علينا من الآن وصاعداً التفكير جدياً في الكيفية التي تدار بها السياسة في المنطقة. ثمّة أسئلة تتعلّق بمزاولة هذه الأخيرة في المراحل الانتقالية لا تزال خارج البحث تماماً. الجميع الآن يعيشون حقبة انتقال، وبالتالي هم معنيّون بهذه الأسئلة، حتى لو لم يرغبوا الاعتراف بذلك. تركيا، مثلاً، تعتبر المحطة الأخيرة لهذا المخاض التاريخي بعد انفراط العقد الاجتماعي داخلها ودخول كتلة بشرية وازنة فيها مواجهة مفتوحة مع السلطة التي فرطته. قبل ذلك لم يكن ممكناً تخيّل انتقال الفعل الاحتجاجي الجذري إلى دولة تعتبر جزءاً رئيسياً من التحالف الغربي ــ الأطلسي، وهو المعني كما نعلم بفكرة التوازنات التي يقوم عليها بالأساس منطق المعسكرات الدولية. شيء ما تغيّر بعد انتقال الاحتجاجات إلى داخل تركيا، وهي المرّة الأولى تقريباً التي يلمس فيها المرء قلقاً جدّياً من جانب الغرب على قاعدته الأساسية في المنطقة. في المرّة الماضية التي حصل فيها ذلك (في مصر تحديداً) جرى استيعاب الأمر بسرعة عبر التشبيك مع الجيش و«الإخوان» على اعتبار أنّهما «المؤسّستان» الوحيدتان اللتان جرى إعدادهما لأوقات مماثلة. هنا تحديداً تكمن مشكلة الرأسماليات الغربية مع المنطقة. تعاملها مع الوضع على أساس أنّه قابل للاحتواء دائماً يناقض التغيّرات الجذريّة التي ساعدت هي في صياغتها بادئ الأمر. تخلّيهم عن مبارك وبن علي وقتها أفسح المجال لدخول قوى جديدة باتت أقوى من ذي قبل، وعلى استعداد للتضحية جدّياً بمصالح المعسكرات في سبيل توسيع قاعدة المشاركة الشعبية في السلطة. على هذه الأرضية تحديداً تنهض فكرة حملة «تمرّد» الساعية لا إلى خلع مرسي فحسب، بل أيضاً إلى رفض أيّ سلطة يكون الإخوان المسلمون جزءاً أساسياً منها. لا يحصل ذلك عادة في الدول التي تشهد استقراراً وتداولاً صورياً للسلطة، بما فيها الامبرياليات الغربية نفسها، وهذا يعني أنّ قواعد اللعبة قد بدأت تتغيّر لغير مصلحة الغرب الذي تدخّل في الاحتجاجات أملاً في إيجاد كتلة تحفظ له مصالحه وامتيازاته. سيكون من الجيّد كذلك ألا نفرط في التفاؤل، فالانتفاض الآن لن يلجم التدخّل ذاك بالكامل، ولن تتوافر أجندته على ما يسمح بتقويض امتيازات الغرب كلّيا (نظراً لمشاركة اليمين العلمانوي التابع للغرب في التوقيعات والاحتجاجات المقرّرة ضد مرسي وأعوانه). في أحسن الأحوال سيحسّن من شروط انخراطنا في الصراع على قاعدة التقليل من أثر الاندفاعة الامبريالية، وذلك في انتظار تبلور صورة المشهد في الدول الأخرى التي تشهد احتجاجات مماثلة، والتابعة بدورها ــ جزئيا أو كلياً ــ للمعسكر الغربي. طبعاً، هذا لا يعفي سوريا أيضاً من التصنيف أعلاه، فهي من جملة الدول الملتحقة بالمعسكرات، وفيها كذلك احتجاجات تسير بالتوازي مع حرب أهلية مموّلة من أطراف خارجية (أميركا، روسيا، تركيا، إيران، السعودية، قطر... إلخ). سيسمح ذلك غالباً بتوسيع فكرة الاصطفاف في وجه المعسكرات، فبدلاً من أن تكون محصورة بالطرف الغربي وحده تصبح أيضاً في مواجهة أطراف أخرى إذا ما قرّرت هذه الأخيرة أن تتوسّع عسكرياً لحماية أسواقها. في النهاية الاحتجاجات التي تتوسّع أفقياً الآن هي في مواجهة هؤلاء جميعاً، والمحطّتان الحاليتان في تركيا ومصر ستتبعهما محطّات أخرى لا تقلّ عنهما أهمية وتأثيراً. ففي روسيا مثلاً ثمّة احتجاجات مستمرّة ضدّ بوتين وحكمه لكنها لا تمتلك قاعدة شعبية مماثلة للقاعدة التي تتكوّن الآن في تركيا. والسبب في ذلك بسيط وواضح: الكتلة المعارضة في روسيا ليست في وارد التحوّل إلى