لم تتغيّر لغة الاستعمار، ولم يتغيّر سلوك أدوات المُستعمِر. لم يحدث تطوّر ملحوظ في صيغة الفذلكة ما فوق القانونيّة (في معنى قانون الدول والقانون الدولي على حد سواء) للاستعمار الغربي. والاستعمار لم يتغيّر: أشكاله تغيّرت فقط وحصل تعديل بسيط لبعض مصطلحاته تماشياً مع الزمن. كان الاستعمار يسعى في الماضي إلى تغيير نمط العيش وغربنة الحياة في المُستعمرات ودمجها وإلحاقها عنوة بالمركز الغربي.
لكن الشعوب ثارت (إن الترويج لنضال غاندي اللاعنفي ونجاحه المزعوم كان كذبة من الرجل الأبيض _ أي أن غاندي كان ضرورة للرجل الأبيض، وكان أوجده لو لم يوجد) والعنف الثوري في الهند وفي غير الهند هو الذي أزاح الاستعمار عن صدورنا. لكن الاستعمار لم يرحل.
يسار أميركا اللاتينية وأفريقيا استفاق للأمر قبلنا: طلعت نظريّة «التبعيّة الاقتصاديّة» (التي أوّل ما كتب عنها باللغة العربيّة زميل الدراسة الجامعيّة، عبد الخالق عبد الله، من جامعة الإمارات) والتي لاحظت أن الاستعمار بقي واستدام عبر نمط من الاستعمار الجديد أو المُتجدّد. يسعى المركز الرأسمالي الغربي إلى إلحاق (بشكل تبعي) دول الأطراف (الشمال والجنوب أو غيرها من التصنيفات التي تفي بالغرض) والسيطرة الاقتصاديّة تؤدّي إلى السيطرة السياسية والثقافيّة (أو بالاستعارة من ماركس في «الأيديولوجيا الألمانيّة»، البنية التحتيّة تقرّر عناصر البنية الفوقيّة). كان اللورد كرومر يرى في مهمّته كرجل أبيض أن يغيّر ويعدّل ويصلح من عقل سكان المُستعمرات لتقصير فيها. أراد أن يسيطر على هذا العقل الذي لا يتطوّر وينمو من دون معونة الرجل الأبيض. هذا ما عناه هذا الأسبوع القائد العسكري الأميركي في أفغانستان عندما حكم أن الشعب الأفغاني لم يصل بعد إلى مرتبة الحكم الذاتي والدفاع عن النفس: أراد أن يقول إنّ القوات الأميركيّة تحتاج إلى قتل المزيد من السكّان لإيصالهم إلى برّ السلام ... الأميركي.
واستوطن الاستعمار في عقول (ميّز اللورد كرومر بين العقل والجسد في عمليّة السيطرة الاستعماريّة) المُستعمرين، وهناك من استبطن الاستعمار. وحديث مالك بن نبي عن القابليّة للاستعمار يهمل العمليّة المعقّدة التي لجأ إليها المُستعمر عبر وكلاء وأدوات له من أجل تحديث الاستعمار بأدوات جديدة. ميشال سليمان وبهيّة الحريري والجمع الذي احتفل في بيت الدين قبل أيّام بذكرى بدء الاستعمار الفرنسي الرسمي للبنان هو نموذج لتجديد الاستعمار، قصداً أو غباءً لا فرق (وليس الذكاء سمة الاثنين). لكن لبنان نموذج متطرّف لاستبطان عقليّة الاستعمار لأن الطبقة الحاكمة، ومن طوائف مُختلفة، صدّقت كذبة المُستعمر أن الحضارة والحداثة والرقيّ لا تكتمل من دون تقليد أو اجترار النمط الثقافي والاقتصادي للاستعمار. وقد روّجت تلك الطبقة لهذا المفهوم، حتى إنه انتشر بين الطبقات الاجتماعيّة في البلاد. وهذا ما عناه ذلك الفرنسي في ملحق «السفر» في عدد الأحد الماضي من «نيويورك تايمز» عندما أثنى على بلد لا يشعر بالغربة فيه. وكيف يشعر ولبنان بلد يرى أن مهمته تكمن في خدمة المستعمِر وفي تقديم يد الطاعة والولاء له ولها. إن احتفال ميشال سليمان (وهنا يجب وضع «ميشال سليمان» بين مزدوجين وذلك تقديراً لحجمه لأننا نتحدّث عن ظاهرة يمثّل هو دوراً صغيراً جداً فيها) بذكرى استعمار لبنان ينسجم مع الاحتفاط بتخليد المُستعمرين في أسماء شوارع لبنانية. ومدينة بيروت تزخر بأسماء رجال بيض كتب بعضهم إهانات عنصريّة حادّة ضد العرب والمسلمين.
