من جديد نعاود طرح السؤال: لماذا يرتبط الانتفاض عضوياً بفكرة الكتلة الاجتماعية؟ تتفرّع عن هذا السؤال المركزي جملة من الأسئلة الفرعية: لماذا لا يحدث الانتفاض إلّا في مواجهة طبقة بعينها؟ على أيّ أساس تحصد احتجاجات تركيا هذا القدر من التضامن الشعبي في العالم، رغم أنّها أتت بفارق أسابيع فقط عن احتجاجات أخرى في العراق، لم يحدث أن لاقت الاهتمام ذاته؟ هل ستبقى الطبقة الوسطى هي قاطرة الانتفاض الأوّلي والحائل بينه وبين الوصول إلى الطبقات المفقرة المتمركزة في الأرياف وضواحي المدن؟ لو كانت هذه الأسئلة هامشيّة وغير متدخّلة في صياغة المشهد المنتفض حولنا لما وجدناها تنفجر في وجهنا كلّما قرّرت كتلة ما أن ترفع إصبعها في وجه الطبقة، أو السلطة التي تحكمها. كنت أعتقد شخصياً أنّ انفجارها في تركيا حتمي، لكن ليس بهذه السرعة، على الأقلّ، في انتظار أن يتبيّن الخيط الأسود من الخيط الأبيض في احتجاجات العراق. فجأة أيضاً وعلى بعد أيام فقط من الانتفاض التركي انفجر شيء ما في معان الأردنية، وصار لزاماً علينا بالتالي أن نطرح تلك الأسئلة بحدّة أكبر بكثير من طرحنا لها طوال الفترة الماضية. طبعاً، التقدير الأوّلي لما يحدث يفيد بأننا على شفا موجة ثانية ستكمل ما عجزت عن فعله الموجة الأولى. لا يتعلّق الأمر فقط بمجيء اليمين الديني إلى السلطة، بل كذلك بالطبقة التي أتاحت له أن ينمو ويتذرّع مرّة بالاقتصاد ومرّة أخرى بالمظلومية والحرمان من ممارسة السياسة. نعرف أنّ الكلام عن الطبقة التي تستخدم هؤلاء لا يناسب الخطاب الثقافوي السائد، فهذا الأخير يحيلنا دائماً على الاستقطاب الحاصل بين الاسلامويين والعلمانيين، ويستفيد أيّما استفادة من انخراط الطبقة الوسطى في الاحتجاجات للقول بغياب ملامح طبقية عن انتفاضها ضدّ السلطة. ينسى هؤلاء أنّ نجاح أيّ تحرّك في مواجهة السلطة مرهون بوحدة الطبقة التي تقوم به، وهذا بالضبط ما يحصل اليوم في تركيا، وما لم يحصل بالقدر نفسه في العراق. لم تحصد الاحتجاجات هناك نجاحاً كبيراً لأنّها افتقدت الانسجام الذي لا يوفّره شيء قدر ما تفعل الطبقة (وكذا وحدة الهدف الصراعي). قد يحيي السّخط الشديد على حكومة المالكي الطائفية والتابعة لإيران الاحتجاج بعض الوقت، لكنه لا يكفي لتحويل هذا الأخير إلى انتفاض قابل للاستمرار بوصفه صيرورة وفعلاً تصاغ عبره هويّة اجتماعية فعلية للجماعة السياسية. لو حصل هذا الأمر في العراق لما كان الناس قد «انفضّوا عن الاحتجاجات» بهذه السرعة، ولحصدت هذه الأخيرة قدراً أكبر من التعاطف إن لم يكن في المحيط البعيد، فعلى الأقلّ في المحيط القريب للعراق، وهو كما نعرف متعاطف بشدّة مع الكتلة التي همّشتها سياسات المالكي القمعية والطائفية. حتّى الإعلام المناوئ للاحتجاجات سيصبح مرغماً على التغطية عندما يلمس أنّ الأمر جدي، وغير قابل للتلاعب به كالعادة. لا يجري هذا الأمر غالباً بدون ربط الاحتجاج بجذره الاجتماعي، و«الاجتماعي» هنا ليس ضدّ الطوائف أو العشائر، ولكنه غير مؤهّل لنيل الإجماع الشعبي من غير إدماجها الكامل في فعل الاحتجاج. وعندما لا يحدث ذلك كما هو الحال في العراق يصبح من الطبيعي ألّا تستمر الاحتجاجات أكثر ممّا فعلت حتّى الآن. من لا يفهم ما معنى أن يكون الحامل الاجتماعي للاحتجاج ضدّ السلطة متماسكاً وقريباً من التحليل الاجتماعي – الاقتصادي لفعل التثوير فسيعجز عن استيعاب محدودية النموذج العراقي (وهو أخلاقي رغماً عن أنف المالكي ومن معه) وانعدام قابليته للانتشار أبعد بقليل من محيطه الجغرافي القريب. طبعاً، التحليل الثقافوي ينظر إلى الأمر من زاوية مختلفة كما سبق أن ذكرنا، ويقف عند الانقسام العمودي داخل المجتمع أكثر بكثير ممّا يفعل مع نظيره الأفقي.
