تحت بريق «ثورة الياسمين» كرّت سبحة سقوط بعض الأنظمة العربيّة، وبسرعة قياسيّة. والغريب أنّ هذه الثورات استهدفت في الغالب أنظمة جمهوريّة ــ صديقة لمعسكر الغرب الديموقراطي ــ تحولت إلى ممالك وسلطنات، في وقت كانت فيه الممالك والإمارات الحقيقيّة بعيدة عن مجرى الاستهداف، بل كانت العامل في التثوير والداعية الأقوى إلى الإصلاح والتغيير وإسقاط تلك الأنظمة الديكتاتوريّة. وعليه استنفرت وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي وأجهزة الاستخبارات والدبلوماسيات وأعلن نفير «الجهاد» لحصاد نتاج اليوم الموعود.
وفي لحظة، وبقدرة قادر أيضاً، تخلت تلك المرجعيّات الكبرى عن زبانيتها من الأنظمة التي باتت تشكّل عبئا عليها، ما أحرجها فانساقت طائعة أو مكرهة في رياح التغيير القادمة إلى المنطقة وتماهت مع مشهد التحولات فيها.
ولذلك استطاعت المرجعيّات الدوليّة الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة، استيعاب تلك الحركات والثورات وتوجيه بوصلتها، بما يخدم أهدافها ومصالحها، بهدف تشكيل أنظمة ديموقراطية مدّعاة، تارة بعنوان الإصلاح وتارة أخرى بعنوان الثورة، لتشكل بذلك المرجعية المنقذة من فوضى الاستبداد كما تزعم، وهي المرجعيات ذاتها التي زرعت الأنظمة الملكيّة في المنطقة، وأرست بنيانها على التبعيّة والمصادرة، وما إلى ذلك. ولكي تحرك في وجداننا مكامن النزعات استدرجت إلى قاموس شعوبنا وذاكراتها عناوين برّاقة، لتزييف الوعي فزودتنا بمصطلحات شكّلت نماذج في الاستغباء والتحايل على هذا الوعي، تمني بها الشعوب بالمنّ والسلوى، فانساقت وراءها، وبان «الربيع العربي»، على صعيد المنطقة، ومن قبل «ثورة الأرز» في لبنان، الذي رسمته كأنموذج يحتذى به، وجعلت منه مختبراً للتجارب الهادفة للنيل من مشروع المقاومة والممانعة بعد أن فشلت في كسره في مختلف مراحل المواجهة، لا سيما في عدوان تموز. وما أطلق من مشاريع لإقامة «الشرق الأوسط الجديد» مع كل ما يعني هذا من انفراط عقد المنطقة وتشظيتها، وجعلها إمارات متقاتلة ومتصارعة في ما بينها وعلى أسس مذهبيّة وطائفيّة وعرقيّة وما إلى ذلك، من دون أن تمس بأنظمة الاستبداد الملكي. وعليه حري بنا أن نتساءل، لماذا هذا الاهتمام بديموقراطيّة في منطقة ما دون سواها؟
ولا نبالغ إذا قلنا إنّ النسخة المشوهة ممّا يسمى «ثورة الأرز» كانت الملهم لحراك ما يسمّى «الربيع العربي» في إحداثها انشطاراً عموديّاً في بنية المجتمع اللبناني لتشكّل بوصلة وعي زائف أضحى الحراك معه يتحرك بمرسوم همايونيّ خارجي لا يعرف قراراً. وأدخلت المنطقة في أتون «الفوضى البنّاءة» المثقل بموجات الحقد والتعصب، التي ترجمت قتلاً ونحراً وسفك دماء صبغت به حركة «الربيع العربي» فوسمته بهوية حقدها وغطرستها.
ربما كنّا لنصدق ذلك لو أنّ الشعوب وبإمكاناتها الذاتيّة استطاعت فعلاً قلب الأنظمة، لينتج هذا «الربيع العربي» حلولاً لمشاكل المنطقة، وتنعم تحت فيئه المجتمعات العربية بالحريّة والسيادة والاستقلال. وقد لا نبالغ إذا قلنا إنّ الشعوب باندفاعتها كان لها المساهمة الكبرى في قلب تلك الأنظمة، ولكن المؤسف هو أنّ حراكها ولّد انفجاراً، لم يسمح برؤية المشهد بوضوح، مع غياب كامل لمرجعية ناظمة لهذا الحراك. ما سمح بانسلال جماعات عانت من عسف الممارسات الاستبداديّة السابقة، مدعومة ببترو دولار ملكي ينظّر في الديموقراطيّة، من دون توفر الحدّ من النضج السياسي، والظروف الموضوعية لإنجاز هذا المشروع. ما أفقد هذا «الربيع» المدّعى اندفاعته ليتحول إلى خريف كالح تتنازعه الصراعات التي تداخل فيها الطائفي والمذهبي بالعرقي والعنصري والفئوي بالحزبي، المصحوب بانغلاق الأفق وانسداده، باعتماد هذه الجماعات الإقصاء والتهميش سبيلًا وسياسة لتحقيق مشاريعها مستفيدة من المقولات الدينيّة التي أفرغت ما في جعبتها من أسلحة التكفير والتحريم، ورفع رايات «الجهاد» على أبناء جلدتها وفي أوطانهم، ملتحفة الواقعيّة السياسية مدعاة يفتخر قادتها بصداقتهم لقادة العدو الصهيوني، فانحرفت بمقولاتها هذه عن البوصلة الحقيقية فلسطين، وانحدرت بممارساتها إلى مستنقع التكالب على السلطة متسلحة بمشروعية دينيّة أسقطت من خلالها كل المحرّمات بالترهيب والقتل تارة والتضليل والزيف أخرى وهكذا. حتى أضحت ممارساتها التي لا توصف مظهراً حضارياً ومدعاة افتخار واعتزاز، وفي ذلك انقلاب على الحقائق، وبروز واضح لملامح زيف الوعي لديها.
