حين يحصل التدخّل الامبريالي ضد بلد ما تكون الكتل الاجتماعية داخله هي أوّل المتضررين. يجري ذلك وفقاً لدينامية جهنمية تتكفّل بهدم سلطة قمعية وإحلال أخرى لا تقلّ بطشاً ودموية مكانها. فالأصل في التدخّل دائماً هو التخلّص من أكبر عدد ممكن من البشر بالتوازي مع تفكيك السلطة التي «ترعاهم». لنتذكّر معاً كيف حصل ذلك بوضوح في هيروشيما وناكازاكي. السلطة اليابانية الحليفة للنازية كانت في طريقها إلى الهزيمة حينها، لكنّ الامبريالية الأميركية بالتوافق مع الامبرياليات الأوروبية الأخرى (وبتواطؤ مع ستالين ونظامه) ارتأت أن تحصل الهزيمة بمعزل عن السياق الطبيعي لها، فحصل ما حصل من إعدام جماعي لعشرات الألوف من البشر، وإخراجهم من الحياة بحجّة أنهم يعوّقون عملية بناء السلطة الجديدة واقتصادها الكومبرادوري التابع. أصلاً حدث ذلك مع ألمانيا قبل اليابان حين لجأ «التحالف الامبريالي» (الأميركي ــ السوفياتي تحديداً) إلى تدمير برلين فوق رؤوس أهلها. أيضاً، وكما هي الحال مع حليفتها اليابانية كانت سلطة هتلر حينها في طور الزوال، وبدت هزيمتها واقعة لا محالة، إلا أنّ «النظرية» الامبريالية قضت كما في حالات أخرى «مشابهة» بتصفية نسيج عمراني واجتماعي متكامل في سبيل أن تصبح الحياة الرأسمالية بعد النازية ممكنة... أكثر. ممكنة على طريقة مارشال وخطّته طبعاً، تماماً كما يراد لهذا البلد المسمّى سوريا أن يكون بعد الإتيان على عمرانه ونسيجه الطبقي والاجتماعي. حتى الآن سارت الخطّة هنا على نحو «مطابق» لنموذج برلين ودريسدن وهيروشيما وناكازاكي و... إلخ. ولكن عبر استخدام الأدوات الداخلية حصراً. فقد استطاع النظام الفاشي أن يقوم بدوره كاملاً في تدمير البيئة الاجتماعية المعارضة له في الأرياف وضواحي المدن، وبقي أن يقوم خصومه الفاشيون (فاشيّون وسفلة أيضاً بالنظر إلى نماذج التطهير و«الإبادة» التي قدّموها حتى الآن في الساحل والمناطق الكردية، بالمناسبة أين المعارضة الجبانة من عمليات القتل الجماعي التي حصلت هناك) بالباقي، أي بهزيمة «ما تبقّى من المجتمع السوري»، وخصوصا مع تعاظم قدرة هذا المجتمع على البقاء والتكيّف مع ظروف الحرب. إذ بعد نشوء سلطة جديدة (وهابية غالباً مع «غطاء أهلي» ضعيف وناقم على الوهابية والنظام معاً، خذوا الرقّة مثلاً) في الأماكن التي فقد النظام سيطرته عليها، حدث خلل في التوازن الذي فرضه المجتمع على السلطة، وغدت بموجبه إمكانية «التعايش» بين الكتل الاجتماعية ممكنة أكثر. وهذا أمر سيسمح للكتل تلك إذا ما استمرّ بأن تتكيّف على نحو أفضل مع دينامية الحرب. بالأحرى سيسمح لها بابتلاع الحرب، لا بالتكيّف معها فحسب. وهذه مشكلة بالنسبة لامبرياليات بنت إستراتيجيتها بالأساس على فكرة تحطيم المجتمع السوري بواسطة الصراع بين سلطتين مافياويتين ــ غدا بالإمكان الآن الحديث بشكل واضح عن سلطة المعارضة ــ. بكلام آخر أصبح ممنوعاً عليناً امبريالياً الاستمرار في عيش لا يتيح تدمير المجتمع على نحو كامل. لنقل على سبيل التوضيح إنّ الامبرياليات لا تحتمل فكرة أن تعيش هذه الكتل «مع بعضها» و«تختار» (نعم الموالون اختاروا النظام لقدرته عسكرياً على حمايتهم من بطش المسلحين والمعارضون اختاروا السلطة التي طردت النظام لاستطاعتها توفير الحماية لهم بعيداً عن بطش هذا الأخير وإجرامه) شكل السلطة التي تحفظ لها بقاءها ولو موقتاً في ظلّ حرب لا تسمح لنا بأكثر من التعايش مع السلطة الموجودة.
