تفاقمت الأزمة السوريّة، بفعل أسباب وعوامل متعدّدة، حتّى وصلت إلى حالتها الراهنة. اختلف «المحلّلون»، تبعاً لاختلاف ولاءاتهم السياسيّة، في رشق الاتّهامات وتوزيع المسؤوليّات عن هذا الدرك من التعقيد والخطورة، حيث صور الموت والتشرّد تعمّ سوريا، ورائحة التكفير والطائفيّة تزكم الأنوف، وشبح التقسيم أطلّ برأسه. ثمّ، بعد كل ذلك، لم يكن ينقص السوريين إلا أن تتحوّل بلادهم إلى مرتعٍ لمجانين «الجهاد العالمي»، يعيثون ذبحاً وتنكيلاً وتهجيراً «في سبيل الله»!
فقد تزايدت بشكل كبير أعداد المقاتلين الأجانب، ضمن جماعات ما يُعرف بـ«السلفيّة الجهاديّة»، ولا سيما المرتبطة بتنظيم «القاعدة» الإرهابي، كـ«جبهة النصرة لأهل الشام»، و«الدولة الإسلاميّة في العراق والشام» (ولا فرق)، وغيرهما، الذين باتوا يتصدّرون المشهد في مختلف المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. المشروع الظلامي الكارثي، الذي جاء هؤلاء لتنفيذه، وهم شرعوا بذلك فعلاً، في كل مكان حلّوا فيه، لا يخفى إلا عن أولئك المصرّين على دفن رؤوسهم في الرمال، حيث دُفنت أحلام الانتفاضة الشعبيّة السلميّة الموؤودة.
تكاثرت التحليلات حول هذه الظاهرة وتفاعلاتها، وتنوّعت قراءاتها. يجنح البعض إلى التقليل من شأنها ودورها الحقيقي، فيما يتّهم آخرون النظام وحلفاءه باصطناع بعض تلك الجماعات أو الوقوف وراء بعضها الآخر. وثمّة من يربط تصاعد دورها بتدخّل «حزب الله» إلى جانب النظام. وحسب رأي آخر، إنّ ما يجري يقع في نسق الامتداد الطبيعي لهذه الجماعات، ذلك أنّ فراغ السلطة، وفوضى السلاح والفلتان الأمني، هي العوامل الرئيسيّة التي غالباً ما شكّلت المناخ الملائم لنمو القاعدة
وأشباهها.
هكذا كانت أفغانستان أيّام الغزو السوفياتي، والعراق ما بعد الغزو الأميركي، وهي اليوم حال مناطق من سوريا، يحلو للبعض تسميتها «محررة»!
لا تخلو القراءات السالفة من الصحّة، لكنّ اللافت في أغلب ما يُنشر حول الموضوع (باستثناء ما يُكتب في المنتديات «الجهاديّة»)، إغفال عنصرٍ أساسي، في منتهى الأهميّة، هو سوابق «الجهاد السوري»، سواء داخل سوريا، أو خارجها بإسهام «الجهاديين» السوريين في غير مكان.
وإنّ قراءةً متأنيّة لتلك السوابق، تتيح فهماً أكبر للظاهرة الحاليّة، ولعلّ انتعاشها في سياق النزاع الحالي، هو، في جانب أساسيّ منه، استئناف لمشروع «الجهاد الإسلامي»، البلاء الذي عانت سوريا منه في مراحل عدّة، كان أبرزها مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حين دفع السوريون جميعاً ثمن مغامرة أولئك «المجاهدين»، ومشروعهم
الماضوي.
يعود تاريخ مرض «الجهاد السوري» إلى مطلع ستّينيات القرن الماضي. بدأت الحكاية مع شابّ سوري من حماه، وكان في مصر حينها للدراسة، يدعى مروان حديد (1934 ـــ 1976). هناك التقى بسيّد قطب (1906 ـــ 1966)، أبرز القادة التاريخيين للإخوان المسلمين، والمنظّر الأول لـ«الإسلام الجهادي» (اقرأ الإرهاب الإسلامي).
سرعان ما غدا ذلك الشاب أحد المقرّبين من قطب، والمؤمنين بأفكاره، عن رفض الحكومات والمجتمعات المسلمة باعتبارها «مجتمعات جاهلية»، لأنها «ملحدة أو وثنيّة»، وأنّ «خلق نظام إسلامي للحكم كان فرضاً مقدّساً»، ومن ثمّ لم يكن بديلاً، بل كان فريضة لازمة، وإنّ «الجهاد هو السبيل الوحيد لفرض نظام إسلامي جديد».
