لطالما وُصفت العلاقات بين تركيا وإيران بالعلاقات «المستقرة». على المستوى الإقليمي، العلاقات الإيرانية التركية تمتّعت بمسار تنافسي طغى عليه التفاهم الإقليمي في العديد من الملفات، لكنها تحولت مع الربيع العربي إلى علاقات متوترة ومتعارضة. ماذا تغيّر في النظرة الاستراتيجية التركية التي تحولت عن استراتيجية «تصفير المشكلات»؟
العلاقات بين التعاون والتنافس

اتسمت العلاقة بين تركيا وإيران قبل الثورة الإسلامية (1979) بالبعد الأمني الذي ما لبث أن انقطع مع انتصار الثورة، وحُلَّت منظمة الميثاق المركزي بعد انسحاب إيران وباكستان منها.
توجس الأتراك من تصدير الثورة الإسلامية إلى تركيا، لكن هذه الأخيرة نأت بنفسها عن حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران 1980، وتخوفت مع الاحتلال الأميركي للعراق (2003) من إنشاء الأكراد لدولة في شمال العراق تهدد أمنها، ما دفعها إلى توثيق تحالفها مع إيران.
تطوّرت العلاقات التركية – الإيرانية بعد تولي حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا عام 2002؛ إذ تجاوز حجم المبادلات التجارية بينهما عام 2008 خمسة مليارات دولار، بعد أن كان قد وصل إلى مليار ومئة مليون دولار عام 2001، وشمل التعاون الاقتصادي تصدير الغاز الإيراني إلى تركيا والتعاون من أجل الطاقة.
لم يعكس هذا التقارب الاقتصادي تقارباً سياسياً؛ إذ لكل دولة مشاريع إقليمية مختلفة، ولا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وخصوصاً في منطقتي آسيا الوسطى والقوقاز وأخيراً منطقة الشرق الأوسط.
لكن رغم هذا التنافس بينهما، تبقى منظمة التعاون الاقتصادي (1985) من أهم عوامل تقاربهم، حيث تمثل منطقة تركيا - إيران ومجموع أعضاء المنظمة تجمعاً متماسكاً جغرافياً، يمتد من الهند والصين شرقاً إلى أوروبا غرباً، ومن جنوب روسيا شمالاً إلى الخليج العربي وبحر عمان جنوباً. وقد ظهرت كل من تركيا و إيران في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز كقوى إقليمية، وحاولتا تسويق نموذج دولتيهما في المنطقة على أنه الأصلح، باستعمال العوامل كافة: التاريخية والقومية والمذهبية والعرقية والثقافية.
المصالح التركية في ميزان الملفين النووي والدرع الصاروخية
رغم معارضتها لانتشار السلاح النووي في منطقة الشرق الأوسط، حاولت تركيا التوسط بين الطرف الغربي الذي يرى في العقوبات وسيلة رئيسية في معالجة الملف النووي الإيراني، لكن محاولتها باءت بالفشل. لكنها، في الوقت عينه، ترى أن البرنامج النووي الإيراني يمكنه أن يؤدي إلى اختلال موازين القوى لمصلحة إيران، ما حملها على أداء دور الوسيط مع الغرب لتسوية نووية تضمن لها حماية مصالحها وأمنها القومي وتوازن القوى الإقليمي، إلا أنّها رفضت المشاركة في العقوبات التي تُفرض على طهران لأنها تؤثر عليها اقتصادياً.
جاءت الموافقة التركية على نشر الدرع الصاروخية في مؤتمر لشبونة عام 2010 بمثابة عودة الحياة مرة أخرى إلى المشروع الأطلسي، لكن تفعيل الموافقة التركية على قرار نشر الدرع في الأراضي التركية في سبتمبر/ أيلول 2011، الذي يستهدف في الحقيقة كلاً من إيران وروسيا، كان له مقابل، هو حصول تركيا على دور أكثر نفوذاً وتأثيراً في العالمين العربي والإسلامي بموافقة أميركية أوروبية. هذه الخطوة أزعجت طهران، لكونها تضرب عرض الحائط بهامش المناورة السياسية، أما من الناحية العسكرية، فنشر الدرع من شأنه «تطويق» إيران وشلّ حركة دفاعاتها الصاروخية في مواجهة خصومها، ولا سيما إسرائيل، ما حملها على مطالبة تركيا بضرورة إعادة النظر في
سياستها.