هكذا تفهم الامبريالية المنطق المسيّر للحرب، فإذا سارت هذه الأخيرة بالمجتمع نحو مزيد من التشظّي والتدمير الذاتي يصبح الكلام عن التدخّل المباشر بعيداً بعض الشيء، أما إذا استطاع المجتمع مقاومة عملية إفنائه عبر إنشاء توازنات معيّنة فيصبح عندها التدخّل ضرورياً، أقلّه لكسر التوازنات الناشئة وإعادة المجتمع إلى نقطة الصفر.
طبعاً يتحدّث كثيرون عن أهداف أخرى للتدخّل منها ضمان «أمن إسرائيل» ووقاية مستعمرات الخليج من «الخطر الإيراني»، وهذا كلام معروف في الأدبيات الجيوسياسية التقليدية لكنّه هنا بالتحديد لا يصلح لتفسير نهم الرأسماليات (بما فيها روسيا) إلى تصعيد وتيرة الحرب في مواجهة مجتمع عرف كيف يحتويها ويجعل منها أحياناً، ويا للعجب فرصة لتنويع مصادر العيش (اقرأ: الدخل)!ً تقريباً هذه هي الإمكانية الوحيدة الصالحة ــ إمكانية استخدام الحرب لا إمكانية استخدامنا بواسطتها ــ التي خرجنا بها من الحرب، ولأنّها كذلك بات مطلوباً إنهاؤها بما يجعل الكلام عن توازن اجتماعي مسنود عسكرياً أمراً خارج السياق. بالنسبة إلى الامبرياليات الغربية تحديداً، أصبح النظام كلّه ــ أي برموزه المعروفة ــ خارج السياق وليس التوازن الذي فرضته «انتصاراته» المرحلية فحسب، وبالتالي صار ضروريّاً البحث في هذه المرحلة عن توازن جديد يكسر السلطة القائمة ويضع مجتمعها تحت رحمة القوى الفاشية التي دمّر النظام الفاشي بيئتها في السابق. لاحظوا هنا كيف أصبحنا عرضة لصراع فاشيّات مجرمة لا تملك برنامجاً لإدارة الحرب حتّى. وهذا ما يسمّى عادة بالصراع الصفري، ولولا وجود المجتمع القادر في شقّيه «الموالي» والمعارض على ترويض قوى الحرب واحتوائها لكنّا الآن إزاء «بنية دولتية» لا تصلح بالكاد لإدارة حيّ من أحياء دمشق. «الدولة» إذاً «لا تدير شيئاً» بخلاف ما يعتقد، وإنّما وجود المجتمع المتماسك نسبياً والمتحلّل أفقياً ــ أي طبقياً ــ هو الذي يفعل، وهذا يفسّر من ضمن أشياء أخرى كثيرة بقاء دورة الاقتصاد قائمة، ولو بطرق فيها من الفساد والنّهب ما فيها (احتكارات التجّار، المضاربات على سعر الصرف، النّهب عبر المعابر والمنافذ الحدودية، الاقتصاد الموازي لجمعيات الإغاثة، التمويل الخارجي للآلتين العسكريتين النظامية والمسلّحة وما يفيض عن الاثنتين باتجاه المجتمع، التمويل الداخلي للميليشيات وقوى الأمر الواقع... إلخ). بهذا المعنى تصبح العلاقة بين اقتصاد الحرب والمجتمع المتنازع فيما بينه جدليّة وغير قابلة للفصم، فوجود الموارد من دون آليّة للنهب ــ وبالتالي التوزيع لاحقاً ــ لا ينفع في حالة المجتمعات المتحلّلة تماماً، وبما أنّ مجتمعنا لم يتحلّل بعد أقلّه في المناطق المأهولة التي نزح إليها المهجّرون (دمشق وبعض ريفها، ريف حمص، السويداء وريفها، ادلب وريفها، حماه وريفها... إلخ) فهذا يعني أنّ الفتات المتبقي من عملية النهب سيتوزّع على هذه البيئات وسيحفظ لها توازنها الاجتماعي.
بالطبع هذا ليس نموذجاً يمكن التفاخر به على المدى الطويل، ولكنّه أفضل بكثير من نموج برلين الذي تريد الامبرياليات تجريعنا إياه. ثمّة نموذج آخر للتدخّلات الامبريالية اسمه أفغانستان، غير أنّه لا يشبه كثيراً بيئتنا الاجتماعية، ولا يتناسب مع البنية الطبقية المعقّدة لسوريا.
