قتلتنا الردّة. قتلتنا. إنّ الواحد منّا يحمل في الداخل ضدّهمظفر النواب

توالت أخبار عن موت العفيف الأخضر هذا الأسبوع، ثم تلتها أخبار عن انتحار فاشل له. سخر الأخضر _ كعادته _ في رسالة انتحاره من وسائل الانتحار التقليديّة في العالم العربي (ذكر مبيد الحشرات وسم الفئران والحرق) ودعاهم للجوء إلى طريقة غربيّة «حضاريّة» في الانتحار. المفارقة أن عمليّة الانتحار «الحضاريّة» فشلت، وبقي الأخضر على قيد الحياة. مهما يكن، فإن للعفيف الأخضر دوراً في تطوير النظريّة والممارسة الثوريّة العربيّة المعاصرة. وله أيضاً دور في مقارعة الستالينيّة العربيّة ووفق مصطلحات متفلّتة من الضوابط ومن المحاذير.
لم ألتق به قطّ، وإن صادقت بعضاً من مريديه المجالسيّين («المجالس» مأخوذة من «السوفيات»). كنّا نسمع به في لبنان في سنوات الحرب بعد أن غادره إلى باريس. كان مريدوه يشوّشون على أفكار الملتزمين والملتزمات في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين وفي حزب العمل الاشتراكي العربي _ لبنان. كان العفيف الأخضر ربما أوّل ناقد ماركسي ثوري لليساريّة العربيّة من منظار معادٍ للستالينيّة، وفي ما بعد للينينيّة، ومُسترشداً بأفكار روزا لوكسمبرغ. كانت مقالاته في مجلّة «دراسات عربيّة» وفي نشرات مطبوعة على الآلة الطابعة تتداول بين اليساريّين الثوريّين، وكانت تتميّز بصراحة وفظاظة ثوريّة خشي منها اليساريّون العرب. كان للعفيف وهج ثوري خاص: كان يُقال بيننا إنه تجاوز كل حدود الثوريّة اللبنانيّة وخطوطها وأطرها وكذلك الفلسطينيّة. كان متأثراً بنزعات يساريّة فرنسيّة، مع أنه لم يتأثّر بمدرسة فرنكفورت في نقدها للحداثة الغربيّة. لكن كان هناك ما هو لافت: لم يجذب إليه إلا البوهيميّين و«الهبيّين» والعبثيّين والناقمين على سلطة الفضيلة في العالم العربي. كان العفيف في الممارسة مدرسة في التحلّل من قيم المجتمع الجنسيّة والأخلاقيّة السائدة، وهذا يُسجّل له، لكنه فشل في بلورة ممارسة سياسيّة. بقي مغرّداً وحيداً ولم يكن له أي دور في المساهمة في النظريّة والممارسة في خضم الحرب. قيل إنه لامَ من شارك في الحرب، ربما لأنها أبعدته عن لبنان.
كنت واحداً من الذين تأثّروا بالعفيف الأخضر في نقده الرائد والخلاّق للستالينيّة العربيّة. والستالينيّة العربيّة (المتمثّلة في النموذج الحاوي _ البكداشي _ الشاوي _ الإبراهيمي _ الحواتمي وحتى في نموذج الجبهة الشعبيّة التي يُسجّل لها أنها لم تأخذ ماركسيّتها اللينينيّة على محمل الجدّ) كانت وبالاً على اليسار العربي (ويمكن إضافة النموذج المغربي للستالينيّة الملكيّة التي مثّلها علي يعته الذي لم يجد حرجاً في تقبيل يد الملك المغربي والانحناء أمامه). لكنّ للعفيف إسهاماً آخر: كسر قواعد اللغة الثوريّة التي حافظ عليها المفكرون اليساريّون، لكنه شطّ بعيداً في إدانته (على طريقة عتاة المُستشرقين) للغة العربيّة _ كلغة _ لارتباطها بالقرآن. لغة العفيف الأخضر كانت مبتكرة في صداميّتها وغضبها وتحدّيها وفي عدم مواربتها. قد يكون العفيف أوّل ماركسي عربي يكتب بلغة تدين لغة «دار التقدّم» ومجلّة «الطريق» البائدة والمُتحجّرة، والتي لا تزال تعشش في كتابات الشيوعيّين العرب.