طبقة اجتماعية تعبّر عن مصالح الشريحة التي همّشها بوتين ومن معه، وبالتالي هي غير مؤهّلة لخوض صراع مع الطبقة المافياوية الحاكمة بالنيابة عن جزء من الشعب. سأحاول قول ذلك بطريقة أخرى: في روسيا ثمّة معسكر يستعد لوراثة الامبراطورية السوفياتية، ولكن الممانعة له في الداخل «هشّة» بالقياس إلى ما يحدث في بلدان أخرى، منها تركيا التي تتدخّل هي الأخرى في شؤون جيرانها وتتولّى بأمر من الغرب التمدّد على حسابهم. هناك فاقم التمدّد ذاك من أزمة الداخل الذي تحكمه طبقة أقلّ تماهياً مع التنويعات الطبقية والقومية و«الطائفية» الداخلية من نظيرتها في روسيا. الأرجح كذلك أنّ أزمة أردوغان الأساسية هي مع هؤلاء ومع تمثّلاتهم الحالية غير القابلة للاذعان والانخراط في العملية السياسية الصورية. يبدو أنّ البقاء في السلطة طوال الفترة الماضية قد أتى على الحسّ السياسي البراغماتي للرجل وحزبه، إذ ظنّ، مثله في ذلك مثل آخرين في المعسكر المقابل، أنّ الوكالة الغربية التي أنيطت به حصراً دون باقي الحلفاء التقليديين (حزب الشعب الجمهوري مثلاً، وهو «من تركة الحرب الباردة») تتيح له بناء نموذج إمبراطوري قريب من النموذج الأميركي (يخطئ من يعتقد بأنّه نموذج عثماني لأنّ الأساس فيه هذه المرّة هو الاقتصاد والإغراق السلعي لا العصبية على الطريقة الخلدونية). نموذج لا يمكن استمراره من دون احتكار أقلّ للثروة والسلطة، وهو ما يستحيل توقّعه من حزب كومبرادوري مرتبط أكثر ممّا ينبغي بالبنية الرأسمالية الدولية (وإلا فكيف نفسّر سعيه المستميت إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي). لو بدا أردوغان أقلّ ميلاً نحو عسكرة تركيا والزجّ بها في أتون الصراع بين الرأسماليات الدولية لما حصل الانتفاض عليه وعلى سلطته بهذه السرعة وبهذا الزخم الذي فاجأنا جميعاً.
ليست صدفة إذاً أن ينجح الانتفاض أكثر في البلدان التي تبدي استعداداً أكبر للانخراط في الصراع الدولي الحاصل من موقع التبعية والإذعان لشروط الرأسمال العالمي. لم يحصل ذلك في إيران، رغم توافر قاعدة فعلية معارضة لسلطة الملالي ــ وان كانت لا ترقى إلى مرتبة الطبقة بعد بسبب وعي النظام لخطورة فكرة الصراع الاجتماعي عليه وعلى امتيازاته ــ، إذ بخلاف تركيا المعتمدة على اقتصاد نصف ريعي ــ نصف إنتاجي تتيح الثروتان النفطية والغازية للسلطات هناك هامشاً فعلياً للمناورة تجاه الغرب وضغوطاته المستمرّة. صحيح أنّ الطبقة التي تحكم إيران تعتمد على الريع في احتكارها للسلطة وتوزيعها مغانمها بحسب الولاءات، إلا أنّها لا تعاني كما «نظيرتها التركية» تصدّعاً في القاعدة الاجتماعية المستفيدة من هذا الريع. الثروة النفطية هنا تلعب كعامل كبح للشرائح البورجوازية والمتوسّطة المهمّشة أيديولوجياً والمقصاة عن السلطة، وهذا ما رأيناه في استعراضات القوة التي مارسها النظام في الانتخابات الرئاسية الماضية بمجرّد أن لوّحت له الطبقة الوسطى الداعمة للإصلاحيين بقبضتها. هي تحرّكت «كطبقة» فعلاً، لكن حراك المفقرين المؤيدين للسلطة والمستفيدين من الدعم الكبير الذي يوفّره الريع النفطي للأرياف والضواحي الفقيرة قلّل من حجم تأثيرها، وكذا من قدرتها على إجبار النظام على التنازل. لو لم تكن إيران بهذا المعنى مستقلّة اقتصادياً كدولة ــ لا كنظام ــ لما وجدت الطبقة الوسطى المنتفضة ضدّ النظام حينها صعوبة تذكر في «تركيعه» وأخذ ما تريده منه. أيضاً بدت «الحركة الخضراء» وقتها ملتحقة بالغرب ليس لأنّها كذلك بل لأنّها انتفضت ضدّ نظام معاد له، تماماً