في أفغانستان اشتغل الأميركيون كثيراً على المعطى السوسيولوجي (بخلاف الروس الذين تدخّلوا «موضعياً» للحفاظ على سلطة حليفة وليس لتغيير البنية الاجتماعية للسلطة) ووظّفوا خبرات أنثربولوجية وعلمية كثيرة في سياق تطلّعهم للتعامل مع القبائل كبنية منفصلة عن الواقع الاقتصادي. الآن فقط وبعد إسقاطهم أكثر من سلطة هناك، اكتشفوا أنّ البنية الاجتماعية الأفغانية لا يمكن التعامل معها بمعزل عن العامل الاقتصادي، وهو هناك يتمثّل بتجارة الأفيون التي تعدّ المصدر الأساسي لدخل المجموعات المحتربة. بالإمكان فعلاً اعتبار الأفيون ومن دون مبالغة مدخلاً لخروج أميركا من الحرب الأفغانية، فتجّاره المحلّيون أصبحوا يتعاملون مع السوق الأميركية (وكذا الأوروبية) مباشرة بعدما كان التعامل سابقاً يتمّ عن طريق الجيش والمؤسّسة الأمنية.
وهذا يعني أنّ الدور الوسيط الذي لعبه الجيش الأميركي في فترة من الفترات قد انتفى لمصلحة قنوات مباشرة أكثر ومتكيّفة على نحو أفضل مع عالم المال وأسواق المخدرات. ثمّة تنظيم «مشابه» للعملية يحدث على الحدود الأميركية المكسيكية ولكن من دون الحاجة إلى تظهيره امبريالياً، فأميركا كما نعلم ويعلم الجميع لا تتعامل مع تجّار المخدرات في المكسيك بل على العكس تخوض حرباً شعواء ضدّهم على حدودها الجنوبية، يا للهول! ما أقصده بالتحديد أنّ الاميركيين يعرفون بحكم تكوينهم الامبريالي ــ كنظام لا ككتلة اجتماعية ــ أنّ أساس تدخّلاتهم العسكرية وغير العسكرية هو الاقتصاد، ولكنّهم حين يتدخّلون فعليّاً لا يستعملون أدوات اقتصادية، فتصبح بالتالي العملية الاستعمارية ورطة حقيقية بالنسبة إليهم مثلما حدث في أفغانستان، ومثلما سيحدث في سوريا لو فكّروا بالمساس بمجتمعها المبتلع للحرب.
بالفعل لقد ابتلعنا الحرب هنا «تماماً كما ابتلعها الأفغان» من قبل ــ مع حفظ الفارق بين المجتمعين طبقيا واجتماعياً ــ، وأيّ محاولة لمعاودة التدخّل في سوريا من باب تحطيم السلطة ومؤسّساتها ستسرّع، بخلاف ما يقال، من عملية تكيّفنا مع الوضع الجديد. بالطبع ستحصل فوضى عارمة وستحدث «عمليات قتل جماعية» نتيجة لاختلال ميزان القوى قليلاً، ولكنّ العمليّة الامبريالية برمّتها ستفشل لأنّها محكومة شاءت أم أبت بمنطق الواقع. والواقع اليوم له اسم واحد: اقتصاد الحرب. في أفغانستان هزمت الامبريالية الأميركية اقتصاديّاً على أيدي فاشيّي طالبان، والأرجح أنّ الهزيمة ستتكرّر هنا بأشكال أخرى قد تكون أكثر كلفة بكثير. وما نأمله فقط ألّا يكون «الانتصار» ملكاً للفاشييّن وحدهم، سواء انتموا للنظام أو للمعارضة. على الجميع التفكير منذ الآن بطبيعة القوى التي ستقوى شوكتها بعد حدوث التدخّل الامبريالي، فهي التي «ستحكم البلد» غالباً و«بأرجحية واضحة» على الأرض. شخصيّاً لا أرى وجوداً يذكر لديمقراطيين اجتماعيين في المشهد، إلّا إذا كانت الصورة تصلني مشوّشة وغير متطابقة مع الواقع. على أيّ حال سننتظر ونرى، وفي الأثناء أنصحكم بأن تفتحوا التلفاز وتمدّوا ألسنتكم للجميع، الجميع بدون استثناء.
* كاتب سوري