بماذا بررت تركيا هذا القبول؟

1ــ مواجهة ازدياد المخاوف من تطور الأوضاع التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، ومن وجودها في منطقة محاطة بدول تمتلك قدرات نووية كروسيا وإسرائيل، بالإضافة إلى اقتراب طهران من استكمال برنامجها النووي.
2ــ تعزيز موقعها في المنظومة الأطلسية من الناحيتين السياسية والعسكرية، ما سيكون له مردوده؛ لأنه سيرفع من قدرة تركيا على التأثير في تلك المنظومة بوصفها دولة ذات موقع جيواستراتيجي.
3ــ اقترابها من الولايات المتحدة في هذا التوقيت بالذات، ولا سيما بعد مواقفها من التغيير في العالم العربي وبالتحديد في سوريا، فقبل الثورات العربية كانت العلاقات التركية - الإيرانية - السورية علاقات تعاونية انعكست عبر اشتراطها بعدم تسمية إيران كدولة مستهدفة من قبل المنظومة الأطلسية الدفاعية.
جميع هذه المبررات تقودنا إلى الاستنتاج أن تركيا كانت تُعدّ نفسها لأداء دور محوري في الشرق الأوسط بمساندة حلف شمالي الأطلسي.

إيران وتركيا أمام تغييرات استراتيجية

سعت كل من تركيا وإيران إلى تقديم نموذجها على أنه النموذج الإسلامي الأمثل مع الربيع العربي. كذلك شكّلت القضية الفلسطينية أحد المرتكزات الأساسية في هذه الرؤية. حاولت تركيا تقديم نفسها للعالم العربي والإسلامي بعد الربيع العربي بأنها:
1ــ المظلة السنية الرئيسية للقوى الإسلامية المضطهدة في دول الربيع العربي.
2ــ قدمت النموذج التركي كنموذج للإسلام العلماني، الذي بإمكانه أداء دور الموازن الإقليمى لإيران الإسلامية الراديكالية.
3ــ أنها تحمل لواء الاعتدال في ظل توجس الغرب من المنظمات الإسلامية الرديكالية.
4ــ وظفت تحولها في العلاقة مع إسرائيل من صديق استراتيجي إلى معارض بارز لسياستها تجاه قطاع غزة منذ أواخر عام 2008، بعد أن اعترفت بحركة حماس (2006) وحقها في الحكم والمفاوضات.
5ــ حاولت أداء دور معادل للدور الإيراني الممانع للسياسة الإسرائيلية التوسعية، واستثمرت حالة إظهار العداء لإسرائيل استثماراً سياسياً على الساحة العربية.
6ــ أظهرت أنّ بإمكانها فتح باب المفاوضات مع إسرائيل، فيما لا يمكن إيران سوى تقديم الممانعة دون حلول تذكر.
7ــ أظهرت رغبة في الاستثمار الاقتصادي في مصر وغزة وكردستان العراق، في محاولة لجذب قطاعات واسعة من المهتمين.
لكن التضارب في مواقف تركيا قاد إلى مجمل تساؤلات عن كيفية تسويق هذا النموذج ورعايته للقضية الفلسطينية، وفي الوقت نفسه نشر الدرع الصاروخية الذي يُعَدّ الحجر الأساس في الاستراتيجية الأطلسية التي تستهدف حماية أمن إسرائيل من ناحية، وتقويض إيران من ناحية ثانية، ولا سيما أن التوترات الإسرائيلية التركية وقفت كما العادة عند حدّ معين، بعد الخلاف الذي نشأ على خلفية مهاجمة سفينة «الحرية» عام 2010 التي كانت متوجهة إلى غزة. صحيح أنّ القطيعة السياسية مع إسرائيل كانت مدوية، لكن الخطين التجاري والعسكري لم ينقطعا؛ فكلا الطرفين يحتكم إلى مرجعية واحدة هي الولايات المتحدة، التي قام رئيسها باراك أوباما برأب الصدع بين البلدين، وطلب من نتنياهو الاعتذار لأسباب استراتيجية وإعادة تطبيع العلاقات بينهما، ولا سيما أن إسرائيل قامت بتمتين علاقاتها باليونان وقبرص، فضلاً عن انفتاحها في العلاقات مع أرمينيا وأذربيجان ردّاً على سلوك تركيا حيالها. تطرح هذه المعطيات تساؤلات عن التحالفات الجديدة في المنطقة، التي تشكّل محوراً في وجه إيران التي متنت علاقتها بروسيا والصين.
أما في الشأن العراقي، فبعد أن كانت تركيا وإيران متفقتين على أنّ حالة من الفوضى في العراق ستؤثر بالسلب على الجانب الأمني لكلا الطرفين بعد الانسحاب الأميركي، إلا أنّه بعد هذا الانسحاب، طرحت تركيا نفسها حامية لحقوق السنّة. هذا الأمر عدّته إيران والحكومة العراقية تدخلاً في شوؤن العراق، ولا سيما بعد ما أثيرت أزمة استثمار خط النفط المباشر من كردستان العراق إلى تركيا دون المرور بموافقة بغداد على أثر توسيع العلاقات بين الطرفين سياسياً وتجارياً، الأمر الذي حمل الولايات المتحدة للضغط على حليفها التركي الذي مدت له يد العون مرة أخرى في ضمان نجاح التفاوض مع حزب العمال الكردستاني، ما يضمن الحدود التركية من هجمات الأكراد على أثر محاولة النظام في سوريا استعمال الورقة الكردية ضد التدخلات التركية، لكن هذا الأمر لم يمنع بغداد من الاعتراض على انسحاب مقاتلي حزب العمال إلى كردستان العراق وطرح تساؤلات عن أبعاد هذا الانسحاب، ولا سيما أن واشنطن لا تريد إشعال الجبهة العراقية - التركية في ظل الصراع الحاصل في سوريا. للمرة الثانية، أسهم التدخل السياسي الأميركي في ترشيق المشكلات من حول تركيا.

