واجه العالم العربي في القرن التاسع عشر والذي كان تحت سيطرة السلطنة العثمانية، هجوماً كاسحاً عسكرياً، واقتصادياً، وسياسياً، وفكرياً، من قبل الامم الاوروبية. فلقد انتظمت هذه الاخيرة كدول قومية وثبتت قوتها عبر جيوشها الحديثة، وثورتها الصناعية، كما ثورتها الديمقراطية.
أمام العجز في التغلب عليها تساءل المثقفون العرب: ما هي أسباب تخلفنا وتطور الغرب؟ انقسم هؤلاء المفكرون إلى قسمين: قسم حاول دراسة النظم الغربية واسباب تفوقها في شكل منهجي، علمي وعقلاني؛ وقسم آخر، وهو الاكبر، اعتبر ان عدم السير في خط الدين الاسلامي الصحيح هو الذي أوصلنا الى ما نحن عليه من كوارث.
باشر الدكتور خليل سعاده، والد أنطون سعاده في دعم الخط الاول، وضرورة التحول من المبدأ الامبراطوري العثماني الى الدولة الحديثة لأسباب سيفندها ابنه انطون سعاده في دراساته وكتبه.
عاش أنطون سعاده حربين عالميتين رأى فيهما تنافس الدول الغربية للاستيلاء على منطقتنا من استيطان الحركة الصهيونية في فلسطين، وخسارة الاسكندرون لتركيا عام 1939، ووجد أن بلاده يتآكلها الغرباء من كل صوب من دون أي مقاومة تُذكر، وذلك لعدم وعي أهلها وانقسامهم على بعضهم، وبالتالي عجزهم عن الدفاع عن أنفسهم. فكان الاول في التنبيه لمخاطر الصهيونية وبأنها مشروع «انترنسيوني» غربي وليست القضية ايواء يهود اضطهدتهم المانيا، في وقت كان الكثير من قادة العرب ينظرون الى الموضوع وكأنه قضية لاجئين، واقترح أن تكون المواجهة من جميع كيانات سوراقيا لأن وجود الكيان الصهيوني سيعود بالضرر عليها كلها، ولن يكون محصوراً في فلسطين فقط، كما أنه رأى أن طالما سوراقيا مفككة، فهي عرضة للزوال (تشتمل سوراقيا على فلسطين، الاردن، لبنان، سورية، والعراق): «إننا نواجه الآن [عام 1925] أعظم الحالات خطراً على وطننا ومجموعنا، فنحن أمام الطامعين والمعتدين في موقف تترتب عليه إحدى نتيجتين أساسيتين هما الحياة والموت، وأي نتيجة حصلت كنا نحن المسؤولين عن تبعتها» (2). كتب ذلك وعمره 21 عاماً (الآثار الكاملة، الجزء 1:109).

المبدأ القومي

إزاء هذا الوضع انكبّ سعاده على دراسة الأسباب والمسببات والحلول المطلوبة لإقامة نهضة في مجتمعه السوراقي. وبعد دراسة مستفيضة في كتابه «نشوء الامم» حول تطور البشرية ونشوء الدولة القومية، وجد انها تمثل المستوى الارقى والانسب للدفاع عن المجتمع نتيجة التطور التاريخي. فالمبدأ القومي انتصر في العالم الحديث، ودوله انتظمت على هذا الاساس بدءاً من دول اوروبا، فأميركا الشمالية والجنوبية وانتهاء بدول شرق آسيا، الا نحن الذين ما زلنا نعاني من الاستعمار والشرذمة.
حدّد سعاده الأمة (القومية) على انها «جماعة من البشر تحيا حياة موحدة المصالح، موحدة المصير، موحدة العوامل النفسية-المادية في قطر يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التطور، خصائص ومزايا تميزها عن غيرها من الجماعات. (نشوء الامم، صفحة 165).
