قضايا المشرق | قبل قرابة عشرين عاماً، وتحديداً في أيلول 1993، وبينما كان الوفد الفلسطيني المفاوض منهمكاً في مفاوضات شاقة مع الوفد الإسرائيلي، في مبنى وزارة الخارجية الأميركية، في ما أطلق عليه في حينها مفاوضات الكوريدور، بقياده الراحلين د. حيدر عبد الشافي وفيصل الحسيني، وكانت المفاوضات تدور وتتعثر عند كل كلمة أو حرف، عند كل نقطة أو فاصلة، فوجئ الشعب الفلسطيني، كما فوجئ الوفد المفاوض، بإعلان التوصل إلى اتفاق
، حيث كانت تدور، وبالتوازي مع مفاوضات واشنطن، مفاوضات أخرى سرية في أوسلو سهلة وسلسة، لا تتوقف عند الكلمات والحروف والنقاط والفواصل، ولا حتى عند الفقرات والصفحات، إذ كان المطلوب في حينه الوصول إلى اتفاق بأي ثمن وبأي شكل لإنقاذ قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من خطر التحلل في تونس، ولإعادتها، بعد تأهيلها من خلال هذا الاتفاق السلس إلى واجهة الحياة السياسية الفلسطينية التي كانت قد احتلتها بقصد أو بغير قصد قيادة الوفد الذي كان يفاوض في واشنطن.
من المعروف أن المفاوضات مثلها مثل الحرب، وأنها امتداد للسياسة، وكل فريق مفاوض يستطيع أن يحصل في المعركة التفاوضية بمقدار ما يملك على الأرض، وبمقدار ما يملك من عناصر قوة، مضافاً إليها قدرته على توظيف عناصر القوة هذه وحشدها. ولكن حالة الاستعجال عند القائد الفلسطيني والمفاوض الفلسطيني (مفاوض أوسلو) على حدٍّ سواء، سبّبت عجزاً في أدائهما، وأوقعت الشعب الفلسطيني في المأزق تلو الآخر، وهذا بعض مما نعاني منه اليوم.
يعود المفاوض الفلسطيني إلى المفاوضات بعد ثلاث سنوات عجاف من الغياب، وذلك بعد أن حقق الخصم معظم ما يريد. فطيلة السنوات الثلاث المنصرمة والفلسطيني ينتظر أن تتحرك الولايات المتحدة وأوروبا أو الأمم المتحدة لإرغام حكومة نتنياهو على وقف الاستيطان، وتهديدها في حالة رفضها بأنها ستتخذ إجراءات عقابية، الأمر الذي لم يحدث، وما كان له أن يحدث. وإذا كان الفلسطيني قد قضى السنوات الثلاث في الانتظار (وربما قضى بعضاً من الوقت في معركة الدولة غير الكاملة العضوية في الأمم المتحدة)، فإن الإسرائيلي مارس أقصى ما لديه من نشاط، وبقي مثابراً على تنفيذ خطط الاستيطان والتهام المزيد من الأرض الفلسطينية وبناء الوحدات السكنية وتهويد القدس واستكمال بناء الجدار، وبأعلى الوتائر، الأمر الذي جعل موضوع إقامة دولة فلسطينية حقيقية، أو حتّى وهمية، في الضفة الغربية وقطاع غزة، ضرباً من ضروب الوهم إن لم نقل المسخرة. ويحق لنا القول إن الإسرائيلي أخذ كثيراً مما يريد، واقتنص ما يستطيع أن يبتلعه ويهضمه براحة شديدة، وإن كان ما زال يطمع في المزيد كعادته دائماً، الأمر الذي يتأكد يومياً بمناسبة وبلا مناسبة على لسان الوزراء والمسؤولين في حكومة نتنياهو. فوزير الإسكان يقول إنّه سيتم طرح عطاء إنشاء 2500 وحدة استيطانية في مستوطنات الضفة الغربية خلال أيام على شركات المقاولات، ووزير الاقتصاد يصرّح بدوره بأن لا قرار بتجميد الاستيطان ولن يكون، في حين تدور شائعات مفادها أن صفقة تمت برعاية أميركية مؤداها أن لا تجميد للاستيطان مقابل الإفراج على دفعات عن 114 من الأسرى الفلسطينيين الذين حُبسوا قبل عام 1993.
لا أحسب أنّ مكمن الخلل في الإسرائيلي الوقح والصريح، الذي يعلن سياساته وأطماعه بنحو مكشوف، ويمارسها جهاراً نهاراً. كذلك لا أعتقد أن الخلل يكمن في الموقف الأميركي الداعم المباشر والمعلن والدائم للإسرائيلي، بغض النظر عن عدوانيته ومقدار انسجامه مع القوانين الدولية ومعايير الديمقراطية الغربية والأعراف المعمول بها، بل يكمن الخلل في البيت الفلسطيني الذي أوقف كل أشكال العمل السياسي المقاوم والدبلوماسي، لاعتقاده أن لا خيار إلا خيار التفاوض، ثم أعلن وقف خيار التفاوض، وأن لا عودة إلى هذا الخيار إلا بعد وقف الاستيطان، معطياً الإسرائيلي كامل الوقت والفرصة للاستيطان، وفق ما يريد، وحيثما يريد، بحيث إنه لو تم وقف الاستيطان اليوم، لما كان الإسرائيلي بحاجه إلى المزيد. لم يكن لدى الفلسطيني ما يقوم به طيلة السنوات الثلاث لوقف الاستيطان أو لإجبار إسرائيل على الانصياع لشروطه أو للتفكير في بدائل أخرى وكيف يفكر في البدائل والحياة مفاوضات!
* التيار القومي الاجتماعي ــ فلسطين