كما يحصل الآن في تركيا على نحو مقلوب، حيث نالت الاحتجاجات ضدّ السلطة هناك تأييد قطاعات يسارية عريضة في العالم «لا يجمعها شيء» قدر ما تفعل المسافة بينها وبين حكم حزب «العدالة والتنمية» النيوليبرالي. حصل ذلك ليس لأنّ الاحتجاجات معادية للغرب بالمطلق أو داعية إلى فكّ الارتباط معه اقتصادياً، بل لكونها قامت ضدّ نظام عميل له وموكل من جانبه بالقيام بمهام كثيرة، من بينها تنفيذ سياسات إغراق اقتصادي للمنطقة بأكملها، لا لسوريا فحسب. بالتالي ليس ممكناً إجراء توأمة ميكانيكية بين ما يجري حالياً في تركيا وما جرى بالأمس في إيران، أو بما سيجري غداً في روسيا أو في أميركا نفسها. يستحيل مثلاً المطابقة بين ما فعلته حركة «احتلّوا وول ستريت» في مواجهة النظام الأميركي (نعم هو نظام بالصياغة التي نحتتها مراكز البحث الامبريالية هناك وصدّرتها إلينا لكي نستعملها فقط في مواجهة الديكتاتوريات
هنا:the American regime) وما «لم تفعله» «الحركة الخضراء» في إيران، فالأولى كانت تتحرّك على أساس طبقي وتستهدف مجمل انحيازات النظام، بينما لم تبد الثانية اهتماماً يذكر بمواجهة النظام على أساس الصراع بين طبقتين، وهذا ما يفسّر مجدداً اعتبار المراقبين حركة «احتلّوا جيزي» (أو «احتلّو تقسيم») استكمالاً لما فعلته حركة «احتلّوا وول ستريت» حين وضعت النظام في أميركا لأوّل مرّة تقريباً إزاء مأزق وجودي. حينها، أيضاً، رفعت كما يحصل الآن في تركيا شعارات ضدّ التدخّل الامبريالي الأميركي في العالم، على قاعدة أنّ التوسّع الحاصل عسكرياً يتكامل مع تركّز الثروة داخلياً في قطاع البنوك والعقارات والمضاربات المالية ويتقاطع معه عند هدف واحد هو المزيد من إقصاء «الأميركيين العاديين». وهؤلاء، مثلهم مثل الأتراك والروس والأوروبيين، يبقون على الهامش حين يتعلّق الأمر بتقرير وجهة انخراطهم في العملية السياسية التي يراد لها أن تبقى دائماً صورية، لكي لا يكون للانخراط ذاك دور في تغييرها. بهذا المعنى لا يفعل المعسكر ــ الذي تنتمي إليه كمفهوم معظم الدول المتصارعة اليوم ــ إلّا تزويد السياسة الصورية بأسباب بقائها، فهو بالأساس يقوم على «صراع وهمي» بين رأسماليات (كما هي الحال بين روسيا وأميركا) لا تعترف بالكتل الاجتماعية كرافعة للتغيير، وتخشى دائماً من تأثيرها حين تنتظم في طبقات وتشكيلات اجتماعية ناجزة ومصمّمة على مواجهة السلطة. إذا كانت الحال كذلك حقّاً في مصر فنحن مقبلون على تغيير لن يطاول السلطة فحسب، بل الأساس الاقتصادي ــ الاجتماعي الذي يصوغ انحيازاتها الطبقية كذلك. أمّا إذا اقتصر التغيير على شكل السلطة كما يظهر من بعض الأدبيات اليمينية داخل المعارضة المصرية فسيكون علينا حينها توقّع زوال السلطة الجديدة التي دحرت «الإخوان» سريعاً، لأنّ ما يحكمنا الآن هو الوضع الاقتصادي لا الثقافي مثلما تتوهّم بعض الدوائر المصرية النخبوية. وبما أنّ المحدّد اقتصادي فالاحتجاج سيستمرّ طالما استمرّت السلطة في إلقاء مزيد من الكتل الاجتماعية خارجها. وهذا ينطبق بالقدر ذاته إن لم يكن أكثر على تركيا التي تجاوزت التجربتين التونسية والمصرية في فهمها لدور الطبقة الاجتماعية كمحدّد وحيد للتغيير. على منظّري المعسكرات الدولية من الجانبين إدراك ذلك، فالاحتجاج لا يقوم عادة إلّا على أنقاض المعسكر وفي مواجهة رسملته الاقتصادية المستمرّة. تركيا بهذا المعنى لا تشبه إيران، ولكنها تشبهها في معان أخرى من بينها الاعتراض على بطش السلطة، حتى لو لم يتبلور ذلك طبقياً بالشكل الأمثل.
* كاتب سوري