يقول المثل العربي بالعامية الفصيحة: بالمال ولا بالعيال، وهذا المثل، على ما يبدو، لا ينسحب على كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)،
ذلك أنّه ليس سراً أنّ حماس باتت منقسمةً على نفسها، وتحديداً في موقفها من الأزمة السورية، التي أججت الصراع بين قطبي الحركة، الأوّل بقيادة رئيس الدائرة السياسية، خالد مشعل، الذي قام بطعن النظام العربي السوري بالظهر، واستقرّ في إمارة قطر، بجانب أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط، وبين القطب الآخر، الذي تقوده الكوادر من الصفوف الوسطى والتحتية، وهذه الكوادر، بصرف النظر عن اختلافنا الأيديولوجي معها أوْ موافقتنا على نهجها، هي كوادر إسلاميّة متشددة، ولكنّها في الوقت ذاته، تتميّز ببعدها القومي والوطني على حدٍ سواء. وهذه الفئات، التي كانت وما زالت، وحسب كلّ المؤشرات، ستبقى تُغرّد خارج السرب، بمعنى أنّها لم ولن تتنازل عن خيار المقاومة، أوْ بكلمات أخرى، عن خيار الكفاح المسلّح لتحرير فلسطين.

ولعل أهمية هذا البعد كامنة في مستويين: الأول، أنّ المعتقد الديني حتى حين تسييسه لم ينفصل لدى الجيل الشاب في حماس عن الواقع الوطني وضرورة النضال ضدّ الاستعمار الاستيطاني. والثاني: وهو التقاط القيادة الإخوانية في حماس لهذا الاتجاه واستثماره في مستويين هما: تنفيس غضب الجيل الجديد لأنّ الإخوان لم يشاركوا في مقاومة الاحتلال منذ 1967 وحتى 1989، واستثمار هذا النضال للوصول إلى السلطة، وهذا ما حصل في غزة. علاوة على ذلك، من الأهمية بمكان الإشارة في هذا السياق إلى أنّ الجناح العسكري في حركة حماس وجّه رسالة إلى مشعل في قطر، جاء فيها أنّ فلسطين تُحرر بالسلاح وليس بالأموال، وهذه الرسالة التي يُمكن اعتبارها خطوة مفصلية، أرادت من وراء الكلمات التي لم تُكتب القول والفصل إنّ المقاومين، الذي يتصدون للاحتلال الإسرائيلي، وهم نتيجة لذلك أوّل المستهدفين من قبل آلة حرب الدولة العبرية، أرادت القول إنّها لن تُذعن لأوامر مشعل والمجموعة التي يقودها، والتي ترتبط ارتباطاً عضوياً كاملاً مع حركة الإخوان المسلمين، لا بلْ أكثر من ذلك، إنّها تشكّل الفرع الفلسطينيّ لهذه الحركة، التي تقوم إمارة قطر بتمويلها، نكاية بالمملكة العربية السعودية، التي تدعم بالمال والسلاح والعتاد التيار السلفي الوهابي، وهنا ربّما المكان للتذكير بأنّ دراسة إسرائيلية أعدّها في أوائل شهر حزيران (يونيو) الجاري، مركز أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، وهو احدى أذرع المؤسسة الإسرائيليّة، إنْ كانت السياسيّة، وإنْ كانت الأمنيّة، أكّدت على أنّ دعم السعودية وقطر لهاتين الحركتين الأصوليتين لا يعني بأيّ شكلٍ من الأشكال، أنّهما حصلتا على الحصانة من محاولات الوهّابيين والإخوان من محاولة السيطرة الناعمة على مقاليد الحكم في هاتين المحميتين غير الطبيعيتين التابعتين كلياً للإمبريالية الأميركية وللصهيونية وزبانيتها وصنيعتها إسرائيل. لكنّنا نضيف هنا، أنّ مضمون الموقف الإسرائيلي هذا لا يخلو من خطاب مخفي وهو أنّ هذا التمويل السعودي والقطري حاصل على ضوء أخضر أميركي إسرائيلي لأنّه يهدف إلى ترفيه قادة حماس، وتراخي القبضة عن الزناد لدى المقاتلين، وهو نفس التكتيك الذي حصل مع حركة فتح حيث انتقلت من معادلة: سلاح ــ مال ــ سلاح، إلى مال ــ سلاح ــ مال.