سوريا: الصراع الإيراني - التركي

إذا كانت الانتفاضات في تونس ومصر قد أتاحت لحزب النهضة تسلّم السلطة، فإنها في مصر قد أدت إلى تبوّء الإخوان المسلمين مقاليد الحكم، ما عزز حظوظ الإخوان المسلمين في سوريا ـ بنظر أنقرة ـ في حكم سوريا، عبر الطلب من الرئيس بشار الأسد تخليه عن صلاحياته لنائبه السنّي بعد بدء الحراك الشعبي فيها. فوجئ الإيرانيون بموقف أنقرة من الأزمة السورية ومدى تدخلها وبتحالفاتها القطرية – الخليجية – الغربية. لقد كشفت الأزمة السورية استراتيجية أنقرة الجديدة، ووقوفها في وجه محور الممانعة. بل هناك مخاوف إيرانية من أن يؤدي الأتراك الدور نفسه حيال طهران إذا ما تعرضت إيران لأحداث مشابهة للأحداث السورية، ولا سيما أنها بعد اضطرابات انتخابات عام 2009 تخشى من تحركات مشابهة في انتخابات حزيران المقبلة. لقد أملت إيران تشكيل منظومة إقليمية حيال الأهداف الأميركية والإسرائيلية في المنطقة تضمّ إلى جانبها تركيا وسوريا ولبنان.
إنّ ضبط «شحنات أسلحة» إيرانية كانت في طريقها إلى سوريا وفرض أنقرة إجراءات تفتيش صارمة على أكثر من طائرة إيرانية لنفس الغاية أدت إلى توتر في العلاقات الإيرانية التركية إلى حدّ كبير. فإيران لن تقف متفرجة على التطورات العسكرية السورية، واتضح أنّ علاقة طهران ومصالحها الاستراتيجية مع دمشق تفوق في أهميتها علاقتها ومصالحها مع أنقرة، حيث تعتبر سوريا ركيزة استراتيجية هامة، ومما زاد العلاقات تعقيداً موقف بعض قيادات حماس على خط العداء للنظام السوري، ووقوفهم في الجانب التركي.
تشمل الرعاية التركية للمعارضة السورية، إلى حدود قصوى، التدريب والاحتضان السياسي والعسكري، لكنها لا تستطيع التدخل العلني العسكري. فصورة تركيا لدى العالم العربي اهتزت من رمز الإسلام المعتدل المتقدم اقتصادياً والقوي عسكرياً، إلى دولة الوكيل ذات الأطماع.
لقد نجحت الرؤية الإيرانية الأشدّ تشاؤماً، التي ترى أن الدور التركي في الأزمة السورية هو دور «الوكيل» الأميركي لتحقيق هدف أساسي، يتمثل في فصم عرى التحالف الاستراتيجي الإيراني - السوري، وما يرتبط به من مواقف تنسيقية في ملفات الشرق الأوسط سواء العراق أو لبنان أو فلسطين. لا شك في أن دعم الغرب لرجب طيب أردوغان في وجه الجيش، والسكوت عن اعتقاله للصحافيين ودعم النظام الرئاسي الذي يحلم به عام 2014 له أثمان باهظة. فهو وضع النموذج التركي الإسلامي السني في مواجهة النموذج الإيراني الذي أعطى رجال الدين دوراً مؤثراً في النظام السياسي، وتفعيل دور ولاية الفقيه في دعم التيارات الشيعية في العراق والخليج العربي ولبنان وموقفها من إسرائيل، ونزوعها إلى أن تكون قوة إقليمية فعالة. أما القضية الفلسطينية، فإنها تشكّل بالنسبة إليها مدخلاً إلى توازن القوى مع إسرائيل من أجل انتزاع حقوق عادلة للفلسطينين، ما يُعَدّ مكسباً استراتيجياً لدولة طموحة إقليمياً.