هذا المجتمع الذي له مزايا خاصة تفرقه عن مجتمعات أخرى وجده سعاده في سوراقيا، أو سورية الطبيعية، أو سورية الكبرى، وكلها مرادفات لمنطقة الهلال الخصيب.
قارب أنطون سعاده الشأن القومي من وجهة نظر براغماتية. فهو يقول إن العالم الحديث مبني على اسس الهوية القومية، وان أردنا ان ندافع عن وجودنا كشعب علينا أن نتبنى هذا الخيار والا تم القضاء علينا اذ أنه من المستحيل مجابهة الطائرة الحربية والدبابة والاسلحة الصاروخية بالسيوف ثم توقع الانتصار. الامر نفسه ينطبق على المعرفة فعلينا أن نأخذها من حيث وُجدت ثم تكييفها بما ينفعنا.
تحديد مفهوم القومية كما وضعه أنطون سعاده مفهوم شديد الحداثة ومتقدم على عصره، وهذا المفهوم لم يطبق حتى الآن ولذلك لا نستطيع القول إنه فشل طالما لم تتم تجربته. ما حصل في العالم العربي هو المطالبة بقومية عنصرية إما قائمة على دين/ ملة، أو على عرق معين ضد أعراق أخرى، أو قائمة على لغة، وهذه كلها لا تعبر عن وحدة مجتمع وشعب على أرضه بمعزل عن دينه أو عرقه كما حدده سعاده؛ فحتى يومنا هذا، نجد الصراعات الدموية قائمة في سوراقيا بناء على الدين/ الطائفة، والعرق، أي ان البناء القومي الذي طالبت به بعض التيارات القومية السائدة آنذاك كان بنياناً يحمل في طياته الانهيار لأنه يرفض المواطن الآخر المختلف عنه دينياً أو عرقياً. وبدلاً من النظر الى «العروبة» كنتاج ثقافي، حضاري، يستوعب الجميع، تمّ تبنيه، إما دينياً كهيمنة «سنية» على الطوائف والديانات الاخرى في محاولة لاستعادة التجربة العثمانية في وقت انتقل فيه العالم الى مفهوم الدولة القومية وتخلى نهائياً عن الدولة الدينية؛ وإما عرقياً، أي اللجوء الى المفاضلة بين من أصله عربي، وله الافضلية، وبين من ليس عربياً بالولادة وعلاقات النسب. وليس أدل من ذلك الخلط الحاصل اليوم بين مفهوم القومية والاثنية، فيتكلم بعض رجال الدين العراقيين وبعض مفكريهم عن «القومية الكردية»، أي انهم يعتبرون الاثنية والقومية صنوان!

اشكالية الدولة الدينية

يعتبر انطون سعاده أن كل دولة دينية تحمل في طياتها بذور زوالها وتفككها لأنها تحاول الجمع بين مبدأين متناقضين الا وهما الوظيفة الروحية والسلطة الزمنية. ومهما طال الزمن، فإن الارادة الشعبية ستُجبر السلطة الدينية على التنازل عن سلطاتها الزمنية التي يأخذها الشعب لنفسه. هذا ما حدث في اوروبا مع نهاية القرون الوسطى وتفكك الامبراطورية الكاثوليكية لصالح الدول القومية الممثلة لشعوبها، والمصير نفسه لحق بالسلطنة العثمانية. فـ«الدين في أصله لا قومي، ومناف للقومية وتكوين الامة لأنه انساني ذو صبغة عالمية» (نشوء الامم، صفحة: 162).
في هذه الحال ينشب تضارب بين الدين الذي يريد أن يوحد الشعوب تحت رايته وبين هذه الاخيرة التي تنضوي تحت أمم متعددة. وفي خضم هذا الصراع تتخذ كل أمة عقيدة دينية أو غير دينية لتحافظ على استقلالها فلا تخضع لأمة أخرى تستعمل السلطة الدينية للهيمنة عليها (نشوء الامم، صفحة، 161).
