أعود بالذاكرة إلى العام 1996. إلى «عناقيد الغضب». أذكر هدير الطائرات الإسرائيلية. كنا لا نزال في المدرسة في صيدا. لم يخفني أنا وحدي صوتها، بل أخاف المدرسة كلها، فاتخذ القرار بإنزالنا إلى الملاجئ ذات يوم من نيسان. قبل لحظات من اختباري لأول مرة ماذا يعني الملجأ، أنا ابنة العشر سنوات، «سحبتنا» العائلة إلى بيروت كونها آمنة. كانت المرة الأولى التي أشعر فيها بأن الخطر بات يمسّني. عدوان. غارات. قطع طرقات. ملجأ. قصف. لم تعد هذه المصطلحات مجرد كلمات تمرّ في نشرات الأخبار، بل أضحت أقرب إليّ، وباتت تلاحقني. في بيروت، بدا الجنوب أكثر التقاصاً بي... أو أنا أكثر التصاقاً به. منذ مجزرة قانا الأولى، أصبح صوت هدير الطائرات الإسرائيلية في سماء صيدا يخيفني. أحياناً، كنت أشعر أن هديرها المنخفض ودوائرها التي ترسمها في السماء، تتعمّد حصار طفولتنا، وانتهاك أحلام مراهقتنا. كانت «عناقيد الغضب» المدماك الأول في تكوين انتمائي السياسي والفكري. فولدت قصتي مع الجنوب (الذي لم أزره قبل التحرير إلا مرتين)، ومع المقاومة. ومن التوجه إلى الاهتمام بالقضايا الوطنية إلى القراءات السياسية الخجولة، كان أول تفاعل حقيقي لي مع المقاومة في التحرير في العام 2000. كانت المرة الأولى في تاريخ العالم العربي التي تنتزع فيها دولة عربية النصر من دون قيد أو شرط، ومن دون تسويات مذلة، بفضل رجال قدموا أنفسهم قرابين فداء لوطن صبغته مقولة «قوة لبنان في ضعفه». فكانت المرة الأولى التي أشعر فيها بأنني أقوى من هدير الطائرة الإسرائيلية، وبأن عيون الأطفال الذين استشهدوا على مرّ السنين سترقد بسلام. وإلى الجنوب، حيث أمسكنا التراب بأيدينا، وصرخنا أمام بوابة فاطمة احتفالاً بالتحرير، وتحولت الأغاني الوطنية الحزينة إلى هتافات شبابية حماسية في حلقات الرقص والتصفيق لرجال كانوا معنا بالأمس على مقاعد الدراسة، وإن لم نكن
نعرفهم.
بين الأعوام 2001 إلى 2004، اتخذت قناعاتي بخط العروبة ودعمي للمقاومة منحى أكثر عقلانية متجاوزاً العاطفة، عبر تكثيف القراءات السياسية بالتزامن مع الظروف التي عاشتها المنطقة العربية منذ 11 أيلول 2001 وما تبعه، وخاصة احتلال العراق. لا يمكن لأي متابع في ذلك الوقت، إلا أن يستشعر بأن هناك خطراً حقيقياً يهدّد المنطقة، ويهدف إلى السيطرة عليها، من قبل محور، بعيداً عن الحنكة السياسية، هو يجاهر بدعمه إسرائيل، وبأن سياسته تهدف إلى ضمان أمنها، هي العدوّ الوحيد لبلدنا، أقلّه في ذاكرتنا.
لذلك، أخلاقياً ووطنياً، كان يستحيل على أيّ مواطن عربيّ، افتراضياً، أن يهلّل للأميركيين في اجتياحهم للعراق أو في إعدام الرئيس العراقي صدام حسين، بعيداً عن نقاط الخلاف معه. من هنا، كان التمسك أكثر بخيار المقاومة، في ظل غياب أي حضور عربي فعلي لمواجهة ما تتعرض له المنطقة، إذ كلنا نعلم على سبيل المثال مواقف جامعة الدول العربية التي تبدأ بالاستنكار وتنتهي عند حدود فشل الاتفاق على الاجتماع، لا الإجماع! وبالتالي، أمام الصمت العربي المريب والمستفز، وأمام مخططات الأميركيين للسيطرة على المنطقة تارة عبر الاقتصاد وطوراً بالسياسة والحروب، ومن خلفها إسرائيل (وذلك باعترافهم علناً)، كان على أي مواطن أن يختار، فإما الخنوع والخضوع تحت شعار «الشرعية الدولية» التي لا تعرف إلا هندسة أمن إسرائيل (وتاريخ مواقفها في قضايا العرب حاضر)، وإما خيار المواجهة، وبالتالي المقاومة، بالموقف والسلاح، والفكر. فطبعاً كان الخيار الثاني.
