أخذت سوريا دوراً اقليمياً في المنطقة عام 1976، ولأول مرة منذ الأيوبيين، دخل الجيش السوري بلاد الأرز على خلفية الحريق اللبناني. في الفترات السابقة من القرن العشرين كانت سوريا ملعباً للآخرين وميداناً للصراع بينهم، وقد وصلت الأمور في الشهر الأول من عام 1958 إلى حدود من الاضطراب الداخلي، بفعل صراعات دولية - إقليمية «على سوريا» بلغت ذروتها في أعوام 1955 - 1957، وهو ما دفع وفداً من الضباط السوريين للتوجه إلى القاهرة، راجياً من الرئيس المصري أن يأتي ويتسلم الأمور في عاصمة الأمويين. الأمر الذي كان المقدمة لسياق استغرق أربعين يوماً قبل حصول الوحدة السورية - المصرية في 22 شباط 1958. كانت الستينيات فترة وسيطة، بدءاً من انفصال 28 أيلول 1961عن مصر، ومروراً بفترة حكم البعث، راوحت فيها دمشق بين استمرارها ملعباً للآخرين، وأخذ دور الرديف لبغداد ضد القاهرة كما في صيف 1963 لما كان البعثيون في الحكم ببغداد ودمشق وتجابهوا مع عبد الناصر بعد فشل مشروع الوحدة الثلاثية في ربيع 1963، أو في أن تأخذ شيئاً من القوة الذاتية نتيجة صراعات إقليمية كما حصل في فترة 1964 - 1967 في فترة انشغال القاهرة والرياض بالحرب اليمنية، بالترافق مع ضعف العراق في أثناء حكم عبد السلام عارف بعد انقلابه على البعثيين في 18 تشرين ثاني1963.
في فترة 1971 - 1974 كان التوافق الثلاثي المصري _ السوري _ السعودي خيمة لدور سوري جديد في الإقليم، ولاستقرار داخلي لم تعرفه أنظمة الحكم السورية من قبل. كذلك فإنه كان المظلة لحرب تشرين ولحظر النفط العربي عن الغرب. لم يؤد تزعزع هذا التوافق، مع اتجاه المصريين إلى اتفاقات منفردة مع تل أبيب بدءاً من اتفاقية فصل القوات في الشهر الأول من عام1974، إلى ضعف دمشق نتيجة حفاظ الأخيرة على تقارباتها مع الرياض. وعملياً، إن الدخول العسكري السوري إلى لبنان في 1 حزيران 1976 قد تمّ بمظلة أميركية _ سعودية وضد إرادة موسكو والقاهرة وبغداد. وعندما أتى الرئيس السادات إلى قمة الرياض السداسية في تشرين الأول 1976، التي وفّرت الغطاء العربي للوجود السوري في لبنان، فقد كان هذا ليس ليستعيد وضع 1971 _ 1974 لما كان أقوى أطراف ذلك الثالوث العربي، بل ليكون أضعفه في طبعته المتجددة بعد ذلك المؤتمر السداسي قبل أن ينفرط عقد هذا الثالوث من جديد مع زيارة السادات لإسرائيل في 19 تشرين الثاني1977، ومعلناً عبر تلك الزيارة استقالة مصر من شؤون آسية العربية وانكفائها على ذاتها.
من خلال توافق دمشق مع واشنطن والرياض المستمر وغير المتأثر بوضع العلاقات السورية _ المصرية، وكذلك عبر استئناف للودّ مع موسكو عام 1978 بعد توتر أعقب صدام السوريين مع اليسار اللبناني والمقاومة الفلسطينية في عام 1976، استطاعت دمشق أن تكون المدير للأزمة اللبنانية وأن تمنع شظايا هذا الحريق من الامتداد للداخل السوري رغم اضطرابات حزيران 1979 وشباط 1982، التي رافقت الأحداث السورية آنذاك. تعزّز موقع دمشق الإقليمي هذا بتحالف دمشق مع طهران منذ سقوط نظام الشاه في11 شباط 1979، وهو ما أتاح للسلطة السورية أن تستفيد، وتضيف إلى أوراقها ما حصل من حريق إقليمي بدأ مع نشوب الحرب العراقية _ الإيرانية في 22 أيلول 1980 _ 8 آب 1988، حيث أدت دور الإطفائي للحرائق بين الإيرانيين ودول الخليج، ثم استطاعت أن تمسك بالورقة الكردية العراقية وبجزء من الورقة الشيعية العراقية في ظرف انفجار البنية الداخلية العراقية وتشظيها، الآتي بحكم تداعيات تلك الحرب بين بغداد وطهران. هذا الوضع الإقليمي القوي لدمشق في بلاد الأرز وفي بلاد الرافدين أتاح لها أن تلعب بالورقة الكردية التركية منذ نشوب التمرد الكردي على أنقرة بدءاً من يوم 15 آب 1984، وأن تكون مديرة لذلك الحريق في الشمال من حدودها.