حورب العفيف الأخضر في الإعلام والثقافة العربيّة (أو تم تجاهله بالكامل) ما طمس إسهاماته في تهشيم التراث العربي _ الإسلامي. يدين له هادي العلوي وحسين مروّة بالكثير. كان ربما أوّل من نبش في التراث ليعثر على نماذج ماديّة وثوريّة فيه، وبلغة تختلف عن ستالينيّة وجدانوفيّة لغة حسين مروّة الذي قام بجهد جبّار في عمله الموسوعي. لكن العفيف ذهب أبعد من حسين مروّة لأنه لم يمتنع عن التصدّي المُباشر للدين الإسلامي. انتهج منهج ماركس (الذي تجاهلته عن قصد وبراغماتيّة وأوامر موسكوبيّة كل أحزاب الأرثوذكسيّة الماركسيّة العربيّة) الذي اختصره في مقدمة «المساهمة في نقد فلسفة الحق لهيغل» ومفاده أن «نقد الدين يتقدّم على ما عداه من نقد». لكن الأخضر نبش أيضاً في التراث الشيوعي، وكان أوّل من كتب بالعربيّة عن «كومونة كرونشتات» التي غيّبها التأريخ الماركسي الستاليني (العربي والغربي) للثورة البلشفيّة، لأنها كشفت حصّة نقد الفوضويّة للينينيّة والتروتسكيّة على حدّ سواء (راجع مقالة «كومونة كرونشتات» في «دراسات عربيّة»، مارس 1973).
لكن العفيف الأخضر الثوري انتهى داعياً ليبراليّاً تطبيعيّاً يدعو العرب إلى الاستسلام أمام العدوّ الإسرائيلي. لكن تجربة دراسة تحوّل العفيف تسري على تحوّلات غيره من اليساريّين العرب السابقين: يمكن رصد بذور تحوّل المُفكر أو الكاتب من يساري إلى ليبرالي أو يميني في كتاباته اليساريّة السابقة (تستطيع أن تُخضع تجربة صادق العظم لنفس النظريّة بغية تبيان صوابها). قرّرت أن أعيد قراءة ما كتب العفيف الأخضر في أقصى يساريّته كي أفهم أو أفسّر سبب تحوّلاته الرجعيّة، كما يمكنكم إعادة قراءة «النقد الذاتي بعد الهزيمة» أو «دراسات يساريّة حول القضيّة الفلسطينيّة» كي تفهموا كيف أصبح العظم (الذي خوّن كل المثقّفين العرب باستثناء نفسه) داعياً إلى تدخّل الـ«ناتو» في سوريا لتحريرها.
لا شك بداية في أن العفيف الأخضر أدخل لغة جديدة ومصطلحات جديدة في النقد. لم يكن يعبأ ببناء وشائج علاقة زمالة مع أحد، أو بمهادنة أحد. كانت شخصيّته العصبيّة بادية في كتاباته. هو «العربي الغاضب» الأوّل أكثر من غيره. لم يمتنع في مقدمة «البيان الشيوعي» عن الكشف عن هويّة اسم مستعار لكاتب بالقول «زاهي شرفان اسم مستعار للانتهازي وضاح شرارة...» (ص. 11). ويقول في مقدمة كتابه الفوضوي الفذّ «سلطة المجالس» (العدد الأوّل): «إن عالمنا العربي بحاجة إلى من يهزّه من الأعماق هزاً، وعقليتنا الدينيّة الخرافية بحاجة إلى من يصدمها بل من يصادمها إلى حد الخري والبول عليها» (ص. 3). لم يكتب أحد قبله أو بعده هذه اللغة. لكن وراء هذا اليساريّة الثوريّة الفجّة كانت هناك شخصيّة جمعت تناقضات في نقدها، وتلك التناقضات تفسّر أكثر من غيرها تحوّل العفيف الأخضر. وليست تلك التناقضات خاصّة بالعفيف أبداً: تستطيع أن تجد أثراً لها في كتابات شبلي الشميّل (الذي كان العفيف كثير الاستشهاد به). وقد