بينما ترتفع أصوات المطالبة الوقحة بوقف مقاطعة العدو الإسرائيلي في لبنان، تحت عنوان «الحريّات»، من أوساط قوى تتدثّر بعباءة أنظمة من مخلّفات القرون الوسطى، وفي الوقت الذي يطالب فيه الفنّان الحسّاس زياد دويري الحكومة الفرنسية بالضغط على لبنان من أجل فرض منع مقاطعة العدوّ الإسرائيلي في لبنان باسم الحرية للصهيونية الفنية، وبينما تحوّل فريق 14 آذار إلى «لوبي» وقح وعريق للعدوّ الإسرائيلي في قلب الجسم السياسي اللبناني، وتعتنق أجهزة إعلام لبنانية بصفاقة لافتة العقيدة الصهيونية بكل عناصرها، تتكثّف في الدول الغربية وتتعاظم حركات مقاطعة العدوّ تحت اسم «بي.دي.إس.» _ في ترميز إلى حركة مقاطعة العدوّ وسحب الاستثمارات منه وفرض العقوبات عليه.
أي أن حركات سياسية غربية، انضم إليها أخيراً العالم البريطاني، ستيفن هوكنز، تنشط وتتعاظم ضد المقاطعة، فيما يفرض النظام العربي الرسمي (نظام تحالف قوى النفط والغاز) مصالحة شاملة مع العدوّ الإسرائيلي مع وعد وزير الخارجية القطري بتقديم المزيد من الأراضي الفلسطينية لإسرائيل كي تحتفظ بها كجائزة مكافأة لها على وداعتها. وفي لبنان، كالعادة، تبرز قوى تحاول أن تدفن إلى غير رجعة منطق المقاومة والمقاطعة أو حتى تقطيب الحواجب ضد إسرائيل. لهؤلاء، أجندة لم تختف في لبنان منذ عام 1948: هي عقيدة فؤاد شهاب الدفاعيّة التي تتحالف مع إسرائيل بالسرّ، وتخون عهد الدعم العربي للمقاومة (كان ذلك في سنوات الناصرية وليس اليوم طبعاً) في كل مفصل.
وحركة المقاطعة في الغرب تعتمد على تغييرات دراماتيكية في وجهات الرأي العام الغربي نحو الصراع العربي _ الإسرائيلي عبر العقود. فقد استفاق الرأي العام الغربي بصورة خاصّة من هول صدمة الحرب العالمية الثانية، والتي أهّلت واحتضنت دعاية صهيونية فظّة استغلّت فيها هول المحرقة الفظيعة لأسباب سياسية، كما شرح بيتر نوفيك في كتابه، وكما شرح بعده نورمان فنكلستين _ الذي خرج عن حركة المقاطعة رسمياً _ في كتابه. إن نسب تأييد العدوّ الإسرائيلي في الصراع العربي _ الإسرائيلي في دول أوروبا الغربية قد تغيّرت بصورة جذرية على مرّ العقود، إلى درجة أن فلسطين تحوز تعاطفاً أكثر من إسرائيل في الصراع، حسب استطلاعات رأي منشورة (باستثناء روسيا والتي يعبّر فيها الرأي العام _ والحكومة _ عن تعاطف مع إسرائيل، لكن إعلام الممانعة يعامل روسيا، حكومة وشعباً، على أنها نصير جورج حبش ووديع حدّاد). وحتى في ألمانيا، التي كانت نصيرة أساسية للعدوّ في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي أغدقت المليارات على إسرائيل وكأن في ذلك تعويضاً عن المحرقة، فإن التعاطف مع العدوّ يتناقص باستمرار لحساب دعم قضية فلسطين. لكن المفارقة الفظيعة _ وهذه معضلة (لا) ديموقراطية في النظم الغربية: إن الحكومات الغربية مُرتهنة في سياساتها الخارجية بالكامل للولايات المتحدة في مواضيع الشرق الأوسط بصورة خاصّة ولا تعبّر عن أهواء جماهيرها. وقد كرّرت القول للجمهور الألماني إنهم وهم يحتفون بما يسمّونه «الربيع العربي» يحتاجون إلى إطلاق «ربيع أوروبي» لتحسين شروط الديموقراطيّة هناك. (طبعاً، في أميركا الأمر مختلف، لأن سياسة الحكومة الصهيونية تتماشى مع صهيونية الرأي العالم الأميركي _ الذي على الأرجح لا يعرف إلى اليوم معنى الصهيونية ولا يستطيع تبيان موقع الشرق الأوسط على الخريطة).