الامثلة في هذا المضمار كثيرة وتدعم نظرية سعادة. من تبني انكلترا للبروتستانية للتخلص من سلطة البابا في روما. أيضا تبني الألمان للبروتستانية مع كالفين ولوثر لاعلان استقلالهم عن الكاثوليكية. الامر نفسه ينطبق على إيران حيث قرر الشاه اسماعيل الصفوي تحويل ايران من المذهب السني الى المذهب الشيعي في مواجهة تكوّن السلطنة العثمانية التي كانت قد بدأت فتوحاتها في المشرق العربي في بداية القرن السادس عشر.
الوضع يختلف جذرياً في سوراقيا حيث تتعدد الاديان والملل والطوائف والمذاهب، فالعامل الرئيسي الذي يعتبره سعاده المسبِّب لانقسام المجتمع والشعب هو اعلاء الشأن الديني والطائفي فوق المبدأ القومي ووحدة الشعب:
«من أعظم العقبات التي قامت في سبيل استقلال سورية [الطبيعية] التعصب الديني، ذلك الداء العضال الذي أحدث شللاً في أعضاء الامة السورية ووقف حاجزاً منيعاً بينها وبين ما ترمي اليه من النهوض الى مصاف الامم الحية». (الاثار الكاملة، ج. 1: 31؛ ج. 9: 177). وحين اندلعت الفتنة الدينية عام 1936 بين حزب «النجادة» و«الكشاف المسلم» من جهة، وحزبي «الوحدة اللبنانية» و«الكتائب» من جهة أخرى، طلب سعاده من القوميين الانتشار في الشوارع، والوقوف سدّاً منيعاً بين الطرفين لمنع اقتتالهما مؤكداً «أن تحويل الوطن الى ميدان ينقسم فيه الشعب الواحد، الموحد المصير، الى جيشين يتطاحنان للوصول الى غاية واحدة هي الخراب القومي، عمل شائن لا يليق الا بالشعوب البربرية». (الآثار الكاملة، ج. 2: 232).
والملفت للنظر ان هذه الاحزاب الطائفية أُنشئت لتناوئ المفهوم القومي الجامع، وهي قامت على اثر انتشار الحزب السوري القومي الاجتماعي كما اعترف آنذاك، توفيق عواد رئيس حزب الوحدة اللبنانية: «ان حزب الوحدة قام ليناوئ امتداد النهضة القومية في البلاد التي بعثها ظهور الحزب السوري القومي، الذي كان ينظم عدداً كبيراً من الشباب، حتى في المناطق اللبنانية الصرفة، ومنعاً لهذا الاتجاه تأسس حزب الوحدة الوطنية ثم تبعته الاحزاب الاخرى». (الاعمال الكاملة، ج.2: 324).
ولا يرى توفيق عواد أي تناقض بين اسم حزبه (الوحدة الوطنية)، وبين تمييزه المناطق اللبنانية بين مناطق «صرف» أي انها مسيحية مئة في المئة وبين مناطق ليست «صافية تماماً»! وهذا يذكرني بالتصنيف نفسه الذي كان سائداً ولا يزال الى درجة كبيرة في الولايات المتحدة الاميركية بين مناطق «صرف» بيضاء وأخرى سوداء. المنطق العنصري نفسه ينطبق في الحالتين العرقية والطائفية.
لم يغفل سعاده عن ذكر دور الدول الاستعمارية في عرقلة الوحدة حين قسّم سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي، سوراقيا تبعاً لمعايير دينية/ طائفية كي تظل النزاعات الداخلية مستعرة فيسهل ذلك السيطرة الكاملة.
وتتبع الولايات المتحدة الاميركية اليوم السياسة ذاتها فلا تسمح بأي تنسيق بين كيانات سوراقيا بالرغم من استفحال الارهاب التكفيري؛ فهي رفضت ولا تزال ترفض ان يساند حزب الله الجيش السوري في قتاله، لأنها تريد أن تبقي الكيانات السوراقية في حال استنفار ضد بعضها، فهي لو اتحدت، أو في الحد الادنى، نسّقت فيما بينها ربحت المعركة ليس فقط على الارهاب بل على الكيان الصهيوني أيضا وانجزت استقلالها القومي ومكانتها في العالم.