أصحابه يرون أنّ احتجاجات العراق انحسرت لأنّها طائفية، لا لأنّها لم تتجذّر أفقياً بالشكل الأمثل، وهو بالضبط ما تحتاج إليه في مواجهة سلطة طبقية ونهّابة كسلطة المالكي. وكما يحلّلون احتجاجات العراق كذلك يفعلون مع الاحتجاجات في تركيا الآن. في اعتقادهم أنّها نجحت في توسيع رقعتها الجغرافية لأنّها قدمت نموذجاً مغرياً للناس، على اعتبار أنّها ذات طابع علماني، وهو كما نعلم الأكثر قبولاً لدى النّخب والطبقة الوسطى التي تسكن المدن. حتماً ثمّة صحة في هذا التحليل، وإلّا لما كانت الاحتجاجات قد انطلقت من المدن المحسوبة على الشطر الأوروبي من تركيا (إسطنبول، أنقرة، إزمير... إلخ)، غير أنّه يصبح عاجزاً - أي التحليل - عن فهم ما يحدث كلّما استمرّ فعل الاحتجاج أكثر، وكلّما أبدى مزيداً من الاستماتة في مواجهة بطش السلطة. بكلمة أخرى، يمكن التحليل الثقافوي أن يفهم سبب اندلاع الاحتجاجات، غير أنّه يغدو مضحكاً حين يردّ أسباب استفحالها وتمدّدها إلى جذر لا تتوافر في أغلبية الاحتجاجات التي اندلعت في العالم شروط استمراره. سيبقى مفهوم الطبقة الاجتماعية هنا هو المفتاح لفهم ما حدث وما لم يحدث إن في تركيا والعراق، أو في غيرهما من الأماكن المؤهّلة للانفجار عما قريب (وعلى رأسها الخليج المحتلّ كما ذكّرنا زياد الرحباني مشكوراً).
خذوا مثلاً مشهد حديقة «تقسيم». في ظرف أقلّ من أسبوع انتقلت الحديقة بمعيّة من يسيطر عليها الآن من ضفّة إلى أخرى. من ضفّة ممانعة السلطة وردعها عن هدم الأشجار فحسب إلى ضفّة بناء «سلطة» مضادة لا يصلح اتخاذ قرار في شأن الحديقة إلّا بعد الرجوع إليها. هي سلطة رمزية طبعاً، ولكنها تمتلك زخماً لم يكن ممكناً تصوّر وجوده لولا ارتباطه بالشرط الاجتماعي الذي هو في النهاية تعبير عن مزاج الطبقة الوسطى وطقوسها. سيكون أردوغان مضطراً من الآن فصاعداً إلى الإذعان لهؤلاء في كلّ ما يتعلق بمشروعه المستقبلي في ساحة «تقسيم».