يكون الشميّل أوّل اشتراكي عربي وأوّل مُسوّق لنظريّة داروين (التي عصيت على فهم الأفغاني الذي ظنّ أن نظريّة النشوء تسمح بتطوّر الفيل إلى برغوث، كما كتب في «الردّ على الدهريّين»)، كما أن الشميّل كان سبّاقاً في الكتابة بالعربيّة عن الفوضويّة («مجموعة كتابات»، مقال عن «الاشتراكيّة»، ج. 1). لكن موقف الشميّل من الاحتلال البريطاني (مثل موقف «غالبيّة المهاجرين الشوام» كما يقول رفعت السعيد في «ثلاثة لبنانيّين في القاهرة»، ص. 45) كان موقفاً متعاطفاً ومُناصراً لا بل يقبل وصف «كرومر» بوصف «المُصلح» (راجع مقالة «انحطاط الشرق الأدبي والعقلي»). وفي دفاعه عن حق السوريّين في أميركا بالتجنيس، خاطب الشميّل رجلاً أميركيّاً بالقول: «أفليس من واجبك أيها الإنسان الراقي أن ترفع هذا المنحط إليك» (مقالة «التجنيس الأميركي» في «كتابات سياسيّة وإصلاحيّة» ص. 127). أكثر من ذلك، فإن المصلح الاجتماعي شبلي الشميّل كان معارضاً متزمّتاً للمساواة بين المرأة والرجل بسبب نظريّات له عن حجم جمجمة الرجل والمرأة وعن ثقل عقل الرجل («المقتطف» عام 1886).
أما العفيف، فقد مرّ بسلسلة تحوّلات سياسيّة في حياته لم يمرّ بمثلها ربما إلا عادل عبد المهدي. فقد بدأ عمله السياسي مناصراً لبن بلّا قبل أن يصبح قريباً من حركة «فتح»، ثم يبتعد عنها نتيجة لخيبته من قادتها ومن أكاذيبهم، وبعدها غاص في تجربة الجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين. ويقول شاكر النابلسي (مؤلّف كتاب عن عبقريّة شعر الأمير خالد الفيصل والداعي إلى التنوير _ مثل علي حرب _ في إعلام آل سعود) في كتابه (غير القيّم) عن العفيف الأخضر إن الأخير فضّل الجبهة الديموقراطيّة على الجبهة الشعبيّة لأن الأخيرة كانت موالية للنظام العراقي مع أن علاقة الجبهة بالنظام العراقي لم تبدأ عندما التحق العفيف بالجبهة الديموقراطيّة (راجع كتاب شاكر النابلسي، «محامي الشيطان: دراسة في فكر العفيف الأخضر»، ص. 30. والنابلسي يذكر أن العفيف توقّف عن الكتابة في جريدة «الحياة» من دون أن يذكر السبب الذي كان العفيف يردّده في كل مقابلاته، ومفاده أن خالد بن سلطان أوقفه عن الكتابة لأن جملة صدرت عنه ضد الوهابيّة على «الجزيرة»). وأصبح العفيف مؤسّس مدرسة الكوادر في الجبهة، و«أستاذ نايف حواتمه»، كما كان غسان كنفاني يقول ساخراً منهما. ويقول العفيف في إعادة رسم مسيرته السياسيّة في السنوات الماضية إنه كان معارضاً لنهج الكفاح المسلّح مبكراً (ويوافقه النابلسي على ذلك). لكن ليس هناك من دليل على قوله هذا أبداً، خصوصاً أن أدبيات الجبهة في أيّام العفيف كانت تزخر بتقديس الكفاح المسلّح وحمده. لم يصدق العفيف أبداً في سنواته الليبراليّة الرجعيّة الأخيرة عندما أصرّ أنه كان دوماً يعارض الكفاح المُسلّح في فلسطين لأنه كتب في نصرته في كل مكان: وتضمّنت دعوته في «رسالة إلى عمّال مصر» (في عام 1972) الحضّ على الهروع إلى مخازن السلاح.