يريد الغرب الاستعماري أن يبقى مسيطراً على مقدرات سوراقيا الاقتصادية، والاستراتيجية أيضاً كونها ممرّاً إجبارياً باتجاه شرق آسيا. من أجل هذا الهدف أقام كيانات طائفية على أرض سوراقيا: كيان صهيوني على أرض فلسطين، وكيان يحكمه المسيحيون على أرض لبنان الكبير بعد اقتطاع اربع محافظات من سورية، ثم محاولة تقسيم ما تبقى من سورية الى مناطق علوية ودرزية وسنية، وهذا لا يختلف البتة عن محاولات الولايات المتحدة الاميركية في هذه الآونة من تحويل سورية والعراق الى امارات دينية، فالمهم بالنسبة للغرب هو شرذمة الشعب السوراقي وجعله ينقض على نفسه في حروب أهلية لا نهاية لها.
أمام الوحدة السوراقية التي يصبو اليها سعاده اذاً عوائق خارجية وداخلية حلّل اسبابها وقدّم حلولاً لها لأن المبدأ القومي، أي استمرارية الشعب على أرضه هو الركيزة الاساسية لبقاء هذا الشعب حياً، فلا حياة لشعب فقد أرضه. الهوية التي نحملها وكذلك جواز السفر يدلان قبل أي شيء آخر على موقعنا الجغرافي: أين نسكن هو الذي يحدد انتماءنا، لا الدين ولا اللغة ولا حتى الاثنية.
لذلك كل حديث بأننا يجب أن نتخلّى عن المفهوم القومي كارثة حقيقية علينا، لأن المتحد القومي هو الوعاء الجامع لنا وفقدانه يفتح المجال امام قوميات الدول الاخرى كي تستولي على أرضنا كما حدث للاسكندرون وفلسطين. فتركيا تحولت الى دولة قومية مع نهاية الحرب العالمية الاولى وتقبع على حدودنا، ولها أطماع في التوسع وأخذ مساحات من أراضينا، وهي مستعدة لاستعمال الدين «السني» حجة للتدخل في امورنا تماماً كما تفعل السعودية، لذا لا مجال لمواجهتها انطلاقاً من المبدأ الديني لأن ذلك يعني نهايتنا، والسبيل الوحيد المتاح لنا هو التوحد تحت راية القومية السوراقية الجامعة.


فصل الدين عن الدولة

لأن الطائفية الدينية تلعب دوراً اساسياً في الوقوف حائلاً أمام بناء الوجدان القومي ومساواة المواطنين، طالب سعاده بفصل الدين عن الدولة (الاعمال الكاملة، ج. 2: 282). الا أن اسباباً أخرى جعلته يشدد على أهمية فصل الدين عن الدولة ومؤسساتها:
1. بالرغم من أن الدين يستطيع أن يلعب دوراً مسانداً للمبدأ القومي في دولٍ الغالبية الساحقة من مواطنيها تدين بمذهب واحد كايران وتركيا الا أن الوضع في سوراقيا نقيض ذلك ما يمنع أن يكون الدين داعماً للوحدة فيتحول الى سبب للفرقة والاختلاف والتقسيم (الاعمال الكاملة، ج. 2: 159-160).
2. حيث لا يوجد فصل بين الدين والدولة يجد سعاده ان الحكم يتم بالنيابة عن الله لا الشعب. وأظن أن ايران حلّت هذه الاشكالية بوضعها مبدأ الدولة القومية وارادة الشعب اولاً، والمبدأ الديني ثانياً، والا لما كانت هويتها كما أعلنتها عام 1979: جمهورية اسلامية ايرانية. وكلمة جمهورية هي الاولى في التعريف ما يعني ان القرار يعود الى الشعب الايراني بمعزل عن دينه أو عقيدته أو اثنيته. والبرهان على ذلك ترسيخ مبدأ الاقتراع في انتخابات تؤدي الى تمثيل الشعب في مؤسسات الدولة من تشريعية وتنفيذية، من دون تمييز بين مسلم وغير مسلم.
