هزيمة المعارضة السورية في مدينة القصير، ومن ثمَّ سقوط معقل الشيخ أحمد الأسير في صيدا، غيّرا في توازنات المعارك والصراع في سوريا، لكنهما بعيدان جداً عن «الحسم» كما يظن كثيرون. يقترن، بالطبع، هذان التحولان، في القصير بدور حاسم لمقاتلي حزب الله، وفي صيدا، بتواطؤ شامل ضد الأسير (الذي لم يعرف حده فيقف عنده)، فتُرك يقلِّع شوكه بيديه بانتظار آسر جديد وأسيرة أخرى: في صيدا أو في طرابلس أو في البقاع الغربي أو الشمالي.إنها حلقة مفرغة تلك التي تدور فيها الأزمة السورية. فقبل معركة القصير كانت الأوضاع الميدانية تتوالى لغير مصلحة النظام السوري. مقربون ومطلعون تحدثوا، أكثر من مرة وفي أكثر من محطة، عن «قطوع» خطير يواجه السلطة السورية أو هي قد اجتازته بكثير من الجهد والعناء والخسائر. الصورة باتت معكوسة الآن. منذ سقوط القصير بعد مشاركة حزب الله الفعَّالة والمفتوحة (هي مفتوحة بالذات؛ لأن المعركة طويلة وقاسية وشديدة التكلفة)، بات على الطرف الثاني أن يسعى إلى وقف التدهور وإعادة التوازن. والطرف الثاني هذا، كما الطرف الأول، هو مجموعة واسعة تضم دولاً كبيرة وصغيرة، خارجية وعربية، فضلاً عن قوى وتشكيلات المعارضة السورية المسلحة والخارجية... هنا وهناك. تتواجه قوى كبيرة ذات إمكانات ضخمة ومصالح وأهداف تتجاوز مطالب المعارضة السورية، المسلحة أو السلمية، ورغبة النظام في الاحتفاظ بسلطته إلى عناوين وملفات ذات أبعاد دولية، استراتيجية، سياسية، واقتصادية وأمنية، فضلاً عن الأبعاد الإقليمية، وهي كثيرة ومتنوعة.
هذا هو السبب الذي يمكن الاستناد إليه للجزم بأن المعركة لا تحسم في مدينة واحدة أو أكثر، في سوريا أو في لبنان أو في العراق. ينطبق ذلك بالتأكيد على طرفي الصراع، ما يدفع إلى الجزم أيضاً، بأن لا حل عسكرياً للصراع في سوريا، فالطرفان قادران على الاستمرار في المواجهة إلى أمد طويل. وهما قادران على تعطيل الحلول غير الملائمة وليس فقط على رفضها.
ويتصل ذلك عضوياً، أنه منذ سقوط القصير أواخر الشهر الماضي وحتى يومنا هذا، تتواصل ردود الفعل والخطوات الساعية إلى إزالة ما طرأ من اختلال في موازين القوى بعد القصير أولاً وخصوصاً، ثم بعد هروب الأسير وسقوط «أسطورته» منذ أيام. يندرج في هذا النطاق القرار الأميركي بتسليح المعارضة بوسائل ووسائط دفاعية فعَّالة ضد الطيران وضد المدرعات، كذلك المناورات الأميركية في الأردن أخيراً. ويندرج في ذلك، أيضاً، اجتماع «أصدقاء سوريا» واتخاذه «قرارات سرية» بشأن الوضع السوري. ويندرج في ذلك ثالثاً، التصعيد السياسي الذي جسدته مواقف وزير الخارجية السعودي باعتبار سوريا بلداً «محتلاً»!
ليس هنا مجال محاكمة السياسة السعودية (التي تفسح المجال واسعاً أمام انتشار القواعد العسكرية والأساطيل الأميركية في الخليج، والتي تشكل جزءاً من منظومة حماية كاملة هي أشبه باحتلال أميركي لدوله، والتي تواطأت مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ومع الاحتلال والاغتصاب الصهيوني منذ عام 1948...)، لكن الموقف التصعيدي السعودي الجديد، بعد عودة الملك السعودي، وبحضور وزير الخارجية الأميركي، إنما يشير إلى الانخراط المتزايد للمملكة وحلفائها في الصراع الدائر في سوريا، وارتباطاً بذلك في العراق والأردن ولبنان.
