بالتزامن مع شهر المسلسلات (أو شهر رمضان)، أبدع اللبنانيون في إنتاج مسلسلهم الواقعي. فرضوا أنفسهم على المؤسسات الإعلامية، فغيّروا الأولويات كما البرمجة من خلال مسلسل الجرائم الذي عاشوه. ففي العاشر من تموز/ يوليو، ظهرت عكار على الخريطة اللبنانية مع الإعلان عن وفاة رلى يعقوب واتهام زوجها بالتسبّب بموتها. وفي السادس عشر من الشهر نفسه، وقعت «جريمة بيصور»، التي قطع خلالها شابان من البلدة العضو الجنسي للمواطن ربيع الأحمد، المنتمي إلى طائفة مختلفة، لأنه تزوّج شقيقتهما خطيفة.
وفجر اليوم التالي، أُعلن قتل الإعلامي السوري محمد ضرار جمّو. وبعدما أخذت القضية أبعاداً سياسية، تبيّن أن الجريمة عائلية، وفيما انتشر خبر انتحار آمنة اسماعيل، «الموثّق» بالفيديو من قبل زوجها، ليختم جرائم تموز في السابع والعشرين منه، استقبل اللبنانيون شهر آب/ اغسطس بخبر العثور على جثة باسمة العيتاني في منزلها.
خمس جرائم قلّبت اللبنانيين على الجمر... والمسلسل مستمرّ. لم يمنح المجرمون الوقت الكافي لأحد لكي يحاول الإجابة عن سؤال: ماذا يجري؟ ولماذا؟ ارتكبوا جرائمهم كأنهم يشاركون في سباق حول الجريمة التي ستحتلّ المرتبة الأولى في غرابتها.
بالأرقام، هو ارتفاع في معدّل الجريمة في لبنان، إذ أفادت قوى الأمن الداخلي عن وقوع 154 جريمة قتل منذ مطلع هذا العام حتى نهاية شهر تموز/ يوليو. وقد ارتكبت 105 جرائم نتيجة لإشكالات فردية وعائلية، فيما كان لافتاً أن 47 منها ارتكبت خلال شهر حزيران/ يونيو فقط. فماذا نعرف عن هذه الجرائم الـ47؟ ماذا تتذكرون أيها اللبنانيون من جرائم وقعت قبل شهرين فقط؟
إذا استعنّا بالأرشيف، فسنتذكر جريمة راس بعلبك التي سقط فيها أربعة أشخاص، وجريمة قتل هاشم السلمان أمام السفارة الإيرانية. أين هي بقية الجرائم إذاً؟ كيف ارتُكبت، ومن كان ضحاياها؟ لا نعرف، فالإعلام لم يتناولها. وهذا يعني أن الجرائم التي ارتكبت في شهر تموز/ يوليو تتجاوز الخمسة. يكفي أن نتذكر أنه في اليوم نفسه الذي ارتكبت فيه جريمة بيصور، قُتل زوجان في سعدنايل وتركا طفلين خلفهما. فلماذا حظيت جريمة بيصور بمتابعة إعلامية أوسع من تلك التي حظيت بها جريمة سعدنايل؟ ولماذا حظيت الجرائم الخمس التي عرضناها أعلاه بتغطية إعلامية أوسع من الجرائم الـ47 التي شهدها حزيران، والـ105 التي شهدها لبنان منذ مطلع العام؟ من دون أن نتجاوز السؤال الأهم: منذ متى تحظى أخبار الجرائم المماثلة بهذا الحجم من التغطية الإعلامية؟ ولماذا؟

التحليل عوضاً عن التسلية

لطالما احتلت أخبار الجرائم مكانة ملحوظة في وسائل الإعلام المكتوبة، وفيما غابت عن نشرات الأخبار التلفزيونية، كانت تحضر في المرئي والمسموع من خلال بعض البرامج. ويسلّم جميع العاملين في مهنة الصحافة أن هذا النوع من الأخبار، الذي كان يرد تحت عنوان أخبار متفرقة (faits divers) حيناً، وفي الصفحات المتخصصة بالشؤون الأمنية أو القضائية حيناً آخر، «مقروء ولا يمكن الاستغناء عنه». والدليل ولادة عدد من المجلات المتخصصة بهذا النوع من الأخبار في مختلف دول العالم، وانتشارها.