3. حين تعتبر المؤسسة الدينية انها تملك الاجوبة كافة من مادية وروحية، تصبح نظرتها شمولية لا تقبل بالاختلاف لأنها تعتقد أن هذه هي الارادة الالهية وينتج عن ذلك قمع واستبداد للشعب.
4. تدخل الدين في المعارف العلمية يؤدي الى تخلّف المجتمع لأنه غير مؤهل للعب دور من هذا النوع، ولأنه يرفض عملية التطور على أساس أن ما أنزله الله كامل غير منقوص. اضافة الى ذلك، يلتزم الدين بالمعلومات الدينية كما أوردتها تعاليمه فينتج عن ذلك تضارب بين المُعطى الديني والمعطى العلمي. ومن الامثلة: هل البشرية نتاج سلالة واحدة من آدم وحواء، أم هو تدرج وتطور من مرتبة الحيوان الى مرتبة أعلى؟ هل خُلق الكون في سبعة أيام أو عبر ملايين السنين؟
لا يزال العديد من رجال الدين يعلمّون أتباعهم أن الارض مسطحة، وأن الشمس تدور حول الارض! فهل هذه المعتقدات الدينية تسمح بتقدّم وتطوّر المجتمع، أم تجعلنا أسرى التخلف والانهيار مقارنة مع الدول التي اعتمدت الحقائق العلمية نبراساً لها؟
5. في المحصلة يخلص سعاده الى التأكيد «ان فكرة الجامعة الدينية السياسية منافية للقومية عموماً والقومية السورية خصوصاً، فتمسك السوريين المسيحيين بالجامعة الدينية يجعل منهم مجموعاً ذا مصلحة متضاربة مع مصالح مجاميع دينية أخرى ضمن الوطن، ويُعرض مصالحهم للذوبان في مصالح الاقوام التي تربطهم بها رابطة الدين (كالفرنسيين والطليان وغيرهم). وكذلك تشبث السوريين المحمديين بالجامعة الدينية يعرض مصالحهم للتضارب مع أبناء وطنهم الذين هم من غير دينهم، والتلاشي في مصالح الجامعة الكبرى، المعرضة أساسياً لتقلبات غلبة العصبيات، كما تلاشت في العهد العباسي والعهد التركي. ليس من نتيجة للقول بالجامعة الدينية سوى تفكك الوحدة القومية والانخذال في ميدان الحياة القومية» (المحاضرات العشر، المحاضرة السابعة، صفحة 117).
6. ان التمسك بالدولة الدينية يؤدي الى تضارب المجموعات الدينية المختلفة ضمن سوراقيا لأن مرجعية كل فئة دينية ليست الوطن القومي بل المجاميع الدينية الكبرى المتواجدة خارج الوطن، كالمملكة السعودية مثلاً بالنسبة الى المسلمين السنة.
أخيراً، سعاده أول من طالب بحوار مسيحي-اسلامي يردم الهوة المستفحلة على ارض الوطن وذلك ضمن البوتقة السوراقية القومية، ورفض المفاضلة ما بين الديانتين كما فعل الكثيرون وعلى رأسهم الشاعر رشيد سليم الخوري.

الدولة الديمقراطية

بالنسبة لسعاده الدولة الديمقراطية هي دولة قومية حتماً لأن مصدر السلطات في الدولة القومية هو الشعب «فالدولة الديمقراطية لا تمثل التاريخ الماضي، ولا التقاليد العتيقة، ولا المجد الغابر، بل مصلحة الشعب ذي الحياة الواحدة» (نشوء الامم، صفحة 130).
