ربيع العرب الذي أزهر تحت خيام بلاستيكية أميركية تتكشف حقائقه يوماً بعد يوم، ليتبيّن أن الجزء الأعظم من نباته مصطنع. الثمار الهجينة التي أنتجها هذا الربيع لا تشبه بشيء ثمار الشرق الربيعية التي نعرفها. وطعمها بادية فيه نكهة المواد الحافظة والمسرطنة، وأسمدة أوباما الكيميائية.
حفلة الجنون الدموية هذه الرقص فيها إجباري، لكنه رقص على الدماء، الراقص هنا قاتل أو مقتول. والكتابة عنها تجبر الكاتب على غرس قلمه في قلبه ليكتب الحقائق، أو في وعاء نفط ليكتب ما يريد الأميركي تثبيته كحقائق لا تقبل الشك.
بات جلياً لكل صاحب عقل غير مشبع بأشعة العم السام السامّة أن الربيع العربي ما هو إلا حرب على الطريقة الأوبامية، تفوق حرب بوش وحشيةً وقسوة. حرب أميركية بقفازات عربية تركية إسلاموية اختيرت أدواتها من جلد أبناء المنطقة، واستحضرت مبرراتها من تاريخهم المليء بالصراعات منذ داحس والغبراء، ومنذ بدأت حروب المسلمين على أنفسهم وضد دينهم، كما استحضرت أسوأ فئاتهم لتتصدر المشهد على نحو يوحي للعالم برسالة واحدة مفادها: نحن المسلمين تكفيريون لا نقبل الاختلاف فيما بيننا، ولا نقبله بطبيعة الحال مع غيرنا، نحن الأكثرية لذلك سنحكم وسنقطع الرؤوس، ولدينا الكثير من النفط، تعالوا علمونا الديموقراطية.
غير أنّ أوباما بات يدرك أيضاً أن كمية الدماء التي أسالها في أرض العرب نفذت إلى يديه على نحو لم يعداً ممكناً معه التنصل من دوره في افتعال المذابح، كما بات مدركاً أن الانسحاب من هذه الحرب سيكون أشد وقعاً من الانسحاب من حروب بوش في أفغانستان والعراق، وأن خسائره ستكون أكثر فداحةً لأنها لن تقتصر على انهيارات مالية كما حدث عام 2008، بل ستشمل موقع بلاده في النظام الدولي. لأن هذه الحرب أصابت برصاصها الطائش ما بقي من ثقة بين القوى الكبرى، هي كما يراها العالم حرب تذاكٍ على الدول الخمس صاحبة أفضلية النقض في مجلس الأمن. ذلك أن التذاكي على العرب وحدهم غالباً ما يمر بيسر ودون عواقب (القضية الفلسطينية).
أليس غريباً أن يوجه الربيع أشواكه إلى مكامن قوة الأمة؟ أليس مريباً أن يقدم الربيع وروده قبل تفتحها وعوداً وتطمينات إلى عدو الأمة؟ لماذا تبدو جهود أنظمة الربيع منصبّة على تعطيل المقاومة الفلسطينية؟ لماذا تبدو ساعيةً على نحو حثيث لإرباك المقاومة اللبنانية؟ لماذا يبدي ثوار الربيع اهتماماً فائقاً بغيوم الصيف من الخلافات العربية والإسلامية البينية، أكثر مما يبدون جهداً في معالجة مخلفات عواصف الخريف والشتاء الأميركيين في المنطقة، التي فككت العراق وقسمت السودان وتآمرت على فلسطين ولبنان قبل سوريا؟
وما معنى أن تتكشّف خطة أعدت لربيع لم يزهر في كوبا، وشهادات عرضتها «الميادين» من عناصر استخدمتهم الولايات المتحدة لافتعال ثورة كوبية بهدف إسقاط ثورة كاسترو المناهضة للإمبريالية؟ كل هذه الأسئلة باتت تغذّي الريبة من الربيع العربي الذي تنتمي أحداثه إلى عصور الانحطاط الفكري في مجتمعاتنا، أكثر مما تنتمي إلى تطلعات الشعوب نحو المستقبل. حتى أصبحت الثورات نفسها مجال جدل حول منابعها ومحركاتها والغاية من إشعالها، والكيمياء السحرية بينها وبين السياسات الأميركية في المنطقة.
في تونس، واجهت القوى الإسلامية التي وصلت إلى السلطة بعد خلع زين العابدين بن علي واقعاً معقداً على المستويين السياسي والاقتصادي. ففي المستوى السياسي لم تقدم القوى الإسلامية نظام حكم مستقر قادر على التأسيس لمرحلة إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس وطنية، كما لم تنتهج سياسةً خارجية مختلفة عن تلك التي تبنّاها بن علي.
كذلك أدّى غياب الاستقرار الأمني والسياسي إلى زيادة المخاوف عند السياح، وهي مخاوف يرتبط جانب منها بالنسخة التونسية من النموذج الإسلامي الذي أتى به الربيع. وفي هذا السياق، صرّح وزير التعليم العالي منصف بن سالم قبل أيام بأن «قطاع السياحة في بلاده سجل تراجعاً كبيراً... وفقد خلال العامين الماضيين 3 آلاف فرصة عمل»، علماً أن تونس تعتمد على عائدات السياحة بنسبة كبيرة جداً لسد العجز في ميزانها التجاري. وما تحوّل تونس إلى نقطة انطلاق للمقاتلين الإسلاميين نحو سوريا، إلا دليل على عمق الأزمة التي تعيشها هذه القوى في بلادها.