وكان الرابع عشر من شباط 2005. إنه اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. على قدر الصدمة باغتيال هذا الرجل العملاق، كانت الصدمة أكبر بأصابع الاتهام التي وجهت منذ اللحظة الأولى للاغتيال إلى المقاومة في لبنان، فكانت أن أفرزت انقساماً مذهبياً خطيراً، فتحولت الذكرى إلى مادة استغلال سياسي دسمة من بعض الأطراف الذين ألبسوا الشهيد عباءة لا تشبه انتماءه، هو الذي شرّع المقاومة في العام 1996، وتحوّل لبنان إلى ساحة لأجهزة الاستخبارات الأميركية، الحليفة الأولى للعدوّ الإسرائيلي والناطقة باسمه، تحت عناوين مختلفة. وترافق هذا التحريض مع حملة محلية ــ دولية من أجل سحب سلاح المقاومة، في وقت كنا بأمس الحاجة إلى هذا السلاح، لما يمثله من ورقة قوية، حتى يصار إلى تسوية شاملة في المنطقة، وصولاً إلى بناء جيش قوي قادر على حماية الحدود من الخروقات الإسرائيلية اليومية، التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا.
قد ينجرف البعض وراء الشعارات الخطيرة التي رفعت آنذاك (ولا تزال)، إلا أن العاقل والعابر للطوئف إلى الوطن، والمؤمن والعارف بعقيدة وصدق المقاومة التي أثبتتها السنين والتي يعترف بها العدوّ للأسف في حين ينكرها أفرقاء الداخل والبلاد العربية، والمقتنع بوجهة السلاح على الحدود حصراً لا يستطيع إلا أن يطرح علامات استفهام كثيرة حول أهداف هذه الحملات، والتي لا تخدم عن قصد أو غير قصد إلا العدوّ الإسرائيلي.
«بعدك معهن»؟ يلاحقني هذا السؤال منذ حرب تموز في العام 2006 وحتى اليوم. لا شك في أن حرب تموز كانت محطة مفصلية في قناعاتي. وبعيداً عن المهاترات السياسية اللبنانية، والتي تنزع عن المقاومة عباءتها اللبنانية، فهي أكدت لي وما سبقها من استفزازات وخروقات إسرائيلية لا تقع في حسابات البعض «الاستقلالية» وما لحقها، من صوابية أنني «معهن» لأنهم وقفوا مرة جديدة في وجه العدوّ الإسرائيلي، وهي قضيتي الأساس. انتهت الحرب. اعترف العدوّ بخسارته، ونحن في الداخل لم نعترف. بل تحوّل الانتصار، ونعم إنه انتصار بمجرد أنه لم يحقق العدوّ أهدافه، إلى مادة خلافية يراد منه تقليب الرأي العام ضد المقاومة، وإلى حملات لزج سلاح المقاومة في الداخل حتى يومنا هذا، كمقدمة لنزع الشرعية عنها وإنهائها بصدام مع الجيش ومع مختلف فئات المجتمع اللبناني. غير أن القضية لا تزال هي نفسها، وليس من عاقل إلا ويدرك أن الخطر الإسرائيلي بات أكبر تحت عناوين وشعارات «مغلفة» مختلفة، منها ما يدغدغ البعض.
لطالما قام أمن إسرائيل، وبالتالي الوجود الإسرائيلي، على التفرقة بين العرب وشرذمتهم. ومشهد اليوم، لا يخدم للأسف إلا هذا المشروع. دول عربية ضعيفة، مقسمة، مشرذمة... قبائل ومجموعات دينية وعرقية تتقاتل في ما بينها... اقتصاد عربي إما يحتكره الأميركيون أو على شفير الانهيار ببصمات أميركية... اجتياح ثقافي وتجاريّ غربيّ لا يهدف إلا إلى إفراغ المنطقة من العقول العربية، وإلى ترويج التطبيع والسلام مع إسرائيل حتى باتت العداوة لها وجهة نظر. خروقات إسرائيلية يومية في لبنان تناقض كل المواثيق والاتفاقيات الدولية.
كل ذلك، يترافق مع استمرار الإسرائيليين في تهويد القدس قبلة المسلمين ومهد المسيح. مشهد لا يمكن النظر إليه إلا على أنه حرب جديدة بأدوات جديدة بعدما فشلوا في الحروب، من أجل القضاء على الهوية العربية، وعلى أي مشروع مناهض للسلام مع إسرائيل.
لا يمكن إغفال أن بلادنا تعاني من مشاكل داخلية، لها علاقة بالديموقراطية وغياب القانون والمؤسسات، تحتاج إلى حلّ جذريّ. ولكن أيضاً، من السذاجة الوطنية والتاريخية إغفال أن ما يجري اليوم يخدم بالدرجة الأولى الوجود الإسرائيلي الآخذ في التمدد، وفي تحصين نفسه، والذي يذكّرك يوميّاً بحضوره المستفز من خلال الخروقات، ليس أقلّ وجعاً منها التجاهل والصمت العربي الذي يلامس التبرير أحيانا. وعليه، فنحن نحتاج إلى إعادة قراءة للتاريخ، وإلى وقفة مع الذات، لإعادة تصويب البوصلة متحدين إلى مسارها الصحيح، وهي حماية تاريخنا وثرواتنا ووجودنا ضد العدوّ الإسرائيلي، تتجاوز الحسابات الضيقة التي أثبتت التجارب أنها تدمّر ولا تبني.
* أستاذة جامعية