معاندته لن تفيده في شيء، حتى لو استخدم الورقة التي يهدّد بها من حين لآخر (زجّ الكتلة الموالية له في مواجهة المحتجين)، فالأساس في الموضوع هنا هو عجز السلطة عن المواجهة لأنّها ستكون حينها إزاء طبقة عرفت كيف تتوحّد وكيف تواجه بطش النظام. لا تقدر أيّ كتلة على فعل ذلك من دون ربط ديناميتها بقوة الفعل الاجتماعي. وهذا ما لا يستطيع الخطاب النيوليبرالي بشقّيه الديني والعلمانوي فهمه. يستطيعون مثلاً أن يفهموا قوّة الرمز الكامنة في مقاومة العلمانيين الأتراك لمحاولات أردوغان «أسلمة الدولة التركية» تدريجياً، غير أنّهم يعجزون عن تفسير قدرة هؤلاء الشبّان والشابات على تحويل المقاومة تلك إلى اشتباك مستمر مع الواقع وتمثّلاته. لنجرّب قول ذلك بطريقة أخرى: من دون فهم كيفية تحوّل السلطة إلى مجموعة من الامتيازات الطبقية المرتبطة بأشخاص أو بكومبرادور محلّي وهو ما نواجهه في حالة تركيا (كما واجهناه سابقاً في سوريا ومصر وتونس) سيبقى تحليلنا أعجز من أن يلحق بما يحدث حقّا على الأرض. إذا كان الانتفاض في تركيا مرتبطاً كما يزعمون بتقنين تناول الكحول أو بالتضييق على الحريّات العامة والخاصة أو... إلخ فسيكون علينا حينها توقّع انتهائه في غضون أيام لا أسابيع. وهذا ما تحاول الصحافة النيوليبرالية التنظير له على أيّ حال. مثلاً قرأت قبل أيّام مقالاً في «الشرق الأوسط» السعودية (عبر وسيط الكتروني أخذ المقال عن الصحيفة الرديئة) لكاتبة تركية لا يعجبها أن ينضمّ بلدها إلى قائمة الدول التي يحدث فيها انتفاض من نوع معيّن. المقال يتعامل مع الاحتجاجات كما نتعامل مع الأوبئة عادة، ولا يفهم منه إلا تفضيله لنسق احتجاجي ناعم لا يؤذي السياحة ولا يتراجع في الوقت نفسه أمام السلطة في موضوع الأشجار! هكذا، يجري تقزيم انتفاضة اجتماعية عارمة ضدّ السلطة وامتيازاتها إلى مجرّد اعتراض على قطع أشجار، وإذا شاء هؤلاء «التماهي مع الاحتجاجات» فالأفضل أن تكون كما تعوّدناها في المنطقة، أي بلا دسم وبلا نيّة جدية في مواجهة السلطة. على هذا الأساس يجري التعاطي نيوليبرالياً مع الانتفاض الجاري في إسطنبول وأنقرة وباقي المدن التركية. وعلينا نحن في اليسار أن نظهر تهافت هذا الفهم، لأنّه تقريباً ذات الفهم الذي يجري تعميمه هنا في سوريا وكذلك في مصر وتونس، بغرض الفصل بين ما تتعرّض له السلطة وما يجب تجريعه للطبقة المسيطرة (تحالف الاحتكارات وأصحاب المصارف ومافيات الحرب والريوع النفطية وشركات إعادة الاعمار و... إلخ) التي هي الأساس في ما يصيب الفقراء - وكذا الطبقة الوسطى - من سحق هنا وهناك. علينا كذلك أن نفهم كيف يحدث هذا في تركيا الآن وبأيّ كيفية. فهناك لا يقود الفقراء الاحتجاجات، ولا يبدون اهتماماً يذكر بها، تماماً كما حدث في بدايات الانتفاضين التونسي والمصري، حين كانوا يقفون في خلفية المشهد.
أمّا من يفعل ذلك «بدلاً عنهم»، فهو الطبقة الوسطى التي لم يحدث يوماً أن تعرّضت للسحق من جانب السلطة الطبقية، إلّا إذا اعتبرنا المجزرة التي وقعت بحق العمّال عام 1977 من جانب قوات الجيش كذلك (وقعت في ميدان تقسيم بالتحديد!).
