قضايا المشرق | قلوب الأردنيين تتّقد شمالاً من الشام وُلدنا وإلـى الشام نعوديكشف المناضل فاتح جاموس في مطالعته القيّمة (جردة حساب سورية: كيف تكوّن المستنقع؟ «الأخبار»، «قضايا المشرق»، 23 آب 2013) في القانون الموضوعي «الحاكم» في سوريا، عن الوجود المبكر لتيار قوى التغير السلمي التي «تبنت استراتيجية التغيير السلمي والآمن والتدريجي ورفض استراتيجية إسقاط النظام، وكذلك رفض التدخل الخارجي والاستعداد لمواجهته إذا حصل». وبحسب جاموس، تتضمن وثائق تلك المرحلة (2005) «وعياً كبيراً بالشروط السورية التاريخية وقضايا العصبيات المتخلفة وخطر الطائفية». تطورات الأزمة السورية تجاوزت هذه التصورات، لكنها في الوقت عينه، أكدت صحتها وصوابيتها وراهنيتها.

لقد دفع زعم المؤامرة وزعم الثورة أصحابهما إلى السلوك الخاطئ والمدمر. وبذلك ضاعت فرصة تاريخية وفرتها الانتفاضة الشعبية للشعب السوري إبّان الأشهر القليلة الأولى، لإحداث التغييرات المطلوبة في النظام. ولعل مراجعة التطورات وقياسها بمسؤولية مختلف الفرقاء يفيدان في تلمّس ضوء النفق للخروج من حالة «الأزمة الوطنية الشاملة والمستعصية»، كما يصفها جاموس ونوافقه في ذلك. لا جدال في أن ما حصل في درعا لم يكن مؤامرة خارجية، لكن المؤكد أن الذراع الأمنية للنظام قدمت استعراضاً غير ضروري في الوحشية، فشلت القيادة السياسية في القيام بما يلزم للاعتذار عنه ومحاسبة مرتكبيه، بكل قسوة وحزم. والنظام «الممانع» لا يتلطى بمؤامرة خارجية لتبرير فشله، ذلك أن أصل «الممانعة» يكمن في تحصين الداخل لمواجهة الخارج. والفشل الذريع للنظام السوري يتمثل في أمرين جوهريين:1) إيصاله الاحتقان الداخلي إلى حدود الانفجار الواسع، و2) عدم اكتشافه للاستعدادات العسكرية واللوجستية للمجموعات المسلحة، وخصوصاً الإسلامية. ونتج ذلك من تبني سياسات نيوليبرالية لم تكن ممكنة دون منظومة فساد واسعة وعميقة أسرت عقل وقلب البنية الأمنية في النظام، وتحالفت معها فصرفت نظرها عن الأعداء الحقيقيين وحولت جهدها نحو المعارضة الوطنية. وبالرغم من الدعوة المبكرة لإسقاط الليبرالية الجديدة (ناهض حتر، «الأخبار»، 2008) والتحذير منها لأنها «عدو داخلي يعمل ضد قوة الدولة السورية ودورها الإقليمي»، فإن إعجاب الرئيس الأسد بالتجربة التونسية من جهة(!) ومصالح شبكات الفساد المدعومة بتقارير بعض الأجهزة الأمنية من جهة أخرى، قادا الأمور صوب الانفجار الاجتماعي المحتوم. بهذا المعنى، من الواضح جداً أن النظام السوري هو الذي يتحمل المسؤولية الأولى والأكبر عن المغامرة باستقرار الدولة و«ضرب التحالف الاجتماعي الداخلي وجعل الفساد سرطانياً وشق المجتمع إلى مكوناته البدائية» (نفس المصدر السابق). من بعد ذلك، وفقط من بعده، صار للمؤامرة أدوات وعناصر تتحكم بالمشهد الداخلي. وبينت الأحداث أن عناصر المؤامرة كانت تتحضر بهدوء وثقة بعيداً عن أعين الأمن المهتمة بملاحقة واعتقال أصحاب الآراء المخالفة، وخصوصاً المعادية للنيوليبرالية والتسلط الأمني والفساد. بدا الأمن القومي السوري مضيعاً للبوصلة وفاقداً للرؤية معاً، فعند رموشه كانت المعابر الحدودية تؤجر لإمرار السلاح والعتاد، وتحت أجفانه كان يجري حفر الأنفاق وتجهيز البنية التحتية لقوى المؤامرة الخارجية الناشطة حتماً. لكن عيونه بقيت ساهرة لمنع تأوهات المهمشين والمفقرين وإذلال المخالفين في العشوائيات واعتقال الناقدين والمعترضين على سياسات اللبرلة المتوحشة. لذلك كله، كان ضرورياً ومنطقياً أن يدفع النظام ثمن خطيئته، وهو ما كان يجدر حصوله لو تسنى للانتفاضة الشعبية قيادات وطنية وواعية ومسؤولة. لكن الواقع اليوم أن سوريا، دولة ومجتمعاً، تدفع ثمن خطايا بعض أبنائها، في النظام والمعارضة على السواء. لقد أدى الزعم بوجود مؤامرة إلى تجاهل المعالجات الممكنة، لكن الزعم بوجود ثورة أدّى إلى إضاعة فرصة التغيير ودفع الأمور نحو المستنقع الحالي. لم تلتقط مجموعة من الشخصيات والقوى