المملكة لاعب أساسي تقليدي في الوضع اللبناني. وهي اختارت منذ الغزو الأميركي للعراق تحديداً، الانتقال إلى تنشيط دورها في لبنان انسجاماً مع الخطط الأميركية: بالتفاهم مع النظام السوري إذا استجاب وتنازل، وبمواجهته إذا رفض و«مانع». ولطالما أسبغت السلطات السعودية على سياساتها الاعتبار المذهبي. كانت المقايضة أن «تسكت» عن النظام «العلوي» في سوريا (الذي يحكم بلداً أكثريته من الطائفة السنية) مقابل تخلي النظام السوري عن نفوذه المقرِّر في لبنان لمصلحة، طبعاً، السعودية وحلفائها في بلد «ثورة الأرز»! لم تسر الأمور على هذا النحو. تمرّد النظام السوري على تلك المعادلة، معتبراً أنّه الأولى بالوصاية على لبنان، وخصوصاً أنّه قد خبِرها، مباشرة، لأكثر من عقد من الزمن، وبدور وبشراكة وبموافقة سعودية. ويتميز الدور السعودي عن الدور القطري (المنذر بالأفول نتيجة الاعتماد على «الإخوان المسلمين» دون سواهم)، بأنه أقلّ «مبدئية» في التزام البديل الإخواني، وخصوصاً بعد الخيبة التي تولّدت، وخصوصاً في مصر، من الرهان على حصرية الاعتماد على الحصان «الإخواني». السعودية، بالعكس، تعتمد شبكة أوسع بكثير، تقليدية غالباً، من الأنظمة الملكية ومن القوى المتنوعة. وهي حذرة كثيراً من حركة «الإخوان»، وتستخدم بالطبع قدراتها ومواقعها المالية والدينية والمذهبية الهائلة في خدمة ما تعتمده من سياسات وعلاقات.
السعودية، وبلسان «صقرها» ومتشددها وزير الخارجية الأزلي سعود الفيصل تعلن الآن، أنّ «سوريا محتلة». إنه التزام بشكل من أشكال «الجهاد» في مواجهة «الروافض» والفرس، و«غيرة» ولهفة على الدين الحنيف!
لا ينبغي التقليل من التصعيد السياسي المعلن، الأميركي والسعودي والأوروبي: إنّه ينذر بموجة جديدة من العنف والدمار والقتل، على أخطر وأفدح ما حصل حتى اليوم. الشعب السوري هو الضحية الكبرى. وكذلك سوريا الموقع والدور والعمران والتراث التاريخي والسياسي والقومي... ويجب ألّا يغيب عن الأذهان أن الولايات المتحدة الأميركية، خلافاً لبعض متشددي قادة المملكة السعودية، لا تسعى من أجل «الحسم». إنها تفضل عليه سياسة الاستنزاف: استنزاف سوريا بلداً ومقدرات... وإرجاعها عقوداً إلى الوراء، واستنزاف إيران الداعمة و«حزب الله» لجهة، أيضاً، فرض أولوية جديدة عليه، وكذلك محاولة استنزاف روسيا لمنعها من مواصلة محاولاتها لفرض نفسها شريكاً في التوازنات والمعادلات الاستراتيجية الدولية: الأمنية والسياسية والاقتصادية.
في مجرى التصعيد السعودي سيكون للوضع اللبناني دور حقيقي في التأثير على الوضع السوري، في حدود ما تستطيعه علاقات المملكة، ومن ضمن الخطة العامة الأميركية بالطبع. ولذلك قد يظهر الأسير في مكان آخر، هو بشخصه وأسلوبه أو بشخص وأسلوب آخرين. الأرض مهيأة. التعبئة على أشدها. العدة المذهبية هي الأساس... الجنوب هو، دائماً، المدخل المفضل!
أما الردّ فيجب أن يبدأ من سوريا نفسها، وكذلك في لبنان. سلامة المواجهة، تقتضي تغييراً جوهرياً في الأساليب: هل هذه تمنيات وأضغاث أحلام؟
* كاتب وسياسي لبناني