لكن ما هي السمات المُبكرّة في فكر العفيف التي تنبّأت بمساره المستقبلي، وما هي التناقضات التي وسمت كتاباته؟ لا شك في أن كتابات العفيف في الدين الإسلامي وفي التاريخ الإسلامي هي ذات الإشكاليّة التي تحوّلت عبر السنوات إلى عداء مطلق ضد الإسلام كدين. والعداء ضد الدين، كدين، مبدأ إلحادي معروف، لكن العداء لدين واحد دون غيره ينطوي على تعصّب وكراهية دينيّة نجد آثارها في العلمانيّة الانتقائيّة عند بعض مشاهير الإلحاد في الغرب (مثل كريستوفر هتشنز وريتشارد دوكنز وفي سام هريس) ومقلّديهم في مواقع الإلحاد العربي على الإنترنت الذين يعيبون على المسلمين إسلامهم من دون أن يعيبوا على اليهود أو المسيحيّين دينهم. لم يكن العفيف منسجماً في نقد الأديان _ هذا هو نَفَس كتابه الأخير الصادر قبل أسابيع فقط بعنوان «من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ»: الإسلام هو مصدر الشرّ عنده. كان منهج العفيف في نقد التاريخ الإسلامي هو الانحياز إلى الثورات والانتفاضات الموجّهة إلى المركز (في مقرّ الخلافة أو السلطنة _ مع أنه تعاطف في ما بعد مع «مركز» بورقيبة وبن علي)، وكان هذا منسجماً مع إيمانه بالمجالسيّة الفوضويّة كبديل من مركزيّة الدولة اللينينيّة (راجع كتابه «التنظيم الثوري الحديث»). وعليه، فإن العفيف أكثر الاستشهاد والاسترشاد بالتجربة القرمطيّة والخوارج والإسماعيليّة. لكن نقد الأخضر للدين الإسلامي كان موجّهاً للإسلام كإسلام، وكان يراه وحده كذروة للتخلّف. فهو يقول عن الإسلام إنه «الدين الرجالي بأتمّ معنى الكلمة» («سلطة المجالس»، 1974، العدد الأوّل (والأخير؟)، ص. 30). وهل اليهوديّة والمسيحيّة أقل انحيازاً إلى الرجل؟ لا يحتاج الأخضر المفكّر اليساري الثوري (آنذاك) إلى أن يشرح سبب عدائه للدين، كدين، لكنه يحتاج إلى أن يشرح سبب عدائه للدين الإسلامي بصورة حصريّة. الأخضر كان يشمئزّ من أي تعبير عن عداء عربي ضد اليهود واليهوديّة، وكان أوّل من دافع عن لقاءات بين عرب و«أمميّين إسرائيليّين» (لم نكن ندري أن شمعون بيريز يدخل في تصنيف الأممي عند الأخضر)، ولم يكن يكتب في نقد المسيحيّة واليهوديّة. على العكس من ذلك، فإن كتاباته كانت تستقي في عدائها من العداء الاستشراقي التقليدي (وفي مقدّمة كتاب الأخضر الأخير عن محمد، يستفيض الكاتب في نقد نقد إدوارد سعيد للاستشراق وفي الثناء على كتاباتهم، خصوصاً عن الإسلام هدف عدائهم. حتى ماسينيون لم يجد فيه العفيف ما يستوجب النقد. كان كل المستشرقين سواء عنده، من رودنسون إلى جاك بيرك وما بينهما). لكن حقد الأخضر على الدين الإسلامي وعلى محمد بلغ ذروته في كتابه الأخير عن محمد، والذي لم يتخطّ الكتابات غير العليمة لغير المُستشرقين من الغربيّين الذين كتبوا عن محمد من منظور علم النفس المبتذل.
لكن العفيف يتعاطى مع الغرب ومع أديانه باحترام وتبجيل شديديْن، على طريقة شبلي الشميّل. فالغرب عند الأخضر، كما عند غيره من اليساريّين السابقين، يمثّل «النمط المثالي» (وهذا غير «النمط المُجرّد» لماكس فيبر، والذي ضاعت فكرته في الترجمة عن الألمانيّة _ «إيديال تيبوس» _ الذي لا يعني في أصله معنى «المثالي»). يجزم الأخضر مثلاً بأن مهمة نقد الدين في الغرب «انتهت أساساً» (المقالة مذيّلة بتوقيع أبو طاهر القرمطي، لكنها تحمل أسلوب الأخضر، «سلطة المجالس»، ص. 64). ويرى الأخضر أن بين الغرب والشرق قطعاً معرفيّاً (كان هذا واحداً من دوغما الاستشراق في نقد سعيد)، وأن الغرب حسم مسألة التقدّم والحداثة. لا يرى الحريص النظري على الجدليّة والمُسترشد بروزا لوكسمبورغ العلاقة الجدليّة بين الديني والعلماني، بين القديم وبين الحديث في المجتمعات الغربيّة الحديثة. (وهذا يفسّر كيف أن الأخضر لم ير إيديولوجيّة العداء نحو الإسلام في الغرب إلا بمعيار ما بعد الحداثة، رغم أنها تقع في حيّز ما قبل الحداثة).