وعلى مرّ العقود، كان التعامل مع هذا النوع من الأخبار يجري على قاعدة أنه مادة مقروءة، تسلّي الجمهور. وهذا ما يمكننا أن نستنتجه من بعض المناهج التي تدرّس الكتابة الإعلامية، إذ يتعلّم الطلاب كتابة الخبر على قاعدة الهرم المقلوب (من الأكثر أهمية إلى الأهم فالمهم) إلا في حالة الجريمة. يكتب الخبر في صيغة الهرم العادي: قصة نخلص في نهايتها إلى الحكم القضائي. كأنه لا علاقة لنا بالجريمة ولا بالمجرمين. نتابعها صحيح، لكن لنتسلّى كمن يشاهد فيلماً، أو لنتأكد من أنها لا تمتّ إلينا بصلة. هؤلاء المجرمون، أفراد، لا يشبهوننا. نقول ونرضي أنفسنا. في منتصف ستينيات القرن الماضي، وجه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر دعوة إلى «صحافيي اليسار» بعدم السماح لـ«صحافيي اليمين» بالاستمرار في استغلال ما سمّاه «أخبار الأفخاذ والدم» (les fesses et le sang)، بل المباشرة بالتحليل الاجتماعي لما يدرج ضمن الأخبار المتفرقة، لكنّ قلّة هم من تلقفوا هذه الدعوة، ولم «يرتق» هذا النوع من العمل الصحافي إلا مع بداية الثمانينيات، ليتحوّل خبر المتفرقات إلى خبر اجتماعي (fait social) في بعض الدول.
في لبنان، قليلة هي المرات التي تعامل فيها الإعلام مع جريمة على أنها جريمة اجتماعية. تُبرَز الجريمة لغرابتها، لا للأسئلة الاجتماعية والسياسية التي قد تثيرها. بالتأكيد يستحق الأمر المزيد من البحث، لكن ما تفيدنا به الذاكرة يعيدنا إلى جريمتين هزّتا الرأي العام اللبناني قبل نحو عشر سنوات. الأولى هي قضية الطفلة ناتالي دباس (1998) التي قيل بداية إنها توفيت بعد اغتصابها، (فاتُهمت المدرسة ثم الوالد). احتلت هذه الجريمة المشهد الإعلامي لوقت طويل، واتّسمت معالجتها بتغليب عنصري الإثارة والفضيحة، لنستيقظ بعد قرابة العام على خبر صغير يفيد بأن الطفلة توفيت بسبب مشكلة في القلب. أما الجريمة الثانية، فهي التي عُرفت باسم «جريمة الأونيسكو»، (آب 2002)، ويقال إنها السبب في إعادة إحياء حكم الإعدام نتيجة التداعيات الطائفية التي خلّفتها. يومها، أقدم الموظف في مركز صندوق تعويضات المعلمين في المدارس أحمد منصور على قتل ثمانية أشخاص من زملائه في المكتب. في هذه الجريمة المروعة، ترك العنان للإعلام ليدلي بدلوه من دون معالجة جادة باستثناء محاولة يتيمة، قام بها الزميل والأكاديمي زهير هواري في جريدة السفير، لكي يفهم ويفهمنا خلفية المرتكب الاجتماعية والنفسية.
أما إذا عدنا إلى السنوات القليلة الماضية، فسنتذكر جريمة بحرصاف التي راحت ضحيتها أم وبناتها الثلاث (تشرين الثاني 2009)، وجريمة كترمايا (نيسان 2010) التي علّق فيها أبناء البلدة ضحيتهم على عمود الكهرباء وقتلوه عقاباً له على جريمتي القتل والاغتصاب اللتين ارتكبهما. هاتان الجريمتان احتلتا مقدمات نشرات الأخبار، ومساحات واسعة في الصحف والمجلات، لكن المعالجة الإعلامية لهما بقيت أيضاً أقلّ من المستوى المطلوب. أي أقلّ بكثير من حجم الجريمة وتداعياتها الاجتماعية، بل يمكن القول إنها أقلّ أيضاً من الحجم الذي أولتها إيّاه وسائل الإعلام نفسها. في المقابل، غابت التغطية الإعلامية المماثلة عن جريمة قتل أب لعائلته وانتحاره في بئر العبد، علماً أنها كانت قد وقعت قبل شهر واحد فقط من حادثة بحرصاف.

