لم يكن الحراك السوري المعارض، منذ بدايته في درعا يوم الجمعة 18 آذار2011، حراكاً منظماً تقوده أحزاب أو منظمات، بل كان عفوياً، وهذا طبيعي في مجتمع أجبرته السلطة بعد انتصارها الأمني في أحداث حزيران 1979 - شباط 1982 على الصمت والصيام عن السياسة تسعة وعشرين عاماً، أصبحت إثرهما الأحزاب السياسية المعارضة، المتوزعة بين السجون والمنافي والعمل السري، كالسمك خارج الماء.
خلال ربيع وصيف 2011 حاولت تلك الأحزاب المعارضة، بأطيافها الاسلامية والليبرالية والعروبية والماركسية، العوم ضمن هذا السيل الذي انفجر على نحو مفاجئ في مجرى النهر القديم: لم يطرح الحراك الشارعي في تلك الأشهر شعارات تتجاوز «اصلاح» بنية النظام القائم، بغض النظر عن شعارات معزولة هنا أوهناك رفعت شعار «اسقاط النظام». خلال تلك الفترة حتى نهاية آب 2011 كانت تصورات الجميع تقريباً في الأحزاب والتنظيمات المعارضة تحت هذا السقف (= بيان «جماعة الاخوان المسلمين» في 5 نيسان، بيان القيادة المركزية لـ«التجمع الوطني الديمقراطي» في 13 نيسان حول تصورات التجمع لأسس الحوار مع النظام، بيان «اعلان دمشق» في 15 أيار، ثم الوثيقة التأسيسية لـ«هيئة التنسيق» الصادرة عن اجتماع 25حزيران)، وإن كان يلاحظ هنا أن الاعلان في بيانه قد تحدث عن أن «الحديث عن الحوار في ظل اصرار النظام على خياره الأمني يعتبر موقفاً خاطئاً... كما أنه نوع من الانتحار السياسي لا ننصح بالانجرار إليه قبل أن تتهيأ البيئة الطبيعية لحوار سياسي صحي ومنتج، من خلال: 1ــ أن يعترف النظام اعترافاً صريحاً بأن سوريا تعاني أزمة سياسية وبنيوية عميقة، 2ــ سحب الجيش والقوى الأمنية من الشوارع، 3ــ ضمان حرية التظاهر، 4ــ الدعوة إلى مؤتمر عام للحوار الوطني لا يستبعد أحداً وفقاً لبرنامج واضح ومحدد الآليات والمنطلقات، وفي مناخ حر وآمن». في 25 حزيران تابعت الهيئة ذلك بالحديث عن شروط الحوار التي تخلق «الأرضية المناسبة للحلول السياسية» ومن بينها «وقف الخيار الأمني - العسكري، رفع حالة الطوارئ والأحكام العرفية فعلياً لا على الورق فقط، الاقرار بضرورة الغاء المادة الثامنة من الدستور». في 20 تموز 2011 رفعت الأمانة العامة لـ«اعلان دمشق» السقف (في مشروع بيان ختامي للدورة الثانية للمجلس الوطني للاعلان)، لكن على إيقاع بعض الشارع من خلال اعلانها أنه «ليس ما ترفعه الجماهير من شعار اسقاط النظام إلا تطويراً ميدانياً لعملية التغيير»، لكنها استمرت في طرح ذلك ليس بالتجابه مع النظام، بل من خلال المقولة التالية الواردة في البيان المذكور: «كلما بادرت قوى النظام إلى التسليم بإرادة الشعب والبدء بنقل السلطة، كان لها دور في تحسين أمن عملية الانتقال وأمانها»، وفي مقابلة مع جريدة «الحياة» في 29 تموز2011، قال الأستاذ رياض الترك، وهو العقل السياسي للاعلان، «الآن الكلام للشارع... فلنسمع له بـتأن، ولنمش معه لا أمامه».