والطريقة الامثل لمعرفة ارادة الشعب هي عبر الانتخابات النيابية شرط أن يكون المجتمع قومياً يتطلع مواطنوه الى المصلحة العامة لا الخاصة كما هو حاصل في لبنان (الآثار الكاملة، ج. 3: 202). ففي هذا البلد تتشكل القوى السياسية على أساس المنافع الشخصية والعائلية، وقيمة المرشح ليست في نظرياته ومبادئه، بل في عائلته وأصدقائه (الآثار الكاملة، ج.3: 175).
ومن الشروط التي يضعها للنواب، عليهم أن يكونوا مؤهلين ولديهم الكفاءات اللازمة لوضع الخطط والمشاريع، «فكل مجلس نيابي يتألف من رجال لا يعرفون من المبادئ الاقتصادية أو السياسية، أو الاجتماعية غير مسألة تزفيت الطرقات، وأمور توظيف الاصدقاء والاقارب، ليس مجلساً يتمكن من السهر على حاجة الشعب والوطن» (الآثار الكاملة، ج. 3: 213).
كذلك على النظام الديمقراطي ان يؤمن الحقوق المدنية للمواطنين وهي حقوق مقدسة بالنسبة الى سعاده، فلكل مواطن ومواطنة حق التفكير، وحق الاعتقاد، وحق الاجتماع للمداولة في العقائد والآراء، وحق تكوين الرأي في الحكومة وأشكالها، ونقل هذا الرأي الى أعضاء آخرين فيفسح المجال أمام الشعب للتطور نحو افضل النظم وأقوى المبادئ وأصلح الحالات... «فإذا جرى تدخل من قبل أفراد بلغوا الحكم بقصد تعطيل هذه الحقوق المقدسة، كانوا طغاة ظالمين يدوسون الحقوق عينها التي أوصلتهم الى الحكم» (الآثار الكاملة، ج.3: 117).
أهمية النظم الديمقراطية أنها تحمي حرية الفكر، وهذه الاخيرة ليست نقطة انطلاق فقط بالنسبة لسعاده، بل هي غاية في حد ذاتها. يقول حول هذا الموضوع وهو في العقد الثاني من عمره:
«هذا الصراع الصامت المحتدم بين عصرين، الواحد منهما قد بلغ من الكبر عتيا، والثاني لا يزال في بدء حياته. الاول يتمسك بنظامه المحافظ القديم، والثاني آخذ في انشاء نظام حر جديد. أحدهما يقول: «أنا دولة الفكر»، والثاني يقول: «انما دولة الفكر هي الفكر الحر نفسه» (الآثار الكاملة، ج. 1: 329).
الفضاء الفكري اذا يجب أن يكون مفتوحاً، دون ضوابط أو حواجز تعيق نموه وابداعه لأن عليه يتوقف تطور الامم ونموها وازدهارها.
كان شعاره الظاهر مع كل توقيع لرسائله: «المجتمع معرفة، والمعرفة قوة». وما ابعدنا اليوم عن هذه المقولة، فالجهل المتفشي في الحرب على سوراقيا يهدف الى تعطيل الفكر تعطيلاً شاملاً وكاملاً بذريعة أن الاجوبة كلها جاهزة في الكتب المقدسة، فلا ضرورة للدرس والاجتهاد والتمحيص، بل كل هذا مدان، يعاقبه المجتهدون السلفيون الجدد.
لم يضع سعاده سقفاً لنظرياته لأنه آمن بالتطور وبعبقرية شعبه وتمكنه من الوصول الى أعلى المراتب الثقافية والعلمية. أرسى فقط المداميك الضرورية التي تسمح لنا بالبقاء في هذا الصراع المميت بين الامم، وبالتقدم والرقي، والباقي تركه لنا لنحقق أحلامنا وتطلعاتنا نحو مستقبل زاهر، كما نشاء ونرغب.
(محاضرة ألقيت في معهد المعارف الحكمية في 22 شباط 2016)