ما لم نفهمه حتّى الآن هو الكيفية التي يخرج بها الناس إلى الشارع. التشكيك بهذا الخروج هو نتاج لعدم الفهم ذاك، أمّا نسبه إلى الجيش فحسب فهو مصيبة حقيقية ابتلي بها الجناح الحقوقي داخل اليسار المصري. منذ فترة وأنا أتابع مواكبة هؤلاء للموجة الجديدة من الانتفاض هناك. هواجسهم تجاه عسكرة الحياة السياسية مشروعة وحقيقية، وخصوصاً بعد اتضاح الدور الذي لعبه الجيش في مساندة الطبقات الشعبية المناوئة لمرسي. لكن تبقى مشكلتهم في التعويل على انتفاض لا يكون الشعب بطبقاته المختلفة جزءاً منه. لقد جرّبنا في سوريا هذا الأمر، واتّضح أنّه لا ينفع لبناء نظرية فعلية عن الثورة. النقاشات التي خيضت هنا أفضت إلى مراجعة كلّ الأطراف المنخرطة في «الثورة» ــ الحرب لشكل مساهمتها. من كان يعتقد أنّها ثورة طبقات شعبية ضدّ مافيا حاكمة اكتشف أنّ الانحيازات الطبقية انتقلت سريعاً إلى الضفّة الأخرى حال زوال النظام عنها، ومن كان يصرّ على نسبها إلى المضاربين ورؤوس الأموال الخليجية فحسب فوجئ بمافيات النظام وهي تنهبه تماماً كما نهبت غيره بالأمس. في الحالتين بقي القاسم المشترك الوحيد هو الطبقات الشعبية الجاري نهبها والتي لم تعد تطيق أن يتكلّم أحد باسمها. لقد أسيء فهم هؤلاء مرّتين: مرّة حين خرجوا لافظين نظاماً أذلّهم وأفقرهم، ومرّة أخرى حين عاودوا الخروج ضدّ سلطة أتت باسم الدفاع عنهم (الرقّة وريف ادلب وعامودا مثالاً). في المرّتين كان خروجهم فطرياً وغير منظّم كفاية، وهو ما جعل من سوء الفهم بينهم وبين «طبقة» «المنظّرين» (وأنا بينهم) قاعدة للاشتغال. كلّنا اشتهينا الثورة في البداية، وعندما أتت مغايرة للترسيمة الذهنية التي اعتدنا عليها لفظناها تماماً، وقلنا عنها ما قاله مالك في الخمر. هذا لا يعني أنّ ما يحدث في سوريا ثورة، تماما كما لا ينفي اعتراضنا عليها قيامها بمعية طبقات شعبية مقهورة وراغبة في الخلاص من النظام بأيّ شكل من الأشكال. حصلت المراجعة هنا لأن التحلّل الاجتماعي حدث بوتيرة كبيرة، وبالتالي بتنا مضطرّين إلى التكيّف معه ومع الواقع الذي أنتجه وهو بكلّ المقاييس مغاير لتوقّعاتنا المبكّرة عن شكل الاحتجاج وطبيعة المنخرطين فيه. في مصر بدأ التحلّل الاجتماعي «للتو»، وهذا دليل على أنّ ما يحدث الآن أعمق وأكثر تجذّراً من الموجة السابقة. سيأخذ الأمر وقتاً قبل أن يدرك القطاع المتشكّك في الانتفاض أنّه مخطئ، وأنّ التقدير الأولي لحجم مساهمة الجيش في إزاحة مرسي كان «مبالغاً فيه». هم لم يبالغوا في التقدير ذاك بقدر ما قلّلوا من حجم الكتلة الشعبية التي استعانت بالجيش على الإخوان. وبين الأمرين فارق كبير. فالموقف من تدخّل الجيش في السياسة هو أمر طبيعي بالنسبة إلى قطاعات تعتبر نفسها بالتعريف مناهضة للفاشية، والجيش المصري رغم الأدبيات الناصرية الممجّدة له ليس استثناء في ذلك. إلى الآن الأمر مفهوم، لكن بمجرّد الانتقال من ذمّ الجيش على قاعدة أنه يتدخّل دوماً إلى ذمّ الطبقات الشعبية التي طالبت بتدخّله لكفّ يد السلطة الإخوانية عن التدخّل في حياتها ــ أي الطبقات ــ نصبح إزاء مشكلة جدية. المشكلة هنا أكبر من العجز عن فهم الدينامية التي تحرّك الطبقات تلك ضدّ السلطة، إذ ما من انتفاض قام إلا وقوّض القواعد التي تحرّك بداية على أساسها. هذه أصلاً من جملة الأمور التي صيغت كشعار غير معلن لانتفاضة يناير 2011. مصادمات محمّد محمود والعباسية ومجلس الوزراء جرت على هذا الأساس، ولا أعتقد أنّ ذاكرة البعض قصيرة إلى هذا الحدّ. لنقل إنّهم في بعض اليسار يعون أساس التحرّك، ولذلك تحديداً تحمّسوا لحركة «تمرّد» بوصفها نتاجاً للثورة التي طالبت منذ قيامها بإسقاط السلطة، أيّ سلطة. غير أنّهم