والاستعمار الغربي لم يستعمر إلا من خلال شعارات أخلاقيّة سامية: قتل وقصف وكبّل وعذّب ونكّل واستعبد وأذلّ باسم أرفع القيم الإنسانيّة وأسماها. الرجل الأبيض لم يفعل ما فعله من قتل واستعباد للملايين من دول أفريقيا وآسيا لرفع قيمة الرجل المتوحّش (أي نحن، باستثناء ميشال سليمان لأنه في تكريمه للاستعمار يتقرّب من الرجل الأبيض).
وها هو الاستعمار لم يغادر منطقتنا كي يعود إليها. لا غرابة أن سوريا هي اليوم الدولة الوحيدة التي تريد أميركا تطويعها باسم الديموقراطيّة والحريّة الغائبة عن باقي الدول العربيّة التي تماشي أميركا (وهذا لا يعني أن النظام السوري لم يُماشِ الإمبراطوريّة الأميركيّة في تاريخه _ لقد فعل ولكن ليس بما فيه الكفاية وقد ضاقت أميركا ذرعاً بلحظات التمرّد غير المرغوب فيه). خاطب وزير الخارجيّة الروسي أميركا بتذكيرها أن الاستبداد في كل الدول العربيّة الأخرى المتحالفة معها لا يبدو أنه يتناقض مع الشعارات التي ترفعها أميركا عن سوريا. لكن وليد جنبلاط (وهو من أفضل من يستبطن عقليّة المُستعمَر المطيع وهذا يفسّر سبب تعاونه الوطيد مع دول الغرب حتى في سنوات قيادته الرثّة للحركة الوطنيّة التي ساهم هو أكثر من غيره في قتلها) يعرف أن يخاطب المُستعمِر وبلغته _ أوّاه: وفي عظته الأسبوعيّة قبل أيّام جزم أن «التسوية مع الاستبداد مستحيلة»، وقد غادر مندوب جنبلاط إلى السعوديّة بعد يوم من كتابة جنبلاط لحكمته تلك وذلك من أجل تنسيق السياسيات بينه وبين الحكم السعودي غير الاستبدادي (كيف يكون الحكم السعودي استبداديّاً، وجنبلاط جزم أن التسوية مع الاستبداد مستحيلة؟).
أميركا لا ترفع شعارات جديدة في مرحلة إحكام سيطرتها وتوسيعها في الشرق الأوسط. هي تعيد إنتاج خطاب الاستعمار الذي نسيه المُستعمَر أكثر مما نسيه المُستعمِر. كلام خطاب بوش عام 2003 يعيد صياغته وبإنشاء أقلّ باراك أوباما. وقد يكون أوباما أفضل من مثّل مرحلة الاستعمار الأميركي في مرحلة صعود الإمبراطوريّة. لون بشرته واسمه ساعدا في تناسي مرامي الاستعمار «الأبيض». تعاطف معه الكثير من العرب والمسلمين عام 2008 خصوصاً في خطبته (الشديدة الصهيونيّة والاستعلاء الاستعماري) في جامعة القاهرة. هم لم يسمعوا كلامه: بهرهم اسمه ولون بشرته ووقفته. كانت الفطنة تقضي بأن تجربة العرب مع كولن باول وكوندوليزا رايس يمكن أن تكون ملهمة لهم حول استخدام الاستعمار الغربي لأدوات بألوان وأشكال مختلفة. وقد كان هناك عدد كبير من العرب _ الأميركيّين والمسلمين _ الأميركيّين في صفوف جيش الاحتلال الأميركي في العراق (جلّهم من اللبنانيّين وبعضهم من خرّيجي جيش لحد).