بين القضايا وتوظيفها

يمكن إيراد جملة من الأسباب التي تحول دون إيلاء خبر الأهمية اللازمة. قد يتعلق الأمر بالوقت الذي عرفت فيه الجريمة، حساسية الصحافي المتابع، حجم المعلومات المتوافرة، وطبعاً حجم الإثارة في الموضوع... أما الأسباب التي تجعل وسيلة إعلامية تولي خبراً أهمية استثنائية، فهي واحد من ثلاثة: أنها تقدّر خطورته وأبعاده، أو أنها تريد توظيفه لخدمة أهدافها وسياساتها، أو أنها تعرف أنه خبر مثير سيستدعي نسبة عالية من المتابعة. الاحتمال الثاني هو الغالب في وسائل الإعلام اللبنانية، عندما يتعلق الأمر بخبر سياسي. ويمكن التفاؤل (قليلاً) والقول إن الاحتمال الأول بدأ يغلب عندما يكون الخبر اجتماعياً. وهذا ما يمكننا أن نفهمه على نحو أفضل إذا انطلقنا من حادثة وفاة رلى يعقوب. لقد وقعت هذه الجريمة في وقت كانت فيه اللجان النيابية تناقش مشروع قانون العنف الأسري، الذي أثار جدلاً كبيراً في الأوساط الدينية تحديداً. كان من البديهي أن لا يمرّ هذا الخبر عابراً في هذا الوقت تحديداً: قيل بوضوح إن رلى يعقوب توفيت بسبب العنف الذي كانت تتعرّض له من زوجها. وهذا يعني أن عدم إقرار القانون يعني وفاة المزيد من النساء، الذي تحوّل إلى شعار الحملة الإعلانية التي تشهدها شوارع لبنان اليوم (أنا ما متت بس غيري كتار ماتوا). لم يكن بوسع وسائل الإعلام المتبنية لإقرار قانون العنف الأسري إلا أن تعمد إلى إبراز خبر وفاة رلى يعقوب ومتابعته على نحو يومي، كما متابعة التحركات التي حصلت على هامشه. بمعنى آخر، كان يجب تحويله إلى قضية رأي عام، لأن هذا قد يسهم في تحقيق مكسب قانوني تطمح إليه النساء اللبنانيات منذ عقود.
يمكن القول إذاً إن تحويل الخبر من جريمة عادية إلى قضية اجتماعية يجري عندما تكون القيمة فيه للسياق الذي يحصل خلاله، بحيث يكون هو عارضاً من عوارض مرض المجتمع. وهذا ما ينطبق على قضية رلى يعقوب، وينطبق على نحو أكبر على جريمة بيصور التي لا تزال تحتاج إلى المزيد من المتابعة لأنها تختصر في تفاصيلها أصل الأزمة اللبنانية، لكن التقدير الصحيح لكيفية معالجة خبر وفاة رلى يعقوب وجريمة بيصور، حتى لو لم يكن كافياً حتى الآن، أوحى لبعض وسائل الإعلام بأن هذا ما يجب التعامل به مع كل الجرائم الأخرى التي تلتها.
فعلى خلفية محاربة «العنف ضد المرأة» جرت مقاربة بقية الجرائم. صحيح أن الضحية التي سالت منها الدماء في بيصور هي رجل (ربيع الأحمد)، لكن الضحية الأساسية، تبقى الزوجة دارين ملاعب التي تعدّ بحكم المختفية إلى اليوم، ولا أحد يعلم شيئاً عن مصيرها. وصحيح أيضاً أن الضحية في الصرفند رجل، إلا أن زوجته فعلت ذلك لأنه لم يكن يعاملها جيّداً. ويكفي وجود فيديو لعملية انتحار آمنة اسماعيل في يد زوجها كفاح أحمد لترتسم حوله الشكوك. وفي هذا السياق، يصبح بديهياً أن يكون زوج باسمة عيتاني متهماً بقتلها إلى أن يثبت العكس... بخلاف كلّ ما تعلّمناه من أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
لا بدّ من القول إن التطوّر الذي تشهده الصحافة اللبنانية في مقاربة هذا النوع من الجرائم جيد، لكنه يصبح بلا قيمة إذا قام على مبدأ الإثارة. يجب أن ندرك متى تدرج جريمة في سياقها الطبيعي ومتى تتحوّل إلى قضية اجتماعية. حتى عندما نقرّر أن نجعل منها قضية، علينا أن نرتقي في الممارسة المهنية إلى هذا المستوى، بحيث لا نغلّب عدالة القضية التي نحمل لواءها على الحقيقة من جهة، ولا نجعل الانتشار هاجساً فنترك لعنصر الإثارة الغلبة على الأمن الاجتماعي من جهة ثانية. بمعنى آخر، النجاح في معالجة حدث من خلال تحويله إلى قضية رأي عام لا يبرّر افتعال قضايا الرأي العام من أجل تحقيق انتشار أوسع.