لنقل إنّها - أي الطبقة الوسطى - تستبق اليوم محاولات السلطة ابتلاعها، إذ نراها كيف تدفع بشبابها وبقواها الحيّة لمنع هذه الأخيرة من التحوّل إلى طبقة سيكون من وظائفها لاحقاً سحق أولئك الشباب بوصفهم يعبّرون عن شريحة بورجوازية وطنية لم يعد يحتاج إليها النسق الاقتصادي النهّاب الذي يحاول حزب العدالة والتنمية فرضه على الأتراك. يفهم من هذا أنّ الاقتصاد هو في صلب المشهد لا على هامشه، تماماً كما كان في صلب كلّ انتفاض حدث في السابق. وهذا يعني أنّ الفقراء الذين يمثلون قاعدة فعلية لحزب العدالة والتنمية حالياً سيكونون معنيين بما يحدث في تقسيم، على الأقلّ من باب انعكاسه على نسق «التنمية»، الذي تحقّق لتركيا منذ عام 2002.
قد لا يكونون مهتمّين مباشرة «بالبعد الثقافي» لانتفاضة الطبقة الوسطى هناك، لكنهم سيصبحون كذلك حين يتوسّع الانتفاض أكثر ويظهر محدودية نموذج «النمو الاقتصادي» الذي بشّر به أردوغان طوال السنوات الماضية. وهذا ما يحصل الآن في مصر وبمعيّة الطبقة الوسطى أيضاً، فمثلما جرّت هذه الأخيرة الفقراء إلى انتفاضها ضدّ مبارك وزمرته، كذلك ستفعل الآن قبيل أيام من دعوة مرسي إلى التنحّي - في يوم 30 حزيران المقبل -. دائماً كانت علاقة الفقراء والطبقات المسحوقة بالانتفاض مبنيّة على تفاعلات مماثلة، فبمقدار ما تظهر لهم هشاشة السلطة التي يصطفّون وراءها - ليس كلّهم طبعاً - يزداد استعدادهم للتخلّي عنها، وخصوصاً إذا ما كانت الدعوة إلى الانتفاض مسبوقة بتنظير اقتصادي يعرف كيف يحشد الطبقات المفقرة خلفه.
البعد الاجتماعي - الاقتصادي هنا يسير بالتوازي مع هواجس الطبقة الوسطى ولا يجبّها كما يحدث أحياناً في انتفاضات مماثلة. فنحن معنيّون بأن يكون الجميع يداً واحدة في إسقاط السلطة، ولو أخذ الأمر شكل تقسيم للعمل بين الفقراء والأقلّ فقراً. شيء من هذا حصل في الأيّام الثمانية عشر للانتفاض في مصر، حيث تولّى المهمّشون مهمّة الاصطدام المباشر مع أجهزة الأمن، بينما كان الطلاب والنشطاء والمثقّفون والحقوقيون يقفون خلفهم مباشرة كحائط للدعم والإسناد في حال نجحت السلطة الفاشيّة في تجاوز هؤلاء.
لا ينجح الانتفاض عادة من غير تطوير ديناميات مشابهة، فالعلاقة الجدليّة بين الاقتصاد والثقافة وبين الفقراء والأقلّ فقراً تتيح «للثورة» أن تتوسّع أكثر وتحرم السلطة مزيداً من خطوط الإسناد والدعم. حتّى الآن لم ينجح شباب تقسيم في فعل ذلك، لكنّ خطاب أردوغان المتصلّب والوقح سيقدّم إليهم مزيداً من الفرص لفعله. وفي الأثناء تتواصل الاحتجاجات تحت مظلّة الطبقة الوسطى وهواجسها. هواجس يطرب لها النيوليبراليون والانتهازيون على أنواعهم، ويستعملونها ذريعة لتبخيس التحليل الطبقي للانتفاض والحطّ من شأنه. صحافة النفط الشامتة على طريقتها بأردوغان وحزبه (عبر ذراعها «الليبرالية») تشهد على ذلك.
* كاتب سوري