أميركا صريحة في خطابها عن العدوان على أميركا: الشعب السوري آخر اهتماماتهم. وكيف تعد الحكومة الأميركيّة السوريّين بالحريّة وهي تشدد في تضييق مكتب التحقيقات الفدرالي عليهم هنا في أميركا، كما نشرت الـ«نيويورك تايمز»؟ الخطاب الأميركي المُعدّ للعدوان يتحدّث بلغة «الواقعيّة» في نظريّات العلاقات الدوليّة: الأمر يتعلّق بـ«المصلحة القوميّة الأميركيّة». يقول المسؤولون وأعضاء مجلس الشيوخ والصحافيّون المتحمّسون للعدوان إنّ على أوباما أن يضرب لأنه وضع «خطّاً أحمر» قبل سنة. هذه هي الحجّة الأساسيّة التي يسوقها أنصار الضربة. يقولون إن تراجع الرئيس عن كلامه يقوّض صدقيّة الرئيس الحالي والمقبل لأميركا. يتحدّثون أيضاً عن «جيران سوريا الأعزّاء» وعن ضرورة «حماية حلفائنا» وهم لا يعنون بذلك إلا العدوّ الإسرائيلي. كما أن هناك من يروّج للعدوان على طريقة تخويف إيران، عدوّ أسرائيل الأساسي. وجون كيري تحدّث لأكثر من ثلاث ساعات في جلسة استماع أمام لجنة العلاقات الخارجيّة في مجلس الشيوخ قبل أيّام ولم يتطرّق _ لا هو ولا أعضاء اللجنة _ إلى الشعب السوري. ثلاث ساعات ونصف ساعة عن سوريا وعن السلاح الكيميائي ولم يتصنّع أحد من المجتمعين تعاطفاً مع الشعب السوري. لكن جون كيري أبلغ المُستمعين رسالة: أن ألدّ أعداء إسرائيل هما إيران وحزب الله وأن ضرب سوريا ضروري من أجل إفهامها عدم المسّ بإسرائيل. (للأمانة، ذكر كيري أحمد الجربا عندما قال باحتقار شديد: تريدون أن أجلب الجربا هنا ليتحدّث إليكم؟ أستطيع أن آتي به. والطريف أن الجربا كان قد أخبر برنامج «كلام (بعض) الناس» أن الغرب لا يقدم على خطوة قبل استشارته. لكنه بعد إعلان أوباما عن تأجيل ضربته، عبّر عن خيبته. يعني الغرب لم يستشره في ما هو مهم وأهم). ومن اللافت أن الحكومة الأميركيّة في عهد أوباما لم تُعِد اجترار خطاب بوش عام 2003 عن الحريّة والديموقراطيّة إلا لماماً للجمهور الأجنبي. أحد لا يعد الشعب السوري بالديموقراطيّة. لكن مدّ الخطاب الإمبريالي بزخم أخلاقي ضروري في الخطاب المُوجّه لدول العالم وللسذّج في عالمنا العربي. هنا تستعين الإدارة بحديثها عن الأخلاقيّات وعن «مجتمع دولي» لا وجود له _ أو هو لا وجود له في ما يتعلّق بدولة لا تعير أي دولة أخرى في العالم اهتمامها عندما تقدم على خطوة حربيّة أو اقتصاديّة _ وعن استفظاع استعمال السلاح الكيميائي. يحق للعالم أجمع أن يستفظع السلاح الكيميائي إلا الولايات المتحدة، وليس فقط لأنها لا تزال تحتفظ بمخزون هائل من السلاح الكيميائي، وليس فقط لأن الخطاب الأميركي في كل مواضيع السياسة الخارجيّة والبيئية يفتقر إلى الصدقيّة، بل لأن الولايات المتحدة لا ترتدع بمعايير «الأنماط الدوليّة» (لم تنفك الحكومة الأميركيّة عن القول إن بشّار خرق «الأنماط الدوليّة» وليس «القوانين» خشية إدانة نفسها) وقد استعملت «عامل البرتقال» في فييتنام. كما أن هناك دراسة عن الفلوجة في العراق تقول إن وحشيّة الحرب الأميركيّة فيها تفوّقت من ناحية آثار التسمّم بين الناجين من آثار الوحشيّة في هيروشيما. ويضيف الخطاب الأميركي كلاماً مُكرّراً عن «المصلحة الحيويّة» لأميركا في سوريا، لكن هل هناك بقعة في العالم لا يكون فيها لأميركا مصلحة حيويّة؟ حتى سوق الغرب عام 1983 شكّلت لأميركا مصلحة حيويّة. والذي (أو التي) يتابع خطاب أقطاب المعارضة السوريّة (تلك الفصائل المُسيّرة بالكامل من آل سعود وآل ثاني) في الغرب يلاحظ أنهم يستبطنون خطاب الإدارة الأميركيّة وينسون أنهم (افتراضيّاً فقط) يمثّلون الشعب السوري. واحد من هؤلاء ظهر على محطة «سي إن إن» وحذّر من عواقب عدم الاعتداء الأميركي على سوريا لأن في ذلك رسالة مُشجّعة لكوريا الشمالية، وآخر حذّر من أخطار تصيب حلفاء أميركا (عنى إسرائيل، لكنه خجل من التصريح). لماذا تظنّ أدوات أميركا في منطقتنا أنهم بحكم انصياعهم وولائهم باتوا يمثّلون الإدارة الأميركيّة؟ هم مثل المراسلين والمراسلات العرب في واشنطن ونيويورك (مع استثناءات قليلة جداً) الذين يرون في دورهم مجرّد تقيّؤ الدعاية الأميركيّة المبتذلة على مرّ الإدارات المتعاقبة.
أما أبواق أنظمة النفط والغاز في العالم العربي فهي بحكم الجغرافيا مضطرّة لمضغ الكلام الشعبوي الرومنطيقي (المُزيّف والمدفوع الثمن) عن الشعب السوري وعن أطفال سوريا (هم أنفسهم الذين يتحدّثون عن أطفال سوريا على «فايسبوك» من اللبنانيّين الذين كانوا لسنوات خلت يجاهرون بدعوتهم لطرد العمّال السوريّين من لبنان. هم الذين ينهرون الأطفال السوريّين الفقراء يوميّاً في شوارع بيروت). لكن أبواق الحرب الأميركيّة على سوريا يجاهرون بـ«نظريّة الخيار العقلاني»: هؤلاء الذين يأتمرون مباشرة بأوامر أمراء قطر والسعوديّة والذين لا يحيدون عن سياسات الدولتين وعن التغيير في سياساتهما يحتاجون إلى تدخّل عسكري في المنطقة العربيّة. هؤلاء على تباعد ونفور من الرأي العام العربي الذي ينبذونه (وعن حق لأنه يرفض خياراتهم باستثناء القطاع الطائفي المذهبي في أنصار حركتَي 14 آذار اللبنانيّة والسوريّة، حيث نجحت الاستخبارات السعوديّة وبأموال طائلة في إحكام التأجيج الطائفي _ المذهبي). يحتاجون إلى القوّة المسّلحة كي يفرضوا أنفسهم وكي يتسنّى لهم التصفيق لقمع الجمهور المعارض لهم. كتّاب النفط والغاز يعيشون في الكثير من الأحيان في دول لا تتماشى أهواء سكّانها مع خياراتهم. لهذا فإن الصحافي المُخبر (من أمثال إعلاميّي عهد مبارك) يحتاج إلى النظام التسلّطي لأن تغيير النظام سيغيّر الطاقم الإعلامي السائد. هذا يفسّر كيف تحوّل عتاة اليمين والرجعيّة من أمثال عمرو أديب ونبيل عبد الفتّاح (والأخير كان فاعلاً في جهاز الاستخبارات المصري في عهد مبارك) إلى داعين للثورة بعد انقلاب السيسي.