لنفهم أفضل، يمكننا أن نتذكر جريمة مروعة أخرى حصلت في لبنان أيضاً وهي محاولة اغتصاب الشابة ميريام الأشقر في ساحل علما، وقتلها، على يد الناطور السوري (تشرين الثاني 2011). لقد وقعت هذه الجريمة في سياق سياسي ــ اجتماعي يتيح تحميل جميع السوريين الموجودين على الأراضي اللبنانية، وحتى كلّ المنتمين إلى الديانة الإسلامية، مسؤولية هذه الجريمة. هذا ما قالته صراحة بعض وسائل الإعلام المصنّفة «يمينية». الأخيرة تلقفت الخبر ووظّفته وفق سياستها بنجاح، بحيث كان من الصعب، ولا يزال، إقناع الرأي العام بعدم التعميم ومحاولة فهم ما حصل بعيداً عن نظرية «الجينات السورية المجرمة».
إذا فكرنا في الأمر بنزاهة، فسنكتشف أن هذه المعالجة لجريمة ساحل علما لا تختلف كثيراً عن الطريقة التي جرى فيها التعامل مع قضية انتحار آمنة اسماعيل أو مقتل باسمة العيتاني... بل هي لا تختلف حتى عن الانتقائية في اختيار جرائم دون أخرى، والإضاءة عليها. مهما حسنت النيّات، فلا يمكننا تبرير إسقاط وجهات نظرنا، وعدالة قضيتنا، على جرائم لا تتحمّل ما نحمّلها إياه.

إقحام السياسيين

من المفهوم أن الصحافي المنخرط في النضال الاجتماعي، سيحاول أن يستغلّ أي حادثة سلبية في المجتمع ليخرج ويقول: يجب إصلاح الأمر وإلا فستعدّد الحوادث السلبية المماثلة. يحتاج إلى أمثلة ليبني عليها ويقنع الجمهور، بعيداً عن النظريات التي لم يعد أحد يحبها، لكن المشكلة اليوم، أن الأمثلة كثرت إلى حد باتت تقدّم فحسب، من دون إرفاقها بمعالجة جدية تسمح بالذهاب أبعد من الإشارة إلى مكمن الخطر. لهذا ربما، يجب التفكير أكثر في كيفية تطوير معالجتنا لهذه القضايا. ربما وجب علينا اللجوء إلى متخصصين من علماء اجتماع وعلماء نفس وحقوقيين، ودفعهم إلى دراسة ما يحصل بعيداً عن الوصفات العلمية الجاهزة التي تقدّمها بعض الوجوده المكرّسة إعلامياً.
وما لا يقلّ أهمية، هو ضروة إقحام السياسيين في هذه القضايا وتحميلهم لمسؤولياتهم. هؤلاء الذين يتسابقون للإدلاء بتصاريح سياسية عند كل كارثة تهزّ البلاد، فيتصلون بالصحافيين، ويفتحون هواتفهم متنقلين من شاشة إلى أخرى، للتحريض حيناً وشدّ العصب الطائفي حيناً آخر. هؤلاء يجب أن يُسألوا عن مواضيع حياتية يومية، أن يطلب منهم الإدلاء بمواقفهم في مواضيع يمثل حلّها طرف الخيط الذي يمكن أن يودي بنا إلى بناء دولة مدنية. ربما بات يجب الاعتراف، بأن إيلاء هذه القضايا هذا الحجم من التغطية الإعلامية يبقى ناقصاً إذا لم يجر تسييسها ـــ بالمعنى النبيل للكلمة.
* من أسرة «الأخبار»