الشيخ شفيق جرادي *إنّ الحب واقعٌ وجوديٌّ خلّاق موجودٌ عند تكوين كلّ إنسان بغض النظر عمّا يمكن أن يكون عليه هذا الإنسان من جهة الانتماء أو الأخلاق والمعتقدات. هو دافع وجوديّ اعتبر بعض أهل الفلسفة أنّه متوافر بالضرورة في كلّ كائن، بما في ذلك عوالم النبات والحيوان وما خلق الله، إذ بهذا الحب تتجه الكائنات نحو كمالاتها التي خلقها الله لأجلها. ومن باب الأولى، أن يتشارك الإنسان مع بقيّة الموجودات بهذه السمة الكريمة التي تمتاز عند الإنسان بمؤهّلات الوعي والإرادة الحرّة، ما يسمح للحب عنده بأن يكون مسؤولًا في خلاقيّته، بحيث لو راعى المرء بوعيه مصالح الحياة لكان الحب عنده سرّ الارتقاء الحضاريّ والسموّ الروحيّ، ولو لم يراع ذلك لأمكن أن يتحوّل الحب في انكماشاته إلى هدمٍ كاملٍ يطاول كلّ شيء.
وللحب، كما لأيّ نزوعٍ إنسانيّ أودعه الله في أصل خلقة هذا الآدميّ، تفرّعات تنبني عليه وبموجبه، وقد رمز القرآن الكريم والأدبيات الإسلاميّة للحب بـ«الشجرة»، فسمّى ما يتفرّع عن الحب من خير «الشجرة الطيّبة»، وهي معادل الكلمة الطيّبة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}[1].
أمّا ما يتفرّع عن الانزياح عن الحب فهو الشرّ الذي مَثُله كـ{كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَار}[2].
ومن تفرّعات الحب، مبدأ «التسامح»، إذ بدون حب خلّاق ومسؤول لا يمكننا أن نتحدّث عن التسامح. وفارق هنا بين الإهمال وغض النظر عن الأمور الأساسيّة، وبين التسامح. ففي الوقت الذي يُعدُّ فيه الإهمال واللامبالاة أمراًَ أو أموراً سلبيّة، فإنّ التسامح أمرٌ إيجابيّ، وهو يعبِّر عن مسؤوليّة تحفظ القيم والمصالح ومسارات السلوك الإنسانيّ الباني والبنّاء.
هذا، وممّا لا شكّ فيه، أنّ المصطلح قد مرّ بخطوط من التطوّر في المعنى والمؤدّى.
فهو في مناخ الدلالة الفلسفيّة الغربيّة انطلق من معنى التحمّل والاصطبار، ثمّ مرَّ بمعنى (منح الحريّة)، وقد ربط البعض بينه وبين (أصالة المنفعة)، والحق بالسرور الفرديّ وإشباع الرغبات الفرديّة حتّى لو أدّى الأمر إلى «التخلّي عن معتقداتنا الأساسيّة»، حسب ما ارتأى البعض. وقد نُقل عن كرستين موريس أنّه «عبارة عن سياسة التحمُّل والصبر تجاه المرفوض وكلّ ما يفتقد الصلاحيّة في نظر المتسامح»[3]. وهذه الآراء، حسب ما يذهب إليه بعض الباحثين تجاه معنى التسامح وأهميّته، إنّما جاءت نتيجة ردّ فعل على مواقف الكنيسة في فترة محاكم التفتيش الدينيّة والعقائديّة. وقد اعتبروا أنّ تاريخ طرح فكرة التسامح يرجع إلى القرنين السادس والسابع عشر، ما مهّد لضرب الأحكام التعسفيّة الدينيّة وبروز اتجاهات دينيّة استندت إلى أفكار فلسفيّة جديدة واستندت عند (جيمس ميلتون، وجون لوك، وستيوارت ميل) إلى فكرة التسامح، وأصرّوا على الدفاع عنها باعتبار أنّ عنصر المعرفة لا يتحقّق إلّا في المجال الاجتماعيّ وحريّة المنافسة. وهكذا، انتشت أفكار بفعل فلسفة التسامح، من مثل: النزعة الفردانيّة والإنسيّة والعقلانيّة المفرطة، والتعدديّة. وصولاً إلى قيم التسامح الثقافيّ والليبراليّة.
أمّا في الأفق الإسلاميّ، فإنّا نكاد نجزم بأنّ فكرة التسامح انطلقت من مفهوم العفو والرجاء الإيمانيّ، وأنّ على الإنسان أن يمارس فعل العفو على الأرض ومع الناس، كذلك فإنّه يطلبه من رب السماء، وارتبط هذا المفهوم بالبُعد الأخلاقيّ، وكان نقيضاً لمفهوم «الفظاظة»، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[4]. وارتبط بالسلوك الاجتماعيّ – السياسيّ، كما جاء في الحديث النبويّ الشريف «آلة الرئاسة سعة الصدر»؛ أي القدرة على التحمّل وتحمّل من نختلف معه. وفي زماننا هذا، شهدت الساحة الثقافيّة في بلاد المسلمين نقاشاً في الدين والتسامح في قِبال ظاهرة العنف. حتى اختلط عند البعض مفهوم الجهاد والمقاومة فاعتبرهما من مظاهر العنف ليدافع قوم عن العنف تحت مُسمّى الجهاد والمقاومة وليرفض آخرون الجهاد والمقاومة تحت مُسمّى أنّهما ضد التسامح، وأنّ الإسلام دعا إلى التسامح.