تعرّفت في ألمانيا (خلال المؤتمر الذي أعدّه الرفيق عطيّة رجب وزوجته فيرينا) على سيّدة ألمانية يهودية ثرية تكرّس حياتها وأموالها لصدّ الدعاية الصهيونية في أوروبا ولدعم مقاطعة العدوّ. وقد قصّت السيّدة، إيفلين هيكت _ غالنسكي، علينا في حفل عشاء قصّتها. سألتُها ما الذي دفعها إلى مناصرة القضية الفلسطينية بهذه الحدّة لأن الأمر غير مألوف. روت أنها نشأت في كنف عائلة ميسورة، وكان والدها زعيماً للجالية اليهودية في ألمانيا بعد الحرب، وكان صهيونياً عنيداً وصديقاً للإعلامي الألماني الصهيوني، سبرنجر. قالت إن الأمر كان بسيطاً ومنطقياً بالنسبة إليها. نفرت باكراً من الديانة التي نشأت عليها ومن الجو الصهيوني الذي أحاط بها. سألتها: هل كان هناك حدث ما أثّر عليكِ في هذا الصدد؟ قالت: لا. تحوّلت يساريّةً في سنوات الدراسة، وكان من الطبيعي أن أنحو ضد إسرائيل. بالنسبة إليها، إن الغرابة هي الجمع بين الصهيونيّة واليسارية، لكن الياس عطا الله جمع بين الحريرية ونسق طائفي غريب من اليسارية، فلمَ العجب؟ لكن إيفلين مجهولة في العالم العربي ربما، لأن الإعلام العربي مشغول هذه الأيام بثدييْ أنجلينا جولي، واللذين نالا من التغطية أكثر مما ناله الشعب السوري في معاناته. إيفلين هيكت _ غالنسكي لا تحظى باهتمام السفارات العربية في برلين، لأنها مشغولة _ أي السفارات _ بالتملّق للصهاينة ولأميركا. لكن قصّة إيفلين ضرورية كي يتعرّف العرب على بعض الغربيّين لأن التعميم النمطي ضد الغربيّن وحتى ضد اليهود منهم يتجاهل حقيقة الواقع الغربي بصرف النظر عن المعايير الأخلاقية (ومن الصدف أن المعتوه الذي طعن أستاذاً جامعياً أميركياً في القاهرة، لم يدرك أن ضحيّته، الرفيق كريس ستون، هو مناصر عنيد للقضيّة الفلسطينيّة في أميركا وناشط ضد الصهيونية). إن إيفلين اليهودية _ على الأقل في المولد _ أكثر نشاطاً ضد العدوّ الإسرائيلي في ألمانيا من سفير السلطة الفلسطينية المتوائم مع إسرائيل بحكم منصبه.
والحديث عن المقاطعة حديث طويل ويحتاج إلى نقاشات نظرية وعملية. وقد ألقى الرفيق جوزف مسعد في المؤتمر كلمة عن تاريخ الصهيونية وعن تعاونها مع النازية. نشر جوزف الكلمة على موقع «الجزيرة» الإنكليزية قبل أن تسحب إدارة الموقع المقالة بعد أيّام فقط نتيجة الضغوط الصهيونية التي تعرّضت لها (يزداد تملّق الحكم القطري لإسرائيل ليس فقط بسبب تنسيق السياسات حيال سوريا، بل أيضاً لفتح أبواب أميركا الصهيونيّة أمام شبكة «الجزيرة» الجديدة في أميركا). لكن كلمة جوزف لم تُقابل بالاعتراض في البلد الذي وقعت المحرقة على أرضه، صهاينة أميركا يريدون أن يتستّروا على العلاقة المشينة بين القيادة الصهيونية والدولة النازية. استغلّوا لقاءً أو لقاءين بين الحاج أمين الحسيني وهتلر، ونشروا عدداً من الكتب عن هذا اللقاء وجعلوا من الحاج أمين _ لا بل جعلوا من الشعب الفلسطيني برمّته _ مسؤولاً أخلاقياً وحتى قانونياً عن فعل المحرقة. مسموح لهم ذلك، لكن فضح العلاقة بين الصهاينة والدولة النازية من المحرّمات. وعندما نشر ليني برينر، وهو اليهودي الأميركي، كتابه عن العلاقة بين الطرفيْن، تعرّض لشتى التهم وصُنّف _ كعادة صهاينة الغرب _ كـ«يهودي كاره لذاته». كما أن جوزف تحدّث عن العداء للسامية من قبل المسؤولين الصهاينة في الغرب ليس كأمر عرضي _ مثل حالة اللورد بلفور الذي كان مُجاهراً في 1905 بمعاداته لليهود، فيما أصبح اسمه في ما بعد متلازماً مع صعود الحركة الصهيونيّة _ بل كدافع مهم في تحفيز قادة الدول في الغرب على دعم الحركة الصهيونية، وينطبق هذا على فرانكلين روزفلت وعلى هاري ترومان، والاثنان كانا من كارهي اليهود.