كان هذا مفاجئاً من شيوعي قديم، يؤمن بنظرية «الطليعة الثورية» التي صاغها لينين، وانزلاقاً منه في «نزعة شعبوية» حاربها الشيوعيون والعروبيون الذين اشتركوا جميعاً في الإيمان بنظرية الطليعة، التي توصل لها أيضاً سيد قطب عام 1964 في «معالم في الطريق»، فيما كان الليبراليون الجدد (الماركسيون سابقاً) في بُعد قصي عن الشعبوية من خلال نظرية «التنوير» التي هي طبعة ليبرالية عن نظرية الطليعة. اشترك الجميع في صيف 2011 في تلك الشعبوية تحت ايقاع «الشعب يريد»، من غير أن ينتبهوا إلى أن وظيفة السياسي والحزب السياسي تنتهي عندما يرقصان على إيقاع الشارع .
في المقابل، لم يكن هذا «الشعب – الشارع» موحداً في سوريا صيف 2011: كان الشارع منقسماً، وما زال حتى منتصف عام 2013، بين ثلاثة أثلاث متساوية في الحجم بين المعارضة والموالاة والتردد، كما أن الشارع المعارض كان وما زال غير موحد تجاه الحلول القصووية. كان اتجاه الشارع المعارض المتزايد نحو القصووية نتيجة اتجاه النظام نحو تغليب الحل الأمني _ العسكري منذ 25 نيسان2011 عند دخول الدبابات حوران، ولعدم تقديمه تلاقيات تستجيب للمطالب السياسية لحراك الشارع المعارض.
في المقلب الآخر، ومنذ بدء الأزمة السورية في 18 آذار 2011، كانت الدول الخارجية المؤثرة (= الولايات المتحدة، تركيا، فرنسا) تقول بالاصلاح عبر النظام، ولم يقل أوباما بشيء معاكس إلا بدءاً من يوم 18 آب 2011 عندما طالب «الرئيس السوري بالتنحي»، وهو ما لحقته في نفس اليوم مفوضة الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي كاترين آشتون، فيما كان الأتراك على هذا الخط، وسابقين للغربيين منذ زيارة أحمد داوود أوغلو دمشق في الأسبوع الأول من آب. وعلى ما يبدو، أن بوادر اقتراب سقوط معمر القذافي، الذي حدث يوم الثلاثاء 23 آب عند باب العزيزية، وانتهاء «العبء الليبي» عن الناتو، قد شجع أوباما على التصعيد سورياً، وربما التفكير في تكرار السيناريو الليبي في سوريا، وفي أن تكون أنقرة هنا مكان باريس هناك بالنسبة إلى الناتو.
بدءاً من يوم الجمعة 26 آب حصل تزامن في شعارات تظاهرات الحراك السوري، التي أصبحت تمزج بين «اسقاط النظام» و«الحظر الجوي» والمطالبة بـ«تدخل عسكري خارجي»: كان هذا تشجعاً بالنموذج الليبي، وبتغير الموقف الغربي الأميركي - الأوروبي - التركي، وهو ما كان يعود إلى ادراك المعارضين السوريين، الذين يطالبون بذلك، أنه لا يمكن عبر التوازنات القائمة اسقاط النظام بالوسائل الذاتية، ليس بسبب عنف النظام، بل لسبب رئيسي يتمثل في أنّ الانقسام الاجتماعي السوري بين معارضة وموالاة وتردّد، قد أنشأ استعصاءً سورياً في معادلة لا يستطيع فيها النظام الانتصار ولا المعارضة الانتصار، لذلك أراد أولئك المعارضون الهروب من هذه المعادلة لكسرها عبر تكرار سوري للسيناريو الليبي.