المعارضة «لحظة» سقوط النظام، بعضها لم «يلحظ» ذلك لكن العديدين أثارتهم النشوة فسقطوا ضحية وهم «الثورة» قبل أن يتحولوا، موضوعياً، إلى أدوات في مؤامرة إقليمية ـــ دولية. فلقد حققت الجموع المنتفضة «غايتها» لكن وكلاء المؤامرة دفعوها أبعد من المراد والممكن في آن واحد. سقط النظام الأمني منذ الإصرار الشعبي على كسر حاجز الخوف. سقط النظام السياسي عند إلغاء المادة الثامنة من الدستور. سقط النهج النيوليبرالي مع انفجار الريف والعشوائيات. لكن الإصرار على صيغة «الجزيرة» للثورات، أضاع هذه الإنجازات وسمح للبعض في النظام الذي ضربت أجنحته أن يعيدوا ترتيب أوضاعهم. كل الذين روّجوا لوجود ثورة وكل الذين تجاوزوا في أهدافهم المطالب التي خرجت الجموع الشعبية لأجلها، يتحملون كامل المسؤولية عن المآلات اللاحقة والدماء التي ستراق مذّاك. فمن البديهيات، بالنسبة إلى أي عملية ثورية، قياس القدرة على النجاح وحدود هذا النجاح؛ لأن الأمر لا يتعلق، فقط، بحجم المعاناة والرغبة بالتغيير الثوري. هذا ما فهمه «تيار التغيير السلمي» وما تجاهلته بقية التيارات التي ما عادت ترضى بإلغاء المادة الثامنة وفتح المجال السياسي وأصرّت على رأس الرئيس السوري! لا مراهقة أكثر من ذلك، بل لا خضوع للخارج أكثر وضوحاً. إن استدراج العسكرة والوقوع ضحية إغرائها هو الخطأ الاستراتيجي الكبير الذي وقعت به بعض القوى التي كانت تسعى إلى التغيير. بعضهم توهم إمكانية تأثير في المجريات رغم انكشاف دور الجماعات الإسلامية المتطرفة وشبكة دعمها الإقليمية. بعضهم أدى قسطه للعلى حين كان يتهم النظام بأنه هو الذي استدرج العسكرة، كما ولو أن جوهر المسألة يكمن هنا. وأي عاقل لا يعرف أن النظام، أي نظام، سيلجأ للأساليب القمعية والعنف حين يضطر؟ كيف تحول، فجأة، جمع من اليساريين المتشددين إلى تصور إمكانية تحقيق ثورة من خلال الإعلام وليس من خلال موازين القوى الفعلية؟ لقد فوّت هؤلاء فرصة تكريس المكاسب التي تحققت في وقت مبكر نسبياً، رغماً عن النظام، واستكمال النضال لتحقيق الأهداف الباقية. كان ذلك سيوفر كل هذه الدماء وكل هذا الدمار، والأهم كان سيمنع الانكشاف الخارجي بما يحقق بعض أهداف المؤامرة. في هذا السياق، ازدادت راهنية وواقعية أطروحة «جاموس» للخروج من هذه الأزمة الوطنية الشاملة، لجهة الاستراتيجية والوسائل، ولكن مع ذلك ثمة ما يستدعي المراجعة في بعض جوانب تشخيص الوضع الراهن واحتمالاته. بداية، توجد ضرورة لتكريس إنجازات الانتفاضة الشعبية التي وُظِّفت لاحقاً قبل أن يتحول الوضع إلى هجمة إمبريالية رجعية إسلامية ضد الدولة والمجتمع السوريين. وضرورة ذلك تنبع من الحاجة إلى تأكيد جدوى النضال الشعبي وقدرته على تحقيق مطالبه، وذلك ضماناً لاستئنافه في مرحلة ما بعد الحرب. إن تثبيت ذلك يجب أن يقود إلى مقولة سقوط النظام السابق، وتالياً إلى تشخيص الصراع الحالي باعتباره صراعاً حول النظام البديل. وفي هذا الإطار، وفي ظل تدويل الصراع الدائر واتضاح محاوره وأهدافه وأدواته، تتقدم أولوية الدفاع عن «الدولة» في مواجهة الخارج ووكلائه المحليين من «أمراء الدويلات» المعززين بشحنة وهابية صحراوية معادية لكل ما هو مدني وتعددي. وما ينقص في معركة بناء النظام البديل هو بالتحديد ما أشارت إليه وثائق ومناقشات «اللقاء المشرقي» لجهة مشروع الدولة الوطنية وخيارها التنموي المستقل والقوى الاجتماعية الحاملة لهذا المشروع. وباعتقادنا إن هذه القوى موجودة داخل النظام والمعارضة، وهو ما يستدعي العمل على بناء تحالف بات، ضروريا، بينها. انفجر الوضع السوري بسبب النيوليبرالية والفساد والتسلط الأمني الأعمى، لكن الذي دافع عن سوريا وحماها هم أبطال الجيش العربي السوري ومعظم الفئات الشعبية والوسطى والقوى الوطنية ومن خلفهم الصناعيون الوطنيون، ولن يكون منطقياً إلّا أن يصير هؤلاء هم ركيزة النظام الجديد. وهل ثمة تغيير، في الظروف الراهنة، أكثر وضوحاً من ذلك؟
* قيادي يساري ـ لبنان