قضايا المشرق | بدأ الوعي الشعبي الأردني مبكراً بمخاطر الصهيونية على وطنهم، وكان الوطنيون الأردنيون الأسبق، عربياً، في الشروع المبكر في المقاومة المسلحة للاستيطان اليهودي في فلسطين منذ 1920، كما تمكنوا منذ عام 1923 من منع تملك اليهود أراضي في الأردن نفسه. وتدلنا وثائق الحركة الوطنية في العشرينيات والثلاثينيات على مدى إدراك الجماهير الأردنية لضرورة الانخراط مع الشعب الفلسطيني في الصراع ضد المطامع الاستعمارية الاستيطانية للحركة الصهيونية في فلسطين، إلا أن اليسار الأردني، منذ نشأته، عجز عن التجاوب الجوهري مع متطلبات تطوير المقاومة الأردنية.
لعب اليساريون الأردنيون والفلسطينيون، بالطبع، دوراً مهماً في نشر الوعي السياسي بمخاطر الاستيطان اليهودي عبر التشخيص الصحيح للحركة الصهيونية بوصفها حركة رجعية استيطانية استعمارية، وأن قيام دولة «إسرائيل» يعني زوال حق الفلسطينيين في أرضهم ووطنهم. ولكن التأثير السوفياتي الحاسم على الفكر اليساري الأردني، كما العربي، أدى باليسار الأردني إلى اتخاذ مواقف يمينية من تطورات القضية الفلسطينية، تحت حجج الواقعية السياسية والتوازنات الدولية... إلخ.
وإذا كانت المآلات اللاحقة الكارثية للقضية الفلسطينية قد استعادت الهيبة للمواقف اليسارية منها، فإن ذلك يبدو كسخرية تاريخية، في وقت أصبحت فيه نهضة اليسار ضرورة قومية لمجابهة حل نهائي لمصلحة الصهيونية في فلسطين والأردن والمشرق
كله.
تشكل الحزب الشيوعي الأردني من الشيوعيين الأردنيين والفلسطينيين إثر ضمّ الضفة الغربية إلى الأردن بإعلان وحدة الضفتين عام 1950، وكانت لهم نضالات شعبية يعتد بها في مواجهة التفريط بالحقوق القومية. وإذا كان من الظلم إدانة الشيوعيين الأردنيين والفلسطينيين بتلافي النضال المسلح ضد الصهيونية في وقت مبكر ــ إذ أثبتت تجربة الحزب الشيوعي اللبناني اللاحقة أنه يكاد يكون من المستحيل على الأنظمة العربية كافة أن تسمح للشيوعيين بحمل السلاح ــ فإن التاريخ لم ينته بعد.
الآن، وفي ظل اللحظة البالغة الخطورة المتمثلة في الاستغلال الأميركي للحروب الأهلية العربية لتصفية القضية الفلسطينية، أصبح من الحتمي إعادة البحث في دور اليسار الأردني، وخاصة في ظل التعقيدات والمناورات السياسية التي تقوم بها كل الأطراف ذات العلاقة بالبحث عن الحلول ووضع النهايات للصراع العربي ــ «الإسرائيلي». ومن الضروري هنا تأكيد أهمية التوصل إلى موقف وبرنامج مقاومين، يتبناهما اليسار العربي عامة ــ والمشرقي خاصة ــ بصورة جماعية؛ فالمواقف المنفردة للأحزاب اليسارية في المنطقة لن تعطي النتائج المطلوبة وتبقى مجرد صياغات فكرية لن يكتب لها التأثير في الواقع. ويجب الإقرار، هنا، بأن شروط نجاح برنامج نضالي مقاوم موحد لليسار المشرقي والعربي مرتبط بالقضاء على المؤامرة الدولية على سوريا وإعادة بناء سوريا الجديدة على أسس ديموقراطية وتقدمية منخرطة في الصراع ضد «إسرائيل» انطلاقاً من فهم أن الشرط الأساسي للتقدم الاقتصادي والاجتماعي في هذه المنطقة مرتبط بإسقاط المشروع الصهيوني. وعندما نتحدث عن إسقاط هذا المشروع نحن لا نتحدث عن «إلقاء اليهود في البحر»، بل نتحدث عن تدمير المشروع الصهيوني القائم على أوهام توراتية رجعية واستعمار استيطاني للأرض الفلسطينية.
أدى طغيان أولوية الصراع الفلسطيني ــ الفلسطيني على الصراع مع «إسرائيل»، وسيؤدي إلى نتائج كارثية على الشعب الفلسطيني، ومحاولات نقل هذا الصراع إلى صفوف الشعب الفلسطيني خارج الأرض الفلسطينية، وبالذات الأردن، ما أدى إلى ظهور كثير من المصطلحات والرؤى السياسية التي تضع الشعبين الأردني والفلسطيني في مواجهة بعضهم لبعض، فبدأ الحديث عن الوطن البديل والمحاصصة تحت حجج المواطنة والحقوق المنقوصة للفلسطينيين. إن الوطن البديل هو أساساً مشروع «إسرائيلي» لحل القضية الفلسطينية على حساب الأردن، وعلى هذا الأساس فإن مقاومة هذا المشروع هي جزء من النضال الوطني الأردني ضد «إسرائيل» وليس موجهاً ضد الفلسطينيين، ومحاولة إضفاء الصفة الحقوقية للتجنيس أو فكرة المحاصصة هي خدمة جليلة للمشروع الصهيوني. وعلى هذا الأساس فإن من الضروري تشكيل جبهة أردنية فلسطينية بعيداً عن صراعات المنظمات الفلسطينية تكون مهمتها الأساسية النضال ضد مشروع التوطين والتجنيس والوطن البديل، والعمل على إحياء روح المقاومة ومشروعها لانتزاع الحقوق التاريخية والمشروعة للشعب الفلسطيني على أرضه وفي وطنه، وتكون الرد الحاسم على المشاريع التصفوية للقضية الفلسطينية بمباركة الأطراف المختلفة من المنظمات الفلسطينية ونزع شرعية التمثيل الفلسطيني عمن يحاول التساوق مع الأفكار الأميركية و«الإسرائيلية».
أما في ما يتعلق بموقف «حماس» مما يجري في المنطقة العربية، فمن الواضح انخراطها التام مع مشروع «الإخوان المسلمين» المبني على تفاهم أصبح واضحاً ــ ولم يعد مجرد تقديرات ــ مع السياسة الأميركية والقائم على فكرة تصوير الصراع في فلسطين بأنه صراع ديني يمنح الشرعية لقيام الدولة اليهودية بين دول الأديان والطوائف في المشرق العربي. ولعل اندفاع الإخوان المسلمين والحركة الوهابية، ومعهما حماس، إلى حرب تدمير المجتمعات العربية، تحت الرايات الدينية والمذهبية، يكون المهاد الضروري لولادة تلك «الشرعية».
في مواجهة كل هذا، أصبح حتمياً أن نفكّر في البديل اليساري المقاوم، وشرطه وحدة اليسار المشرقي والعربي.
* اتحاد الشيوعيين الأردنيين