العلاقة بين الخسارة والربح

تمرّ العلاقات بين تركيا وإيران بمرحلة صراع، كل يحاول نزع أوراق الآخر الإقليمية. فشل سياسة تصفير المشكلات التركية مع الجوار الإقليمي، اضطرها إلى إعادة صياغة رؤية سياسية خارجية جديدة. لقد أمّنت الداخل الكردي، ولو إلى حين، وهي تطبّع مع إسرائيل. أما الأزمة مع العلويين والقوميين الأتراك في الداخل، فما زالت قائمة. والمعارضة التركية ترمي باللائمة على حكومة أردوغان، وتعدّ تدخله في الشأن السوري بمثابة فشل للسياسة التركية التي طالبت بالديموقراطية، وتتحالف في حربها ضد النظام السوري مع الإسلام الراديكالي وأنظمة خليجية ملكية وغير ديموقراطية. أما مطالبته بالتدخل الغربي فلم يجد نفعاً.
أما إيران، فقد تكيّفت إلى حد كبير مع المتغيرات الإقليمية الجديدة. ما هي حسابات الأرباح والخسائر للطرفين في ظل تطورات الأوضاع في المنطقة؟ إيران لديها القدرة على التكيف دائماً مع مشاكل عدم الاستقرار داخلياً وإقليمياً. ومع تفاقم الأوضاع الصعبة بتأثير الثورة السورية، لا يزال بإمكانها التلاعب بخيوط تلك الأزمة وتصعيدها في حالة التدخل الأجنبي.
أما في الشأن الفلسطيني، فهي ما زالت ممسكة بخيوط عدة داخلية وخارجية، إن بالنسبة إلى حزب الله أو العراق، فأوراقها رابحة، أكان من أجل دعم سوريا أو من أجل الوقوف في وجه التدخل التركي في العراق. أما علاقتها مع مصر فهي في تحسن مطّرد، رغم تحفظات البعض في الداخل المصري، لكن لديها الأصدقاء وعلاقات اقتصادية وتجارية كما لتركيا أصدقاء تحت مسميات عديدة، منها الإسلام السني المعتدل والعلاقات الاقتصادية. تحاول إيران أن تعكس علاقات ودّ مع الأردن، فتعرض المساعدة الاقتصادية وترنو إلى عدم التدخل الأردني في الشأن السوري. تبقى تركيا البوابة نحو نمو علاقات إيران بالغرب، وهي تؤدي دور الوسيط من حين إلى آخر، وهي دون شكّ بوابة اقتصادية تجارية واسعة بالنسبة إلى إيران. الصراع على سوريا هو العنوان العريض، ومآل هذا الصراع سيكون هو المحدد الرئيسي لنمط توازنات العلاقة بين القوتين الإقليميتين.
* أستاذة وباحثة في الاجتماع السياسي