■ ■ ■
الأزمة السوريّة أسقطت الكثير من الأقنعة، وفضحت العديد من عملاء الدرجة الممتازة وحتى العملاء من الدرجة الدنيا، الذين لم يألوا جهداً في شيطنة النظام الحاكم في دمشق، مستعينين بالغرب وبوكلائه في الوطن العربي لتفتيت هذا القطر العربي، الذي كان وما زال وسيبقى متمسكاً بخيار المقاومة لتحرير الأرض والإنسان، وكان التيّار الأكثر انتهازية في حركة حماس، وهو التيّار الذي يُمكن تسميته بالتيار الديني التجاري بقيادة مشعل، من أوائل المنشقين عن النظام السوري، الذي استقبل كوادره بعدما تمّ طردهم من المملكة الأردنية الهاشمية، بلْ واستقبل قيادة حماس بمن فيها مشعل بعد طردهم من الأردن إلى قطر ومن قطر إلى الشام، لم يُسعف النظام القوميّ في بلاد الشام ما قدّمه للمقاومة الفلسطينية، فقرار هذا التيّار بغدر سوريا لم يأت من فراغ، بل هو قرار إستراتيجي، اتخذ بناءً على تفاهمات، ولا نُريد القول إملاءات، أميركية وإسرائيلية، عبر قطر الصهيونية بامتياز، لتحويل البوصلة عن فلسطين، فمنذ متى كان يُرفع شعار المسجد الأمويّ أولاً، وبعد ذلك المسجد الأقصى، الذي يتعرّض لعدوان إسرائيلي مستمر ومنهجي، في ظلّ صمتٍ عربي وإسلامي يندى له الجبين، ومن ناحية أخرى، كيف لنا أنْ نؤمن بمشعل ومن لف لفّه بأنّه ما زال متمسكاً بخيار المقاومة لكنس الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وهو الذي التحف بعلم الانتداب الفرنسي، ولم يرف له جبين في غزة هاشم، التي دخلها بتصريحٍ من تل أبيب، عندما خاطب الشعب العربي الفلسطيني قائلاً إنّ حماس ستُحرر فلسطين من البحر حتى النهر. السؤال المفصليّ في هذه العجالة: هل خالد مشعل هو الذي يُمثّل حركة حماس؟ وهل البنادق ما زالت موجهة صوب العدو الصهيوني، الذي يُلاحق الضحية أينما وُجدت؟ وكيف يُمكن أنْ يُوجّه الصراع مع الكيان الاستعماريّ، إسرائيل، في الوقت الذي يخضع فيه مشعل للأوامر القطرية؟ وقطر تُقيم علاقات وطيدة ووثيقة ليس مع رأس حربة الإمبريالية في العالم، أميركا، إنّما مع العدو الإسرائيلي، تماشياً مع القرار العربي بمقاطعة هذا الكيان؟ من سخريات القدر أنّ السواد الأعظم من الدول العربية يُنفّذ بحذافيره قرار مقاطعة سوريا العربية، ومن الناحية الأخرى، يُقيم علاقات سرية وعلنية مع الدولة العبرية، التي زرعها الاستعمار البريطانيّ، يا أمّة الناطقين بالضاد، على أرض فلسطين!
■ ■ ■
أمّا بالنسبة للتيّار الثاني في حركة حماس، فهو الذي سطّر البطولات في دحر الجيش الإسرائيلي في العدوان الأخير على قطاع غزة، (تشرين الثاني (نوفمبر) 2012)، وهو الذي قام بضرب تل أبيب والقدس بالصواريخ، وخاض معركة باسلة في مواجهة العدوان الصهيوني، على الرغم من عدم تكافؤ القوى في جميع المجالات، وهذا النصر التكتيكي بامتياز، لما كان يتحقق لولا التسليح والدعم اللوجيستي الذي قدّمته إيران وسوريا وحزب الله للمقاومة في قطاع غزة، في الوقت عينه، التي كانت هذه الفئات تدعم المقاومة، كان مشعل، مرتمياً في أحضان قطر، التي كانت مشغولة من أخمص قدميها حتى رأسها، مع نظام الإخوان المسلمين في مصر، في التآمر على المقاومة ووقف الحرب، طبعاً بتوجيهات صارمةٍ من الإدارة الأميركية، المقاومة في غزة كانت تدفع بالدم، والشهداء يرتقون في ملحمة غزّة الأخيرة، وفي الوقت ذاته، كان مشعل في غرفة عمليات التخاذل والتواطؤ مع وكلاء أمريكا وإسرائيل في الوطن العربي، الشهداء كانوا يرتقون في غزّة، دفاعاً عن كرامة الشعب الفلسطيني، ومشعل كان يقبض الدولارات من أسياده الجدد في إمارة حمد. كما أنّ من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنّ الجناح العسكري في حماس يعلم علم اليقين بأنّه مع العدو الإسرائيلي لا يوجد في المُعجم مفردة مصالحة، ذلك أنّ هذا الاحتلال، يُريد الإجهاز كلياً على القضية الفلسطينيّة، بمساعدة قطر، التي لا تُريد تحرير فلسطين، إنّما تعمل على تحويل قطاع غزّة إلى هونغ كونغ، أيْ التشديد على الاقتصاد وتنميته، وهذه السياسة تتماشى وتتساوق مع السلام الاقتصادي الذي يطرحه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. بكلماتٍ أخرى، مشعل وتيّاره المدعوم من قطر، يُريد رفاهية السكّان، أيْ تحويل القضية الفلسطينية من قضية شعب سُلب وطنه إلى قضية اقتصادية. وهنا يكمن الخطر الكبير، لأنّ مواصلة السير على هذه الخطة، سيُوصل الشعب الفلسطينيّ إلى حالة من الفوضى الخلّاقة فكرياً، ومن غير المستبعد إغراقه بأموال النفط الملوثة، لصرف أنظاره عن تحرير فلسطين وتحقيق حلمه بإقامة دولته المستقلّة وعاصمتها القدس.
■ ■ ■
خلاصة الكلام: قد يرد أحد ممثلي النفط: وما العيب في ترفيه الفلسطينيين إذا كان هذا هدف قطر والسعودية؟ وردُّنا هو أنّ قطر ليس فيها سوى 12 بالمائة عرباً، وهي لا تعادل مدينة متوسطة الحجم، ومع ذلك فيها قطريين على حافة الجوع، ويصل من هم تحت خط الفقر في السعوديّة إلى 40 بالمائة. ومع ذلك ليس هنا مربط الفرس، بل في حقيقة أنّ ترفيه غزة، إنْ حصل، هو عملياً إبقاء أكثر من ستة ملايين لاجئ في الشتات.
* كاتب من فلسطينيي 48