لكن حركات مقاطعة العدوّ في أوروبا تختلف من بلد إلى آخر. تنمو باطّراد في بريطانيا: لمست ذلك عن كثب العام الماضي عندما جلتُ في الجامعات البريطانية للمحاضرة ضد وجود إسرائيل بحدّ ذاته. لكن هناك فروقات إقليمية: اسكتلندا، مثلاً، أقرب إلى مثال الدولة التي تُجمع على مقارعة إسرائيل وعلى رفضها بالمطلق. في جامعة أدنبره، علمتُ أن تلميذة زارت إسرائيل لأيّام تعرّضت للتشهير في الجامعة وتعامل معها أترابها بازدراء. وفي إيرلندا، تنشط حركة المُعارضة في الجامعات، ويرى الجمهوريّون توازياً بين نضالهم ونضال الشعب الفلسطيني (زار الرفيق الأسير المُحرّر، جبر وشاح _ وكان معنا في مؤتمر شتوتغارت _ إيرلندا، وهو يفكّر في إقامة صلات قويّة بين الحركة الوطنية الفلسطينية والجمهوريّين الإيرلنديّين). لكن هناك ما لفتني: لماذا تستقطب حركة المقاطعة في بريطانيا الشباب والشابات، فيما كان معظم حضور مؤتمر المقاطعة في شتوتغارت من الشيوخ؟ لكن هناك ما هو مؤلم: لماذا بات الحضور العربي في مؤتمرات مقاطعة العدوّ أو حتى في تظاهرات عن فلسطين هزيلاً أو معدوماً؟ لماذا تركنا القضية الفلسطينية للفلسطينيّين وحدهم وهم عرضة للاحتلال والقمع والشتات؟ لم تعد تجد في المناسبات الفلسطينيّية في الغرب إلا غربيين وغربيات وفلسطينيّين وفلسطينيات، وعدداً قليلاً من اللبنانيّين الشيوعيّين والشيوعيات والقوميّين السوريّين. كم أخجل عندما ألتقي بغربيّين حريصين على قضيّة فلسطين أكثر من الكثير من العرب.
لكن الراحل إلياس شوفاني شرح ذلك في سيرته: كيف أن عرفات ومحمود عبّاس في السبعينيات، وتحت شعارات زائفة عن استقلالية القرار الفلسطيني (الذي رهنه عرفات مقابل المال عند آل سعود)، تقصّدا فصل العمل الطلابي العربي عن العمل الطلابي الفلسطيني. كان النشاط العربي في المهجر الغربي حتى السبعينيات ينضوي تحت لواء التنظيمات الطلابية العربية. لكن عرفات عزل الفلسطينيّين، فخسر التضامن العربي الشعبي وما كسب ذرّة من استقلالية القرار الفلسطيني المزعوم. وكان وجود سفير سلطة رام الله في المؤتمر في شتوتغارت مثيراً للاعتراض في المؤتمر، وقد اعترضت أنا والرفيق جوزف عليه. وأنا _ ومن أنا، صراحةً _ أطالب بتطبيق مبدأ المقاطعة على سلطة أوسلو التي ليست أكثر من ذراع ضاربة للاحتلال الإسرائيلي. والعدوّ الإسرائيلي يتدخّل في وساطة مع أميركا دورياً لإنقاذ السلطة من الانهيار عبر حثّ دول النفظ والغاز على تنفيذ مشيئة إسرائيل بتعويم النموذج الفلسطيني عن جيش أنطوان لحد. ما عاد مقبولاً وجود أي ممثّل لسلطة أوسلو، ولو كان ابن حيدر عبد الشافي، في أي تجمّع لمقاطعة العدوّ. ما كان ممكناً أن يدعو تجمع للمقاومة الفرنسيّة ضد الاحتلال النازي ممثّلين عن سلطة بيتان. إن مقاطعة العدوّ تسري على إسرائيل وعلى السلطة التي نصّبتها كذراع لها في الضفة الغربيّة. كما أن سلطة سلام فيّاض تحاول تمييع المقاطعة عبر إدراج مفهوم مشبوه للمقاطعة يفصل بين مقاطعة المستوطنين ومنتجاتهم وبين مقاطعة إسرائيل بحدّ ذاتها.