اكتشفوا لاحقاً أنّ خطاب «تمرّد» لا يلامس القطاعات ذاتها التي انتفضت على مبارك، فهو يتعامل مع العسكر ببراغماتية لم تكن تحتملها الموجة الأولى، فضلا عن تحبيذه الوصول إلى قطاعات أوسع و«أقلّ راديكالية» من الشعب. عند هذه النقطة بدأ التشكيك يأخذ أشكالاً أخرى، فبعدما كنّا نشك في الجيش ونواياه فحسب صرنا على عتبة اعتبار الكتلة التي تحمّست لنزوله غير ثورية بالمرّة. كيف تكون كذلك وهي ترفع صور مبارك! لقد استغرق الأمر بضع ساعات على مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن يتبيّن للمتشكّكين أنّهم بالفعل منفصمون جزئياً عن الواقع الذي يتشكّل في الميادين. ذلك أن الصور التي رفعت كانت في معظمها «للجيش والشعب»، وإن بدا حاملوها قريبين من البيئة التي كانت تناصر مبارك في يوم من الأيام. ما لم يدركه الثوريون وهم يتكلّمون عن «أنصار مبارك» أو «الفلول» أنّهم استطاعوا ــ أي الثوريون ــ تغيير البنية الاجتماعية التي يتحرّك من خلالها المصريون. لم يعد «الفلول» في ضوء هذا التغيّر فلولاً، بل أصبحوا جزءاً من مجتمع يتحرّك ويتفاعل مع المشهد الثوري أوّلاً بأوّل. حصل ذلك حتىّ عندما كان هؤلاء جزءاً من الثورة المضادة. الموقف السلبي الذي أخذوه من الموجة الأولى للانتفاض وضعهم في خانة الاعتراض على المشهد الجديد المتكوّن في ضوء التحالف بين الثوريين والإخوان. موقعهم هنا لم يكن سياسياً فحسب بل كان طبقياً أيضاً، بمعنى أنّهم كانوا يتصرّفون كطبقة تشعر بالإقصاء والاستبعاد من المشهد. وهذا ما لم يؤخذ بالحسبان كثيراً لدى صياغة الحقبة الانتقالية التي أعقبت تنحّي مبارك. تعاملنا جميعاً مع هذه الكتلة باستخفاف ولم نبال «بالغضب» الذي كان يتصاعد في أحشائها، وأقصى ما استطعنا فعله هو تسميتها من باب السخرية «بحزب الكنبة». الإخوان كانوا يعرفون حجم هذه الكتلة جيّداً، لذلك بدوا الأحرص على التصالح مع رموزها (تشكيلة المجالس المحلية في المحافظات تقول ذلك) في القرى والمدن البعيدة عن المركز. القاهرة بالنسبة إلى الإخوان كانت هي المشكلة (وكذا الإسكندرية والغربية والمنوفية)، واتّضح ذلك من حجم انتفاضها ضدّهم قبل أيام، وفي هذا الأمر ما يشير إلى وعي الإخوان المبكّر لوظيفتهم كسلطة. لقد تصرّفوا منذ البداية على أساس أنّهم كذلك، وبالتالي بدوا مسؤولين مسؤولية كاملة عن تكريس حالة الاستقطاب داخل المجتمع. وهي حالة لم ترتبط بشيء قدر ارتباطها بالمصالح والامتيازات الطبقية. حتّى توسّلهم للمسألة الثقافية (موقع الدين داخل المجتمع) كان يصبّ في هذا الاتجاه، ومن تعامل مع الأمر على أساس أنّه صدام بين الدين والسياسة يدفع الآن ثمن سذاجته وسوء فهمه للآلية التي تتعامل بها السلطة مع المجتمع المنوي إخضاعه. ألم يسأل أحد نفسه لماذا بدأت انتفاضة 30 يونيو من المحافظات؟ الإخوان الآن في ممانعتهم للجيش والطبقات التي فوّضته يحاولون «فعل الشيء ذاته». محاولتهم اقتحام محافظات الصعيد وسيناء والاستيلاء عليها تدلّ على أنّهم في صدد التصرّف كطبقة جرى استبعادها، تماماً كما فعلوا هم مع «حزب الكنبة». على اليسار المتشكّك استيعاب الأمر سريعاً قبل أن يستوعبه الإخوان ويبدؤوا فعلياً بالهجوم المضاد. من مصلحة الجميع الآن استعادة مشهد يوم الأحد قبل الماضي، والتصرّف بفوقية أقلّ مع الناس الذين انتفضوا جماعياً ضدّ الإخوان، فنحن بالفعل إزاء تحوّل تاريخي تلعب فيه الطبقات التي همّشتها الموجة الأولى من الانتفاض دوراً رئيسياً. البارحة فقط أسهم هؤلاء في دحر الهجوم الإخواني على ميدان التحرير والمعتصمين فيه. لقد تابعت على مواقع التواصل الاجتماعي التحيّات التي وجّهها النشطاء السياسيون لشباب حي بولاق أبو العلا الشعبي (أقلّ ما قيل فيهم أنهم «رجّالة بجد»). ترافق ذلك مع لوم للجيش على تأخّره في التدخّل لمصلحة المعتصمين. ألا يدلّ هذا الانزياح على شيء ما؟ شخصيّاً فهمت من تذمّر الناس من الجيش أنّهم على استعداد لمعاودة التصويب عليه بمجرّد خروجه عن «التفويض» الذي كلّف به في 30 يونيو. وهو بطبيعته «تفويض محدود» ولا يتعدّى إطار المرحلة الانتقالية التي يجري التخطيط لها الآن. لا داعي لتحميل الأمر أكثر ممّا يحتمل، وخصوصا من جانب الحقوقيين الذين يخشون من عودة مرحلة الاعتقالات التعسّفية خارج إطار القانون. على هؤلاء التعامل مع الموقف على أساس أنّ الشعب هو الذي يتحرّك ويأخذ الأمر بيده. فعل ذلك في الموجة الأولى بمعيّة طبقة واحدة والآن يفعله بمعيّة الطبقات الأخرى التي لم يتح لها المشاركة في تقرير مصير بلدها. لا ينبغي الاستمرار في التقليل من شأن المواطنين الذين استنكفوا عن المشاركة سابقاً لأسباب تخصّهم قبل أن يعاودوا الانخراط لاحقاً لانتفاء تلك الأسباب. وهذا أمر يصعب معالجته بسهولة، لأنّ الموروث السياسي للموجة الأولى يضع عقبات أمام التعامل مع من يعتبرهم الثوريون «فلولاً». الفلول هنا ليسوا فقط شبكة رجال الأعمال والكومبرادور المنتفعة من فساد نظام مبارك وانحيازاته، بل أيضاً مجمل القطاع الذي استنكف عن ممارسة السياسة في المرحلة الماضية، وفضّل الانكفاء قليلاً ريثما «تتّضح الصورة أكثر». لم نعرف أنّ هؤلاء كثيرون إلّا بعد مشاركتهم بكثافة في يوم 30 يونيو، وهو ما لم نتوقّعه من أطراف جرت العادة منذ يناير 2011 على التعامل معها على قاعدة أنّها هامشية وغير مؤثّرة! ثمّة تغريدة طريفة كتبتها إحدى الشابات المصريات غداة يوم الانتفاض وهي تعلّق على ما يفعله حزب الكنبة بالمصريين: «أنا قاعدة في البيت وأمّي في الاتحادية. رايحة بينا على فين يا مصر». الأرجح أنّ هذا التشوّش لدى الثوريين سيستمرّ لفترة طويلة، ولن يكون بالإمكان معالجته إلّا عبر الانخراط أكثر في المشهد، ومحاولة تصويبه من موقع اليسار. هذا الموقع يناصب العسكر والشرطة العداء، ولا يتعامل معهما عادة كمؤسّسات يمكن ائتمانها على البلد مرحلياً، أو تفويضها بإدارته إلى حين كتابة الدستور وإجراء انتخابات جديدة. وهذا أمر جيّد، ولا يستحسن التراجع عنه في هذه المرحلة تحت ضغوط الكتلة الجديدة المؤيدة للجيش والشرطة، لكن سيكون علينا في المقابل توقّع صدامات من نوع مختلف. بالأساس كان منطق الصدام هو الذي يحكم الانتفاض منذ اليوم الأول.
صدام مع مبارك وأجهزته ثمّ مع المجلس العسكري السابق ثمّ مع الإخوان، والآن مع «فلولهم». «الفلول» هنا ــ كما قلنا سابقاً ــ هم أكثر من مجرّد فلول. لنعتبر أنّهم أقرب بالتعريف إلى القاعدة الاجتماعية للسلطة. حركتهم من عدمها محكومة بموقعهم الطبقي. عندما يهمّشون يصبحون قوّة اجتماعية لا يستهان بها، وبالتالي تتغيّر «طبيعتهم» ويغدو بالإمكان استخدامهم «كحطب للثورة». من هنا نفهم التشوّش الذي حكم رؤية الفتاة لمشاركة أمّها في انتفاضة 30 يونيو. لنلاحظ كذلك أنّ الرافعة الاجتماعية لهذا اليوم لم تكن الفقراء، وإنما الطبقة الوسطى بشريحتها الدنيا. ثمّة «أغنياء» وفقراء شاركوا أيضاً، ولكنهم لم يكونوا الأكثر تأثيراً في المشهد. هذه المرّة كان هؤلاء جميعاً في صفّنا ضدّ الإخوان ــ وخصوصا «الفلول» ــ، لكن من يضمن أن يستمرّوا في موقعهم حين يبدأ الصدام الجدّي مع الجيش والشرطة. الإخوان فهموا الدرس جيّداً وبدؤوا يتصرّفون في هجومهم المعاكس كطبقة. متى نفهم ذلك نحن أيضاً،وبالتالي نتصرّف على أساسه، أي على أساس أنّنا طبقة يحسب حسابها، أو في أحسن الأحوال كتلة اجتماعية لها قوام وانحيازات واضحة؟ اسألوا تامر موافي.
* كاتب سوري