هذه الأوراق السورية الثلاث أو الأربع (زائد التحالف مع طهران)، أتاحت لدمشق إفشال محاولة إدارة ريغان انتزاع الورقة اللبنانية من أيدي عاصمة الأمويين وتسليمها لإسرائيل في فترة 1982 _ 1985، وقد كان التوافق السوري _ الأميركي المستجد حول لبنان منذ أيلول 1988عبر (اتفاق مورفي _ الأسد) سبباً في قدرة دمشق على تفادي تأثيرات انهيار الحليف السوفياتي على النظام السوري وسبباً في قدرته على العوم في مرحلة القطب الواحد الأميركي للعالم من خلال بوابتي «حفر الباطن» عام1990، ثم «مؤتمر مدريد» عام 1991، ومن دون أن يؤدي هذا إلى ضرائب مرافقة في بنية النظام كما حصل في تلك الفترة للكثير من الأنظمة المشابهة ذات «الحزب القائد أو الواحد» في دول المعسكر السوفياتي أو في الجزائر.
عندما اضطرت دمشق في خريف 1998 إلى التخلي عن ورقة عبد الله أوجلان تحت الضغط التركي، لم يؤدّ إلى إضعافها اقليمياً كثيراً، ما دامت ممسكة بالورقة اللبنانية وبجزء من الورقة العراقية، وبسبب استمرار تحالفها مع طهران. عندما تحالفت واشنطن وطهران في غزو العراق واحتلاله عام 2003، وجدت دمشق نفسها في موقف صعب، وقد كان مجيء الأميركي إلى بلاد الرافدين سبباً في تغيّر نظرته للمنطقة، التي كان منها دخوله في مرحلة أصبح فيها موقفه مختلفاً تجاه الوجود السوري في لبنان، وهو ما كان سبباً في القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن بيوم 2 أيلول 2004. وعلى الأرجح، إن اتجاه واشنطن إلى إشعال حريق لبناني تحت الأرجل السورية هو بسبب وقوف دمشق ضد الأميركي في غزو بلاد الرافدين واحتلالها، انطلاقاً من مقولة بوش في تلك الأيام، التي اعتبر فيها العراق بوصفه «موضوع المواضيع». في تلك الأيام دافعت دمشق عن نفسها من خلال تأييدها للمقاومة العراقية ضد الأميركي وعبر دفعها للأمور في لبنان نحو اصطفاف داخلي بين «8 آذار» و«14آذار» ومن خلال تقارب مع أنقرة التي ظلت حتى عام 2007 ضد الاحتلال الأميركي لبلاد الرافدين. في تلك الفترة بين عامي 2003 و2008 كانت دمشق قادرة عبر ذلك على منع الحريقين العراقي واللبناني من الامتداد إلى البيت السوري الداخلي عبر إذكاء النار تحت أرجل الأميركي في العراق، وعبر إدارة اصطفاف استقطابي لبناني ضد فريق آخر (هو 14 آذار) كان مدعوماً بوضوح من واشنطن. وقد زادت قدرة دمشق هذه بعد انفكاك التحالف الإيراني _ الأميركي إثر استئناف طهران لبرنامجها في تخصيب اليورانيوم منذ آب 2005.
في فترة 1976 _ 2011 لم تؤثر الحرائق المجاورة أو تمتد إلى للداخل السوري رغم أحداث 1979 _ 1982، وأحداث 12 آذار 2004 الكردية في القامشلي التي أتت كحصيلة للقوة الكردية العراقية المتنامية في أربيل بعد سقوط صدام حسين، وذلك بفعل اشتراك سوريا في إدارة تلك الحرائق المجاورة. عندما نشبت الأزمة السورية الداخلية منذ يوم 18 آذار 2011 كانت الوحيدة من الدول المجاورة التي حاولت اللعب بالنار السورية هي تركيا. لم ينجح رجب طيب أردوغان في ذلك رغم الغطاء الأميركي له، حيث ارتد الحريق السوري وامتد للداخل التركي في الأطر الكردية والعلوية وفي استقطاب علماني _ يساري مدعوماً بالمؤسسة العسكرية ضد سياسته السورية، ثم كان فشله في إدارة الملف السوري سبباً في اتجاه أوباما في عام 2013 لسحب الملف من أيدي أنقرة باتجاه توافق أميركي _ روسي لحل الأزمة السورية، وهو ما ترجم في مسارات قادت إلى أن يدفع أردوغان فشله بالسياسة الإقليمية من خلال فواتير بدأت بالظهور في الداخل التركي منذ يوم 31 أيار 2013. خلال عام 2013، بان أيضاً أن الحريق السوري لا يمكن أن يكون موضعياً، كما كان الحريق اللبناني بين أعوام 1975 _ 1990، الذي كان مثل منقل الشواء في «بلكون» المنزل الإقليمي، بل امتد أسوة بتركية إلى لبنان والعراق والأردن، فيما تشعر إسرائيل بالكثير من القلق من تداعيات هذا الحريق السوري عليها.
هل استعجال واشنطن إلى تسوية سورية «ما» مع موسكو، وهو ما فاجأ الروس في أثناء زيارة جون كيري لموسكو يوم 7 أيار 2013، هو بسبب خوفها من حريق لا يمكن السيطرة عليه في الإقليم بأكمله بفعل الحريق السوري؟
* كاتب سوري