وهذا القطع الحادّ (نظريّاً) بين القديم والحديث وبين الرجعي والتقدّمي وبين العلماني والديني يؤسّس عن الأخضر إلى الدعوة الصريحة للاستعمار الغربي (راجع مقالته «من المواطنة السالبة إلى المواطنة الموجبة»، «الحياة»، 19 تمّوز، 2001). فات العفيف أن مدارس في أميركا باتت ترفض تدريس نظريّة داروين وتريد أن تكتفي بتدريس نظريّة الخلق الدينيّة. ولا يقبل الأخضر في رؤيته للغرب الفوارق بين مجتمعاتها: بين موقع الدين المركزي في أميركا وبين موقعها الأضعف في فرنسا، مثلاً. وكان الرجل على اقتناع عنيد بأن العرب مُصابون بالتخلّف، وهو عزا هذا التخلّف (حتى في سنوات يساريّته المُبكّرة) إلى العنصر الإسلامي. هذه السمة المُبكّرة في كتابات العفيف من الحماسة للتدخّل الغربي (غير المُسلم، بالنسبة إليه) شكّلت لتحوّلاته اللاحقة. وقد لامَ الأخضر «البورجوازيّة العربيّة» والعامّة _ لا فرق عنده في هذه الحالة _ لأنها رفضت الغزوة النابوليونيّة التي كانت بمثابة إيقاظ للعالم العربي من نومه الثقيل. وفي نظر الأخضر، فإن البورجوازيّة رفضت غزوة نابوليون المُسرّعة للتاريخ للحفاظ على تقاليدها، أما العامّة فقد رفضتها بسبب غبائها («البيان الشيوعي»، ص. 206). إن العودة إلى هذه النزعة الاقتصادويّة عن العفيف (والتي على نصف أساسها أيّد ماركس استعمار بريطانيا للهند من دون أن يضمّن تحليله نظريّات حصريّة عن شرّ الأديان الهندوسيّة) تفسّر لاحقاً مناصرته لغزوات جورج بوش ولحروب كل دول الغرب ضد «الإرهاب الإسلامي».
لم يطل أمد الأخضر في النضال الثوري. سرعان ما تنصّل منه: واحد من مؤسّسي تنظيم فلسطيني كرّس مبادئه وعقيدته للكفاح المسلّح يزعم لاحقاً أنه كان ضد العنف (ضد العنف ضد غير المسلمين، لأن العفيف تبنّى عنف الدول العربيّة ضد الحركات الإسلاميّة مثلما دعم عنف الحروب الغربيّة ضد ما سمّاه «الإرهاب الإسلامي»). هذا ثابت في سيرة اليساريّين السابقين: يعيدون إنتاج وإخراج يساريّتهم السابقة بهدف إرضاء الغرب (ياسين الحاج صالح كتب في «نيويورك تايمز»، وقال إن نضاله الشيوعي السابق في سوريا قبل دخوله السجن كان من أجل... الديموقراطيّة). ينسى العفيف أنه كان يأخذ على التنظيمات اليساريّة اللبنانيّة والفلسطينيّة أنها لم تكن يساريّة وثوريّة كفاية. لكن كان هناك ما هو لافت في كتابات العفيف في تلك الحقبة: كان مأخوذاً بضرورة محاربة الأنظمة العربيّة أكثر من محاربة العدوّ الإسرائيلي. يتنسّم المرء بوادر لتحوّلات العفيف اللاحقة والمُذهلة.