وإنّي إذ أعتقد أنّ التسامح في مفهومه الإسلاميّ المعاصر هو ضد التكفير؛ بمعنى إلغاء الغير، فإنّ التسامح في أصل مبناه مبنيّ على قيمتين إسلاميّتين قدّسهما الإسلام:
القيمة الأولى هي العفو، إذ اعتبرت النصوص الإسلاميّة أنّ العفو قيمة هي بالأساس نابعة من اسم من أسماء الله الحسنى «العفوّ».
أما القيمة الثانية، فهي أيضاً نابعة من أسماء الله، الذي هو القادر أو القدير، وأنّ القيمة النابعة من هذا الاسم هي المقدرة. وقد لخّصتها النصوص الإسلاميّة بفعل سلوكيّ مطلوب من أهل الإيمان تجاه من يختلفون معه، وهو «العفو عند المقدرة». وهذا ما يطيب لنا تسميته «نهجَ الاقتدار»، وهو عبارة عن نهج من القوّة المسؤولة والرحيمة القادرة على إصابة العفو حيث تقدر على إصابة الآخر بالإيذاء، وذلك أنّ من شيم الإسلام الرحمة. وما الجهاد أو المقاومة في مضمونها إلّا تفرّع عن هذا التسامح القائم على الحب لله والحقّ والإنسان في كرامته.
ولعلّ أخطر ما يواجه الأديان اليوم، ومنها الإسلام، هو تغليب منطق المباشرة والراهن والظروف الطارئة القلقة في بناء المصالح الأنانيّة، على القيم والثوابت الإلهيّة والإنسانيّة.
وبمراجعة بسيطة لما يعمُّ ديار المسلمين اليوم، تحت اسم الدين والمذهب نجده عصبيّة ثأريّة تجتاح البلاد والعباد ولا علاقة للدين فيها أو المذهب.
فأيّ دين في هذا الشرق ينادي بالشحناء والبغضاء؟ أهي المسيحيّة التي قال سيّدها من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر؟ أم الإسلام الذي جاء في رسوله بنص القرآن الكريم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[5]؟
أين رحمة محمّد (ص) وعطف المسيح (ع) من كلّ ما يحصل؟
إنّها أمّة صدق فيها قول مظفّر النوّاب: قتلتنا الردّة... قتلتنا، الواحد منّا يحمل في الداخل ضدّه. لقد عادينا الآخر حتى ما بات عندنا صديق، ولا لشيء إلّا لأنّ أنانيّة الذات تريد أن تبقى متعالية على كلّ آخر، وليت الأمر كان عداءً على أساس الحقّ وكنا ممّا يصدق في حقّه قول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب: «ما ترك الحقّ لي من صاحب». وإلّا فباسم ماذا نلعن كلّ من يختلف معنا؟ بل ونحذفه من ربقة الإسلام وحرمته؟ أهو الحقّ يدعونا إلى ذلك؟ وهل في الحقّ صوت ينادي بقتل إنسان ورميه في مهاوي الشر؟
بل إنّنا خاصمنا حتى ذواتنا فصرنا نمتهن جَلْدَ الذات وسحلها؛ لا لشيء إلّا لنثبت أنّنا مظلومون وعلينا أن نتوَحّد لنمارس أبشع قتل من ظالمنا، وهو هذه المرّة، من تجمعنا وإياه القضيّة ويجمعنا معه الدين.
أليس هذا وضع كثير من سلاطيننا وفقهاء سلاطيننا؟ بل ورؤوس حركاتنا الإسلاميّة؟
لقد قتلنا معنى الحب والتسامح باسم الدفاع عن الله. وكأن الله يحتاج إلى من يدافع عنه، وكأن بعضنا صار وصيّاً ووليّاً على الله وحكم الله. صار العنف هو القيمة العُظمى عند البعض، في الوقت الذي لا يوجد في الإسلام قيمة للعنف إلّا بمقدار ما تمنع فتنةً هي أشدّ من القتل. والعنف المُستخدم اليوم لا عنوان ولا مدلول ولا مآل له إلّا الفتنة ووأد الحب والتسامح... إنّه عنف أخذ يطيح كلّ شيء، ولولا شِرذمةٌ قليلة من الناس من أهل السنّة والشيعة وغيرهم... ممن التزم خيار الممانعة والمقاومة لضاعت القيم والمحبّة والتسامح وغض النظر عن الأذيّة؛ بل لضاع وجه الرحمة المحمّديّة من الوجود.
لذا، لا نملك إلّا أنّ نقول: اللهمّ احفظ هذه الكوكبة القليلة وانصرها وإلّا فلن تُعبد بعد اليوم... أللهمّ واملأ قلوبنا حبّاً لمن خاصمنا وتسامحاً تجاه من قطعنا حتى نصل الناس بأحب ما عندك وعندهم وهو «الحب والسلام والتسامح».

هوامش:
[1] سورة إبراهيم، الآيتان 24 و25
[2] سورة إبراهيم، الآية 26
[3] راجع، مجلّة نصوص معاصرة، الصفحة 218(ع).
[4] سورة آل عمران، الآية 159
[5] سورة الأنبياء، الآية 107
* مدير معهد المعارف الحكميّة للدراسات الدينيّة والفلسفيّة