سوّق الخطاب السياسي الذي عرفته تجمعات المنطقة العربية فكرة الثورة ـــ القطيعة على أنها ردة فعل على الظلم والاستبداد... إلخ. وأنّ الجموع لا تتحمل أية مسؤولية عن واقعها المتردي، بل إن التخلف والقهر والحرمان الذي يعيشه أفرادها، سببه قوة خارجة عنهم، تجسّدها سلطة سياسية تحول وحدها دون تحقيق الرخاء والتحرر لهذه التجمعات، وإقامة مدنها الفاضلة، وبالتالي فإن مجرد تغيير السلطة يؤسس للقطيعة مع نظام العلاقات الاقتصادية والاجتماعية القائم بين أفراد (الشعب)، عبر حرق مراحل تاريخية طويلة، من خلال «تثوير» المجتمعات. وهذه هي نظرية اليسار بشكل عام، ليتحول الخطاب «الثوري» سابقاً وحالياً، إلى خطاب غيبي قائم على شيطنة الآخر.إنّ الثورة بوصفها قطيعة معرفية نهائية على مستوى العمق الاجتماعي، تبدو على النقيض من ذلك، فالثورة ـــ القطيعة حركة موضوعية وليست ذاتية، أي ليست استجابة لمنظومة أخلاقية أو أحلام عن المدن الفاضلة. إنّ الثورة على مستوى العمق الاجتماعي حالة قسرية غير عنيفة، لأنها تأقلم واستجابة الفرد ـــ الإنسان لتغيّر شرطه الوجودي في بيئته، كما أنّ القطيعة لاواعية من حيث عدم إمكانية التخطيط لها.
جوهر شرط الثورة ـــ القطيعة اقتصادي، يبدأ معرفياً باكتشاف وفهم أكبر للبيئة المحيطة والقوانين التي تحكمها، وبالتالي زيادة القدرة على التحكم بهذه البيئة، ما يؤدي إلى تغير جذري في عملية الإنتاج وعلاقاته. وهو ما يعني تغيّراً جوهرياً في قيمة الفرد ودوره في بيئته _ على الأغلب فإن الأفراد ينظرون إلى التغيير نظرة سلبية، هذا التغيير العميق يتمظهر لاحقاً في منظومة اجتماعية وسياسية.
فالتغيير السياسي _ حتى وإن ادعى قادته العمل على تحقيق التغيير في العمق الاجتماعي _ لا يؤدي إلى القطيعة، لأن التغيير السياسي بحد ذاته أحد مظاهر القطيعة ولا مجال للعكس.
لو نظرنا إلى بريطانيا القرن الثامن عشر، لوجدنا مثالاً كاملاً عن الثورة ـــ القطيعة، بدأت مع عصر التنوير الذي أسس للثورة الصناعية، حيث بقيت الاكتشافات العلمية في عموم غرب أوروبا نظرية مجردة، في حين نجحت النخبة البريطانية في تطبيقها على الاقتصاد، لتغيّر جوهر العملية الإنتاجية وقيمة الفرد في بيئته، مع اختراع المحرك البخاري (جيمس وات 1712 م.) والنول الآلي (جون كاي 1733) ودخولهما عملية الإنتاج على نطاق واسع. وذلك استجابة لتوسع الأسواق في بريطانيا والمستعمرات وزيادة المواد الخام المتوفرة، مع كل ما رافق ذلك من تغيير في بنية المجتمع والمدينة تحديداً، وتغيّر في جوهر العلاقات الاجتماعية، التي ليست سوى انعكاس للعلاقات الاقتصادية، ليتمّ لاحقاً تبلور التغيرات السياسية المرافقة، والتي شهدها فعلياً نظام الحكم في بريطانيا العظمى، بغضّ النظر عن بقائه ملكياً، حيث لم تتمكن السلطة من مجاراة التغيير فقط، بل قادته وشجعته.
