية. نظام ومعارضة، ثنائية ملغاة لكل ما عداهما. إما مع النظام، أو مع المعارضة. إنَّ فشل عموم النظام العربي، وفشل كل نظام على حدة، مرضٌ مزمن، وإلا لما كان الوضع العربي العام (وفي كل بلد) على هذه الدرجة من السوء. وهذه النتيجة كافية لكل ذي عقل وضمير، ولكل مخلص لشعبه وأمته أن يعارض النظام، أي نظام عربي، أو أن ينأى بنفسه عنه كأضعف الإيمان، لكن هل يكفي أن يكون النظام سيئاً لنعطي شهادة حسن سلوك لكل معارضٍ له؟ هل تبرّر ضرورة تغيير النظام المغامرة في إشاعة اللانظام/ الفوضى، أو المساهمة في نشوء حرب أهلية، هل تدمير أسس النظام المتسلّط لا تكون إلا بتدمير الوطن ذاته؟ معارضة الأنظمة البالية حق، لكنّ ذلك لا يعطي مبرراً لنشوء معارضة كيفما كان. فالمعارضة إذا لم تكن مسؤولة، ومسؤولة أكثر من النظام ذاته، وأكثر حرصاً على المصلحة الوطنية، فإنها بذلك تمثّل مع النظام وجهين لعملة واحدة. إن أسوأ فعل يمكن لمعارضة أن تقوم به هو طلب النجدة من الأجنبي، والإلحاح على تدخله المباشر لإسقاط النظام حتى لو كان قمعياً. ولنا عبرة في ما يجري في أفغانستان والعراق منذ عشرات السنين على خلفية التدخل الأجنبي.
سأخون ذاك الوطن، وطن النظام والمعارضة حصرياً، الذي لم يعد ذاك الحضن الدافئ لي ولمعظم أبناء جلدتي، والذي يطرد أبناءه نحو المهاجر. سأخون ذاك الوطن الذي لا يعطي قيمة للعالِم ولا للمفكر ولا للفنان ولا للأديب ولا للكادح إلّا بمقدار قربه من السلطان.
وسأخون واجب دعم المعارضة في سعيها إلى إسقاط النظام البالي وبناء نظام «ديمقراطي عادل»، لأن دعمها دعمٌ لتدمير الوطن وتفتيته ليكون لقمة سائغة بين يدي الأجنبي.
كذلك سأخون واجب دعم النظام في مواجهة مخططات تدمير البلد، لأني إن دعمته وانتصر، فمن يضمن لي ألّا تصيبه نشوة الانتصار ويكرر الماضي على نحو أسوأ؟
حكاية الفلسطيني مع المعارضة قديمة قِدَم نشوء قضيته. فهو يولد لاجئاً، يشب لاجئاً ويموت لاجئاً. أو يولد في سجن الاحتلال ويشب فيه ويموت. والتمييز السلبي يلاحقه أينما توجه تحت ذرائع مختلفة: توطين، إرهاب، النشاط السياسي غير المرغوب فيه. يولد معارضاً بالفطرة لأنه منذ ولادته وحتى مماته يعيش وضعاً استثنائيا مخالفاً للطبيعة البشرية يستوجب المعارضة.
هذا ينطق باسم الوطن والشعب، وهو الممثل الشرعي الوحيد، وذاك ممثل وحيد لليسار والكادحين، وآخرٌ حامي الدين والأراضي المقدسة وهو الفرقة الناجية الوحيدة. ولأن كل هؤلاء ينطقون باسمي ويخونونني، ولأنهم خطفوا وطني واستأثروا به وصاروا يبتزونني به: لا تعترض فاعتراضك خيانة للوطن، لا تخرج من حظيرتنا ففي ذلك خيانة للوطن، ولأن الوطن صار بيدهم سلاحاً ضدي سأخون وطني لأخلصه من براثنهم، فيطهّر نفسه من دنسهم، ويعود وطني، وطن المخلصين والأوفياء له، وطن كل الفئات الاجتماعية حيث تسود بينها العدالة ولا تُستغل الفئات الشعبية الكادحة، وطنٌ يحفظ كرامة الضعفاء ويرعاهم.
سأخون وطني، ذاك الوطن الذي يبني فيه «الفدائي» قصراً فوق قبور الشهداء، ذاك الوطن الذي يصبح في الشعب مادة للاستثمار في بازار المصالح الفئوية والشخصية. ذاك الوطن الذي ينتشر الفساد في ثورته أكثر من أكثر الدول فساداً، ذاك الوطن الذي يصاب أبناؤها بلوثة الصراع الطائفي والمذهبي، ذاك الوطن الذي يقبل التشظّي لأشباه أوطان شتى (ضفة، غزة، 48 وبلدان شتات).
سأخون الوطن الذي صارت فيه الخيانة وجهة نظر، والخائن لا يحاكم بحجة قبول الرأي الآخر، وفوق كل ذلك يعطي دروساً في الوطنية.
وتسألني لماذا أخون وطني؟! سأخون وأخون لأن الناطق الرسمي باسمه، والمعارض الطامح لينطق باسمه، قد خانا الوطن الحقيقي، وقدما عليه مصالحهما الفئوية والشخصية. سأخون وطني لأن في ذلك وفاءً لوطني الحقيقي.
* كاتب وباحث فلسطيني