منذ أيلول 2011 أصبحت استقطابات المعارضين السوريين بين خندقي «مَن مع التدخل العسكري الخارجي» ومن ضده: شمل هذا الشارع المعارض، وكذلك تنظيمات المعارضة. بسبب هذا الاستقطاب فشلت محادثات الدوحة في الأسبوع الأول من أيلول بين «الهيئة» و«الاعلان» و«الاخوان»، لما رفض الأخير مطلب الهيئة بتضمين وثيقة الائتلاف المزمع قيامه مطلبَي «رفض التدخل العسكري الخارجي» و«رفض العنف»، ومن ثم وعلى أساس ذلك اتجها نحو إنشاء «المجلس الوطني» الذي أعلن قيامه في إسطنبول في 2 تشرين أول 2011. اعتباراً من أيلول2011، وحتى تموز 2012 كان التناقض الرئيسي، الذي يخلق الخنادق المتعارضة في صفوف المعارضين السوريين، يتمثل في الموقف من موضوع التدخل العسكري الخارجي، وكان موضوع العنف المعارض ثانوياً قياساً بالأول. عندما اتضح في صيف2012 أن آفاق التدخل العسكري الخارجي أصبحت مسدودة، اتجه المعارضون السوريون، الذين ينادون بتكرار السيناريو الليبي، ويناشدون الغرب لتحقيق ذلك، نحو اعتبار «العنف المعارض» طريقاً نحو اسقاط النظام. وقد رفض هؤلاء في مؤتمر القاهرة للمعارضة السورية (2 - 3 تموز2012) طلب «هيئة التنسيق» تضمين وثائق المؤتمر موافقة على بيان جنيف الصادر قبل يومين من انعقاد المؤتمر السوري المعارض، ورفضوا أيضاً أي تسوية مع النظام السوري. بين صيف 2012 ويوم 7 أيار 2013، كان التناقض الرئيسي بين المعارضين السوريين، الذي يبني الخنادق بينهم هو الموقف من «موضوع العنف المعارض»: بعد اتفاقية 7 أيار 2013 في موسكو بين البيت الأبيض والكرملين أصبح موضوع «التسوية» هو الذي يخلق تلك الخنادق.
إذا أراد المرء مراجعة هذه التجربة السورية الضخمة، التي أصبح عمرها سبعة وعشرين شهراً، فمن الممكن أن يتلمس نموذجاً يمكن أن يصبح مثالاً مدرسياً في دروس العلوم السياسية: حراك عفوي انطلق فيه الناس إلى السياسة من دون تجربة سابقة، ومن كانوا ذوي تجربة وخبرة سابقة توزعوا في اتجاهين، الأول أراد الركب على الحراك من خلال الرقص على ايقاعه، وحسب «ما يطلبه الجمهور» من دون أن يدرس الممكنات والتوازنات عند وضع شعاراته وبرامجه، فيما كان مصير الاتجاه الثاني الذي طرح السياسة بوصفها «إدارة للممكنات» النبذ والشتائم في عام 2011 من الكثيرين قبل أن يكتشفوا في عام 2013، أن كل ما أعلنه أصحاب هذا الاتجاه، كما كان حال «هيئة التنسيق» لما قالت في مؤتمر حلبون في 17 أيلول 2011 بـ«لاءاتها الثلاث للتدخل العسكري الخارجي، وللعنف، وللطائفية، وبنعم للتسوية عبر «مرحلة انتقالية تجري مصالحة تاريخية»)، قد ثبتت صحته بعد عامين، فيما الاتجاه الآخر لم تلامس كراته، ليس فقط شباك المرمى، بل حتى الأخشاب الثلاث للمرمى. من جهة أخرى، هناك مثال كبير عن مسار فقد فيه «المحلي» زمام الأمور لما عجز طرفاه عن الحسم لمصلحة أحدهما، أو للتسوية بينهما حيث اتجهت التطورات إثر ذلك نحو امساك «الدولي» و«الاقليمي» بمجرى الأمور في ذلك الصراع الذي يجري في البلد المحدد، ثم لمآلات أصبح فيه ذلك البلد ميداناً للصراعات الدولية والاقليمية «فيه» و«عليه». من جهة ثالثة، يبدو أن الصيام الاجباري عن السياسة عندما يجبر عليه مجتمع «ما» من قبل السلطة، فإن عملية كسر الصيام من قبل أفراد المجتمع تؤدي إلى مسارات لا يدفعها فقط المجتمع، بل أيضاً الخصمان القديمان، أي السلطة والمعارضون القدامى، حيث تواجه الأولى سيلاً لا تعرف حمولاته ولا قوانين سيره، فيما المعارضون يجدون أنفسهم في حالة اضطرار إلى الركوب في مركب بدون شراع أو لا يمكن قيادته، بينما تظهر عملية العودة المفاجئة للمجتمع إلى السياسة كيف أن هذه العودة، وإن كانت تحوي تطوراً وضرورة، إلا أنها لا تستطيع تجاوز كم هي مرآة عبر الممارسة السياسية للأمراض والعلل، التي أصابت ذلك المجتمع في أثناء عملية كبته الصيامي عن السياسة.
* كاتب سوري