إنّ أيّ عنف كان لإسقاط سلطة قائمة، هو دليل على عدم وجود أو تبلور الشرط الثوري الوجودي، ويكون الدافع لإسقاط السلطة إعادة التوازن إلى منظومة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت قائمة أصلاً، بعدما أخلّت السلطة بهذا التوازن، نتيجة فشلها في تحقيق الحد الأدنى من مصالح الأغلبية، ولاحقاً انهيار في بنية الدولة نفسها، وهو ما حدث في فرنسا إبان «الثورة» في عام 1789. حيث لم يكن خروج الحشود نتيجة وعي مسبق لتحقيق القطيعة، هذا الوعي لم يكن حتى لدى معظم النخبة الفرنسية، بمن فيهم المفكرون الذين نظّروا للقيم التي تبنّتها «الثورة» لاحقاً، أمثال مونتسكيو وروسو وفولتير. فالملكية استمرت بعد الثورة ثلاثة أعوام، على شكل ملكية دستورية، في إطار عملية إصلاحية انتهت بإعلان الجمهورية عام 1792 وإعدام الملك بعدها بعام، على الأغلب نتيجة عوامل خارجية بشكل رئيسي. حيث كانت فرنسا تخوض حروباً في أوروبا، فضلاً عن الحرب الأهلية التي قادها روبسبير، لتنتهي بتسلّم العسكر للسلطة بقيادة نابوليون.
ولم تمنح «الثورة» السبق لفرنسا، بالمقارنة مع كثير من دول أوروبا التي شهدت تغييرات جذرية في طبيعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بفضل الثورة الصناعية التي بدأت في بريطانيا، وليس بفضل التغييرات السياسية، والتي حصلت كنتيجة للتغيير وليس كحالة مؤسسة له. مثلاً لم يتم فصل الدين عن الدولة في الدستور الفرنسي إلا عام 1905، وليس كنتيجة مباشرة للثورة كما يظن البعض. ورغم ذلك، لم تكن الثورة الفرنسية مجرد صراع على السلطة، لأنها تقاطعت مع لحظة تاريخية مؤسسة للقطيعة، هي الثورة الصناعية. فالثورة البلشفية شهدت الظروف والإرهاصات نفسها، من حيث فشل سلطة القيصر وانهيار بنية الدولة الروسية بعد حروب خاسرة رزحت تحت وطأتها الأغلبية من الروس. ورغم الشعارات التي رفعها البلاشفة لتحقيق القطيعة وما بعدها، إلا أنهم لم ينجحوا في ذلك، ليس بسبب الفشل في التطبيق وحسب، بل لعدم توافر الشرط الثوري الوجودي. وتعتبر التجربة البلشفية الدليل على فشل نظرية حرق المراحل التاريخية، مهما توفر لها من إمكانيات ضخمة.
في حين لم تكن «ثورات» العسكر في المنطقة العربية بعد «الاستقلال» سوى صراع على السلطة بين تيارات «النخبة»، هذا الصراع الذي لا يبرره سوى رأي اليسار بالنخبة العربية، بوصفها مجرد كومبرادور، سواء من كان منها في السلطة أو خارجها، فـ«ثورات» العسكر _ ومن بينها ما تشهده المنطقة اليوم _ لم تستطع تغيير شيء في منظومة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية (الدولة العميقة)، بل إنّ جل ما فعلته هو تغيير الوجوه. في حين استمرت طبيعة العلاقات بين الجموع على حالها، وهي النتيجة نفسها التي تنتظر «الربيع العربي»، إذ لا يبدو أن ما يجري يتقاطع مع لحظة تاريخية مؤسسة للقطيعة، ولا يعدو كونه صراعاً طائفياً يبشر بسلسلة من الصراعات تحت العنوان نفسه، إذ دون الوقود الطائفي لا استمرارية لأي صراع تحت أي عنوان آخر. هذا الصراع على السلطة الذي تشهده المنطقة العربية اليوم، مستمر حتى تستقر المعادلة الدولية الحاكمة لتجمعات المنطقة، ليستقر معها وضع أحد المتصارعين (من تيارات النخبة ـــ الكومبرادور العربية) في السلطة، لتعود العلاقات الاقتصادية والاجتماعية نفسها، ولكن بعناوين ووجوه جديدة.
* صحافي سوري