ربما نستطيع أن نحمّل «المتآمر الخارجي» المسؤولية عمّا يحصل جراء دعمه اللامتناهي لموجات التطرف والأفكار الهدّامة، للإمعان في حركة التفتيت والتشظي لهذه المجتمعات، ولكن يبقى السؤال أين نحن من كلّ هذا؟! ولماذا نسمح للآخر أن يرسم مشهدنا السياسي والفكري ويتحكم بتحريك منظومتنا العقديّة، ويتلاعب بمصائر شعوبنا؟! لماذا نسمح له أن يفرض علينا مفاهيمه وثقافته وبمسميات مختلفة؟ وهل اقتنعنا وأقنعنا أنفسنا بالعقم الفكري وأنّنا بتنا عاجزين عن إنتاج ولو فكرة واحدة. وإن انتجناها تبقى في عالم التجريد لا حظّ لها في مجال الممارسة على أرض الواقع!
وفي المقلب الآخر لم يمتلك دعاة هذا الربيع الاستعدادات والقابليات للتفاعل مع الثورات، وبالتالي لم يتمكنوا من تحديد المرجعيات ورسم الخطط لإيجاد البدائل. فضلاً عن افتقارهم للنضج والوعي الثوريين، على طريقة «فليسقط واحد من فوق» في سياق حملة «فليسقط وعد بلفور». أو في أحسن الأحوال أمسكت بهم المرجعيات الدوليّة الكبرى لتسيّرهم وفق أجنداتها، وبالتالي تم الخلط بين الثورة والإصلاح والفوضى.
وربما في أحيان وعن قصد يتم العمل على تدمير المنظومة بكاملها كما هو الحال في سوريا وليبيا، وهي أنظمة ممانعة، ولا أدّل على ذلك تغيير رمز (علم) البلاد، (الثورة العربيّة الكبرى في سوريا، والسنوسيّة في ليبيا) في محاولة لمسح الصورة المشهديّة الحاليّة بالكامل واستحضار الماضي، وكأن عجلة الزمن تدور إلى الوراء. أمّا في مصر وباقي بلاد الربيع التي تدور في فلك الولايات المتحدة وحليفاتها، فتم الإبقاء على الرمز (العلم)، ما يعني أنّ الحراك لا يتعدى حدود استبدال النظام، والإبقاء على التوجهات الحقيقيّة للبلد. وبالمعنى الأعمّ وقعت هذه البلاد في أتون الفوضى البنّاءة والممنهجة، كما هو الحال في مصر وتونس وليبيا، وإلّا فما معنى أن تعلن الثورة على الثوار الذين أمسكوا بالسلطة دون سواهم، مدعومة من أطراف، حتى الأمس القريب ممنوع تدخلها في السياسة، كما في مصر كنموذج فاضح للتدخل السافر من المرجعيّات الدوليّة الكبرى على خط حلّ الأزمة، ما يشي بمدى ارتفاع منسوب الزيف في حركة الوعي العربي وأنساقه الدلاليّة التي وُسمت بعمى الألوان الذي ضرب المنظومات القيميّة والمفاهيميّة في عالمنا العربي، وانعكاسه على الممارسات والسلوكات في مجتمعاتنا.
في ظلّ هذه الواقع المأزوم الذي تعيشه مجتمعاتنا وفي ذروة التحولات المفاهيميّة والقيميّة، نحتاج إلى حركة تصحيحية يرسم من خلالها الأنساق والدلالات المفهوميّة النابعة من عمق أصالة مجتمعاتنا ومن أدبياتها ومنظومة قيمها وإلّا الانقياد مكرهين، وربما طائعين، للتخلي عن هوياتنا وشخصياتنا لنصبح مجرد أرقام في المزاد المعلن والمضمر.
ولا عجب في ذلك، ألم يتخرّج هؤلاء من بيئة الاستبداد، وهم الذين عاشوا تحت فيئها سنين طويلة وتحركوا في فضاءاتها وأشبعوا بثقافتها! وعليه فلا يلومنّ أحد أحداً إن لم يتمكنوا من ممارسة فنون التحرر، فلا هم أجادوا هذا الفنّ ولا هم اتقنوا فعل ممارسة الدّيموقراطيّة، ولا هم تعلّموها أصلاً. ولكن يبقى العجب كل العجب أنّ المناداة بتطبيق الديموقراطية تأتي من رحم الممالك والإمارات، التي لا تعرف منها إلّا رسم حروفها، والعاجزة ربّما عن تهجئتها، فإلى متى؟!
* باحث في الشؤون الاسلامية