فعاد مروان إلى سوريا سنة 1962، حاملاً بذور التكفير والإرهاب تلك. وإيماناً منه بتعاليم قطب ومنطقه حول ضرورة العمل المسلّح، وأن يلبّي الإسلاميون دعوة الجهاد «ويعدّوا ما استطاعوا من قوة»، شرع يضع أفكار معلّمه موضع التنفيذ، فنشط في بناء خلايا إسلاميّة في حماه، وذاع صيته لاحقاً ليغدو «عملاق الجهاد السوري»، على نحو ما تصفه بعض «الأدبيات الجهاديّة».
في ربيع 1964، أي بعد عام من وصول البعث إلى السلطة في سوريا، اندلعت موجة احتجاجات مناهضة للحكّام الجدد، وكان أعنفها في حماه، حيث حوّل الإخوان المسلمون الأمر إلى جهاد ديني مسلّح ضد السلطة، على خلفيّة النزعة العلمانيّة للبعث (آنذاك)، وانتماء بعض رموز الحكم الجديد إلى أقليات مذهبيّة (قارن مع سلوك الإخوان وحلفائهم، وسعيهم منذ بداية الحراك السلمي في سوريا، ربيع 2011، إلى أسلمته وعسكرته، وقد نجحوا في مسعاهم). حينها، برز اسم مروان حديد، بوصفه أحد قادة التمرّد في حماه.
ورغم نجاح السلطة في احتواء الموقف بالقوّة، لكنّ مشروع «الجهاد» لم ينته. فقد عاد حديد وغيره من المتشددين الإسلاميين، منذ 1965، إلى تكوين الخلايا وتكديس السلاح وتدريب كوادرهم على قتال المدن.
لتكون سوريا على موعد آخر مع «الجهاد» (الإرهاب). وفي أيار 1975، وعلى خلفيّة نشاطه «الجهادي»، اعتقل مروان حديد بعد اشتباك مسلّح، وبدأ إضراباً عن الطعام في سجنه.
نقل إلى المستشفى وظل فيه حتى وفاته في حزيران 1976، فأعلنه إسلاميّو سوريا «شهيداً» وأقسموا على الانتقام.
أواخر السبعينيات بدأت سلسلة اغتيالات وتفجيرات إرهابية في مختلف المدن السوريّة. أعلن الإخوان المسلمون بعدها قيام «الجبهة الإسلامية لإنقاذ سوريا» (1980)، وفتحوا باب «التطوّع للجهاد في سوريا» لاستقطاب الشباب المقاتلين من جميع أنحاء العالم. وأصدروا بيان «الثورة الإسلامية في سوريا ومنهاجها»، فكان البيان بمثابة إعلان رسمي عن تحوّل الإخوان المسلمين صراحةً إلى الأصوليّة والعنف، وفكرة «الدولة الإسلامية»، بعد أن كانوا ينفون صلتهم بمنفّذي الأعمال الإرهابيّة، التي عبّر مرتكبوها عن أنفسهم في نشرة «النذير».
وقد أورد نيكولاس فان دام، في كتابه «الصراع على السلطة في سوريا»، مقتطفات من افتتاحيّة عددها الثاني، المؤرّخ في 21 أيلول 1979، تحت عنوان «المجاهدون: من هم وماذا يريدون»، ومما جاء فيها:
«... فالمجاهدون فتية آمنوا بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وبذلوا نفوسهم في سبيل الله رخيصة ليفتدوا دينهم وأمتهم مما هي فيه من ظلم وكفر وبغي وعدوان، وليعملوا على رفع كلمة لا إله إلا الله وتحكيم الشريعة السمحاء رحمة بالناس أجمعين وبالشعب السوري بالذات...» (وهل يتحدّث إرهابيّو القاعدة ومتفرعاتها وأشباهها اليوم بغير هذه اللغة؟!).
استمرت المواجهات الدامية بين «المجاهدين» والنظام حتى أوائل عام 1982، وسبّبت سقوط آلاف الضحايا من المدنيين الأبرياء، لتنتهي بإجهاض «التجربة الجهاديّة» وإنهاء وجود الإخوان المسلمين في سوريا.
وقد وجدها النظام فرصة لسحق كافّة أشكال المعارضة السياسية والنقابيّة، فقضى على التنظيمات اليسارية والقوميّة
المعارضة.
غير أنّ دور «الجهاديين السوريين» لم يقتصر على بلدهم فقط، إذ ساهموا بقوّة في ميادين «الجهاد العالمي»، من أفغانستان إلى الجزائر فالعراق، وقدّموا «منظّرين» بارزين في هذا الشأن. وهو ما سيُفرد له حديث
آخر.
* كاتب سوري