لكن هناك (وخصوصاً في صفوف اليسار الحريري والوهّابي) من يقدّم فذلكات مُبتكرة لتسويغ العدوان: واحد يذكّر بتحالف ستالين مع هتلر في بداية الحرب العالميّة الثانية (وسعود الفيصل هو ستالين في المقارنة) وآخر يذكّرك باتفاقيّة برست _ ليتوفسك (خالد بن سلطان هو لينين في المقارنة)، وآخر يستشهد بـ«البيان الشيوعي» ليذكّر بإشادة ماركس بمنجزات الرأسماليّة بعد عهد الإقطاع، لأن أميركا تجلب لك الدمار والازدهار على طبق من ... دم.
الدعوة إلى الغزوات الأميركيّة للمنطقة العربيّة بدأت عام 1990 (وشارك فيها إعلام النظام السوري آنذاك)، لكن نتاج غزوات أميركا لا يرد في فذلكات المحلّلين العرب اليوم. من يذكّر بأن النموذج العراقي الحالي لا يقلّ بشاعة (وإن زاد في منسوب الدم والدمار) عن عهد صدّام؟ من يذكّر بأن النموذج الليبي بعد تحرير البلاد على يد الـ«ناتو» بات يذكّر بالغرب المتوحّش في أواخر القرن التاسع عشر هنا في أميركا؟ وهناك في أفغانستان من ينضوي في حركة طالبان لنفوره من الفساد والقمع والخراب في الحكم الأميركي فيها. لا، يتجاهل مثقّفو الغزو كل تلك النماذج الحيّة ويعدونك بأن التحرير الأميركي هذه المرّة سيؤتي ثماره، لأن النموذج السوري هو غير ما سبقه (وهذا صحيح من حيث وجود عناصر _ مثل الجيش السوري الحرّ وفرق الجهاديّة _ ستزيد من بشاعة المنتج الأميركي). ولعلّهم على طريقة كريم مروّة الذي بلغ عمقه في الفكر الماركسي حدّاً دفعه إلى الجزم في كتاب «نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي» أن الدولة الرأسماليّة هي الضامنة لحماية الناس من جشع الرأسماليّة. (هل من يترجم كتاب «ماركس للمبتدئين» لكريم مروّه لعلّ وعسى؟).
■ ■ ■
في سنوات حداثتي، كان هناك مَن يريدون تغيير العالم العربي عن بكرة أبيه. عودوا إلى مرثيّات ملصقات التنظيمات الفلسطينيّة، أو عودوا إلى كتب الشهداء المخلّدين للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين والجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين، تجدوا عرباً من كل الأقطار. سلّم وديع حدّاد مقدّرات تنظيمه الأوروبي في أوجه إلى جزائري. كان صبية ورجال عرب يتقاطرون من كل حدب وصوب للشهادة في فلسطين. يتذكّر سمير القنطار من سنوات الصبا أنه كان يكتب على دفتره المدرسي، وبتكرار لم يكن يعي معناه، «الشهيد سمير القنطار». نبتت في لبنان تنظيمات لبنانيّة وفلسطينيّة رفعت شعارات أرادت تغيير العالم من لبنان حتى أميركا اللاتينيّة (بعضها كان يعمل بإمرة استخبارات لبنانيّة وإسرائيليّة وإقليميّة بهدف التخريب على الشعارات والأهداف تلك، وظهور فاروق المقدّم _ قائد حركة 24 تشرين المتطرّفة _ في صف استخبارات أمين الجميّل كان ذا دلالة). تنافست التنظيمات اللبنانيّة والفلسطينيّة على كسب ودّ الفقراء (من يذكرهم بعد في لبنان) وعلى تقديم شهداء في معركة تحرير فلسطين وتثوير لبنان. هذا التنافس أنتج ظاهرة المزايدة الضارّة، لكنه كان محفّزاً أيضاً. كان الناس متنبّهين لخطورة ما يُحاك حولهم، كما أن الإعلام الثوري آنذاك ساهم في بلورة وعي وطني جماهيري. كان ذلك قبل وفاة عبد الناصر التي أدّت بالتدريج إلى سيادة مطلقة لإعلام النفط والغاز (سعودي على ليبي على قطري على عراقي على إماراتي، إلخ).