هناك قواسم مشتركة في كتابات اليساريّين السابقين (الذين يتحوّلون نحو الرجعيّة ونحو تبنيّ الغزوات الغربيّة للبلاد العربيّة). يرصد المُتابع (أو المُتابعة) ظواهر للتحوّل اللاحق في اعتناق فكرة تخلّف الفرد العربي (تنسخ كتابات فكرة تخلّف الفكر العربي عن أكثر أنساق الاستشراق الصهيوني ابتذالاً، أعني كتاب رافييل باتاي «العقل العربي»، ويظهر ذلك في كتابات العظم والأخضر وحتى في التعميم المُبسّط والعنصري الذي يرد في الإسقاطات غير العلميّة التي وردت في ما سمّاه هشام شرابي «البطريركيّة الجديدة»، وكأن هناك تخلّفاً عربياً حصريّاً واستثنائيّاً). في مقالة «الديموقراطيّة إلى أين» (نُشرت في جريدة «الراية» القطريّة في 18 آب، 2003)، يبني العفيف حججاً تتزامن مع عقيدة بوش آنذاك: يرى أن العربي موغل في الرجعيّة والتخلّف الذي لا ينفع معه إلا الغزو الخارجي من دولة متحضّرة. هنا، تنتفي الجدّة في كتابات العفيف وتحاكي كتابات المُستعمرين الأوروبيّين الأوائل. ويُحاول الأخضر أن يُكسي تبنّيه لعقيدة بوش لبوس التحليل الطبقي، فينظّر أن الديموقراطيّة لا تسود مجتمعات فقيرة («عوائق توطين الديموقراطيّة في المجتمعات العربيّة»، «الراية» في 26 آب، 2003).
لم يكن انخراط الأخضر في حرب بوش ضد «الإرهاب» مفاجئاً. الحرب ضد الإسلام، أو ضد الإرهاب الإسلامي، أصبحت عقيدة الأخضر. وفي كتابه الأخير الذي سيُنشر بعد موته، يكشف المؤلّف أنه لا يعزو «الإرهاب الإسلامي» إلى جماعات معاصرة بل إلى نبيّ الإسلام نفسه، ويعيد تكرار روايات أعداء الإسلام المسيحيّين الأوائل عن محمد وحياته. الأخضر قطعي في لومه للإرهاب الإسلامي الذي يراه نتيجة منطقيّة للدين نفسه: لم يسمع الأخضر بكتاب روبرت بيب، «الاستماتة للنصر»، والذي ربط فيه بين العمليّات الانتحاريّة وبين الاحتلال الأجنبي، لأن العفيف أصرّ على أن العمليّات الانتحاريّة نابعة من عقيدة الدين الإسلامي فقط. والطريف أن العفيف يرى أن «قيم السلام» أصبحت قيماً عالميّة لا يحيد عنها إلا المسلمون («العمليّات الانتحاريّة جازفت بحياة الشعب الفلسطيني»، «الحياة»، 20 حزيران 2002). لا يمكن أن يكون العفيف لم يسمع بأخبار حروب الغرب المُستمرّة، لكنه لا يراها حروباً لأنه تدخل في ما يسميّه «الدخول إلى الحداثة كرهاً» («التعليم الديني اللاعقلاني عائق لدخول الحداثة»، «إيلاف»). وعندما يرى هو في العولمة تخلّياً عالمياً عن السيادة الوطنيّة، فهو يعني فقط سيادة الدول النامية التي تستحق أن تتخلّى عن سيادتها لمصلحة دول الغرب. أين الجدّة في تبنّي العفيف للاستعمار الغربي؟ هو دعا الولايات المتحدة إلى «فرض السلام» بين العرب وإسرائيل. وهذا ليس بعيداً عن موقف الأخضر عبر العقديْن الماضييْن حين دعا العرب إلى نبذ الكفاح المسلّح بكل أشكاله واحتضان شمعون بيريز والاستسلام أمام العدوّ، من دون قيد أو شرط. هذه الأفكار التي تطوّرت بصورة منطقيّة (سياسيّاً) للعفيف قادته كي يصبح داعية لأنظمة التسلّط الجمهوريّة (والرأسماليّة المركزيّة بلغة العفيف السابقة) التي تقاتل حركات إسلاميّة. لم يكن الأخضر إلا مرّوجاً لنظام بورقيبة ونظام بن علي بعده. على طريقة الصهاينة، سخر الأخضر من إهمال نصائح بورقيبة المُبكرة في الصراع العربي _ الإسرائيلي. لكنّ تناقضاً حكم مواقف العفيف: الرجل الذي أدان العنف العربي باسم الحضارة الغربيّة تبنّى العنف الغربي ضد العرب والمسلمين باسم تلك الحضارة عينها.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)