لكن أجندة حركة المقاطعة تحتاج إلى نقاش عاجل: آن الأوان كي يتبلور إجماع حول تحرير كل فلسطين (وهناك موضوع يحتاج الى نقاش منفصل عن الفارق بين شعار تحرير فلسطين وشعار الدولة الواحدة، وأنا أشتبه بالشعار الأخير) كي ينتهي التمييع المقصود في الهدف المنشود وذلك من أجل جذب عدد أكبر من المناصرين والمناصرات. إن الجمع المُنفّر بين جماعة (لا) حلّ الدولتيْن وبين جماعة الدولة الواحدة وبين جماعة تحرير كل فلسطين (أو تحرير كل ميليمتر مربّع من فلسطين، على قول الراحل العظيم جورج حبش) يحمل تناقضات حبلى بالتفجّر في أي وقت. إن تماسك الحركة حول شعارات وأهداف منسجمة مع الميثاق غير المُعدّل لمنظمة التحرير الفلسطينيّة أهم من حجم الحركة، وخصوصاً إذا جذبت إليها أعداء لهدف التحرير.
لكن هناك جدليّة معكوسة في العلاقة بين تنامي حركة المعاطعة في المهجر، وازدياد فرض التطبيع في العالم العربي من قبل ليس فقط الحكومات، وإنما من قبل منظمات المجتمع المدني التي تتلقّى التمويل الأوروبي والأميركي. إن كل الدعم المالي الأوروبي والأميركي وذلك الصادر عن الأمم المتحدة له أفق تطبيعي: ليست المطالبات بـ«السلام» وإطلاق أغنيات «السلام» وإقامة ندوات وورش عمل (ما أبشع بعض الترجمات العربيّة عن لغات أجنبيّة مثل «ورش عمل» أو «تطبيقات» على الهاتف (من دون بصل) وكأن اللغة العربيّة فقيرة بالمفردات وتحتاج إلى ترجمات حرفيّة متحجّرة من قبل عاملين وعاملات من أصول عربيّة يعملون في الغرب ويستعينون بالقاموس من أجل وضع مفردات تقنيّة بالعربيّة) عن ثقافة السلام. وهناك ما هو جديد: محاولة تسويق التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي تحت شعارات ليبراليّة عن «قبول الآخر» أو عن حريّة التعبير وكأن حريّة التعبير مكفولة في العالم الغربي ضد أعداء تلك الدول.
هذه ليست الأيام الذهبية للحركة الصهيونية. في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، كان نجوم هوليوود يتسابقون لإقامة حفلات جمع تبرّعات لإسرائيل. كان ذلك زمن وهج فيلم «الخروج» المبني على قصّة الصهيوني العنصري، ليون أورس. اليوم، إن معظم دعم إسرائيل في هوليوود هو سرّي أو مبني على بيانات تصدر عن اللوبي الصهويني ويُطلب من الفنانين اليهود التوقيع عليها. لكن لا نذهب بعيداً هنا: لا تزال أميركا، حكومة وشعباً، صهيونية وعنصرية ضد العرب والمسلمين. غير أن تغييراً حقيقياً حدث في الغرب وأثمر تنشيطاً في حركة مقاطعة إسرائيل ومناهضتها.
لكن حركة المقاطعة ليست بديلاً _ كما كرّرتُ في ألمانيا _ من مقاومة العدوّ. إنها تترافق معها وتكمّلها ولا تستبدلها. مقاومة العدوّ تتخذ عدداً كبيراً من الأشكال، تحدّث ميثاق منظمة التحرير القديم عن وسائل متعدّدة من النضال لتحرير فلسطين. المعادلة معروفة في كل نماذج مقاومة الاحتلالات الأجنبية. لكن الصهيونية، التي شنّت حملة مقاطعة ضد ألمانيا في الحقبة النازية (وحتى بعدها) تريد اليوم وبأفواه وأقلام عربية أن تجعل من مقاطعة إسرائيل صنو الكراهية ومعاداة اليهود. ولبنان، كعادته، يحتضن حركة صهيونية ناشطة تبدأ من المطالبة بنزع سلاح مقاومة العدوّ ولا تنتهي بطلب إهمال مقاطعة العدوّ في الثقافة والفنّ. غير أن المقاطعة تنمو وعليها أن ترفد المقاومة العسكرية ضد إسرائيل _ هذا إذا عاد المقاومون الفلسطينيّون إليها، وخصوصاً أن حركة «حماس» تستمتع بالسلطة (غير الحرّة والمحاصرة) أكثر مما استمتعت من تجربتها الفاشلة في المقاومة العسكرية.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)