ترقّب العدوان على أحرّ من الجمر بات من اللوازم، والمجاهرة بطلب العدوان بات من ضرورات الترقّي في صفوف المنظمات والجمعيّات والمراكز المموّلة نفطيّاً وغازيّاً وأوروبيّاً (أوروبا في منطقتنا هي مثل ابن باز أو القرضاوي في أهدافها). قادة ومثقّفو المعارضة السوريّة يرحبون بالغزو الأميركي على أن يكون مُدمّراً، وإلا لا يقبلون به أبداً: إما تدمير شامل، أو بلا «جميلة أميركا» (أو لا يقبلون بضربة «مثل قلّتها» كما كتب أحدهم في جريدة خالد بن سلطان). كأنني بالائتلاف الوطني السوري يقول: الأرض السوريّة (وما تملك من ثروات) تصبح ملكاً لمن يقصفها من الغزاة الأجانب. ياسين الحاج صالح لا يتورّع عن مغازلة إسرائيل بالقول على «فايسبوك»: «رح أكون مبسوط إذا جرى تحطيم الطيران الأسدي ومخزون النظام من الأسلحة الكيماوية ومن صواريخ سكود كائناً من يكون الفاعل». ما عادت تنفع التقيّة. وهناك عرب يهدّدون جهاراً (في الإعلام العربي) عرباً آخرين بـ... إسرائيل. يتشفّى الصهاينة العرب في إعلام آل سعود بالتلويح بضربة قاصمة قاضية لحزب الله على يد حليفهم الإسرائيلي. وهناك حالات تحتاج إلى تحليل نفسي: ماذا تقول بداعي غزو الـ«ناتو» مبكراً (أي قبل استعمال السلاح الكيميائي)، أي صادق جلال العظم، المخوِّن الأكبر في الثقافة العربيّة المعاصرة. هل هناك من خوّن وكفّر (بالمعنى العلماني) غيره أكثر منه؟ هذا الذي اتهم هشام شرابي ووليد الخالدي بالعمالة لشتّى الأجهزة فقط لأنهما التقيا في بيروت بالأستاذ في جامعة هارفرد، روجر فيشر (ومن المفارقة أن الخالدي و(الراحل) شرابي تحوّلا نحو مواقف أقل اعتدالاً، فيما اعتنق العظم عبر السنوات منهج الاعتدال الساداتي).
لم أشهد حقبة 1956 وحلف بغداد (لم أكن قد ولدت بعد) لكني أشعر بحنين شديد إلى تلك الحقبة. كان هناك إجماع جماهيري على رفض التدخّل الأجنبي في المنطقة العربيّة. بعض أبناء من رفض العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 يترقّب على أحرّ من الجمر عدوان ما بعد الثلاثي على سوريا. تغيّر العالم العربي كثيراً والمعارضات العربيّة (يمكن تسجيل دور أحمد الجلبي الريادي هنا) أصبحت أدوات صغيرة للغازي الأميركي. وهناك من يحدّثك عن «عملية جراحيّة» كأن أميركا على وشك أن تجري عمليّة استئصال الزائدة الدوديّة في جسم الشعب السوري.
الاستعمار لم يخرج ليعود، لكنّه يحتاج بين الفينة والأخرى إلى أن يذكّرنا بأنه موجود، وهل أبلغ من التذكير بالقنابل والصواريخ؟
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)