أما في ليبيا، فحكاية فوضى السلاح باتت مأساة حقيقية، مع تحول البلاد إلى مستودع سلاح يرفد بؤر التوتر في الشرق الأوسط وأفريقيا. وثبت واقعاً أن ضربة الناتو لم تكن إلا المنطلق لفوضى عارمة تعيشها البلاد منذ سقوط القذافي، ولتعميق الانقسامات الجهوية، بعدما حصلت الشركات الغربية على عقود النفط.
حال مصر مع الربيع لم تكن أفضل، بل إن فشل القوى الإسلامية في إدارة البلاد يبدو أكثر وضوحاً منه في أي مكان آخر. وعود الإخوان المسلمين بعدم الهيمنة على المؤسسات الدستورية ما لبثت أن تلاشت مع أول استحقاق انتخابي، عدم ترشيح إخواني للرئاسة، عدم السعي إلى الهيمنة على البرلمان، كلها وعود تضرب صدقية الإخوان كلما تذكرها المصريون.
وإذا كان السعي إلى ممارسة السلطة غاية مشروعة لدى الأحزاب السياسية، فإن الإقصاء وتعميم مبادئ الأحزاب الحاكمة على مؤسسات الدولة وعلى المجتمع أمر لطالما شكت منه القوى الثورية، واعتبرته أحد أسباب خروجها على النظام السابق.
وفي مجال الحريات، بدل النظام الجديد الناشئ عن ثورة 25 يناير اتهامات «خيانة الدولة» التي كان يطلقها نظام مبارك ضد المعارضة، باتهامات «خيانة الدين» ضد المعارضة الحالية. ممارسات مبارك نفسها تواجهها اليوم قوى المعارضة المصرية، لكن بحلة إسلامية مقدسة هذه المرة.
الخطر بات داهماً أيضاً على الحريات الشخصية التي جرى تأطيرها برؤية طرف سياسي واحد، له وحده الحق في تفسير الأحكام الإسلامية وانعكاساتها السلوكية في المجتمع. أولوية تطبيق الشريعة في بلد إسلامي بالأساس تبرر التساؤل الساخر لنشطاء المعارضة «إحنا حنأسلم من جديد؟».
الفشل في استيعاب القوى الثورية، يوازيه فشل في تغيير النهج الاقتصادي المرتبط بالمساعدات الأميركية المباشرة، وبمساعدات المؤسسات الاقتصادية الدولية التي تحتاج إلى تزكية أميركية بصورة غير مباشرة.
وأي تغيير يمكن توقعه من النظام الحالي في مصر، وكل الإصلاحات التي وعد بها الإخوان المسلمون مرتبطة بفرصة الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 4,8 مليارات دولار. بذلك يسير الإخوان على خطى النظام السابق، لكن بأداء أقل كفاءة. فنظام مبارك لم يكن يواجه صعوبات كبيرة في الحصول على قروض مقابل الخدمات التي تؤديها سياسته الخارجية لمصلحة الغرب في المنطقة، علماً أن شروط صندوق النقد تفرض على مصر إقناع الصندوق بأنها جادة في تطبيق إصلاحات تهدف إلى تعزيز النمو وتقليص عجز هائل في الميزانية. ويتضمن ذلك زيادات ضريبية وخفض دعم الوقود وسلع غذائية من بينها الخبز، وهي إجراءات تمنع بناء اقتصاد إنتاجيّ مستقل قابل للحياة بمحرك ذاتي، وتمنع قيام نظام سياسي مستقل الإرادة.
البدائل العربية لقرض صندوق النقد لم تكن أقل تهديداً للسيادة المصرية، العروض القطرية باستئجار المرافق السياحية كانت أشبه بمزحة سخيفة تطلق بوقاحة في مناسبة أليمة. عرض استثمار قناة السويس أعاد إلى الأذهان صوت جمال عبد الناصر وهو يعلن تأميم القناة وتحويل إدارتها إلى شركة مساهمة مصرية. يومها كان الثمن عدواناً ثلاثياً، بينما يشارك العرب اليوم في العدوان ومحاولة ابتزاز أم الدنيا وهي في أوج أزمتها.
زيارات الرئيس مرسي إلى ألمانيا والصين وروسيا، لم تفلح في تأمين بدائل، ذلك أن هامش الاستثمار على الخلافات بين القوى الكبرى غير كافٍ في اللحظة الحالية التي تزداد فيها حدة الاشتباك حول تشكيل النظام الدولي الجديد. هامش المناورة الضيق لدى مصر مرتبط أيضاً بطبيعة تركيبة الإخوان، وتحالفاتهم الإقليمية، والكيمياء الإيجابية مع الأميركيين وفق قانون الربيع العربي، وهذا تحديداً ما يجعل الإدارة السياسية في مصر مترددة حد الرفض في ملاقاة اليد الإيرانية الممدودة للمساعدة. الرئيس محمد مرسي يريد ما في اليد هذه، لكنه لا يستطيع السير بخيارات مناصرة القضية الفلسطينية والمقاومات العربية كما تفعل إيران. ربما تكون بعض قوى المعارضة المصرية أكثر جرأة على الخروج عن الركب الأميركي، وخاصةً أن في ذلك مطلباً شعبياً مصرياً متحفزاً لنصرة فلسطين، ومنتهى آماله إغلاق السفارة الإسرائيلية في القاهرة. سفارة «الصديق بيريز» هي تحديداً أحد أهم أسباب معاناة «الإخوان» المبكرة في حكم مصر. فهم لم يمارسوا حتى اللحظة سوى دور نظام مبارك نفسه في المصالحة الفلسطينية، مع استبدال فتح بحماس كحليف فلسطيني.
في سوريا، أكثر مشاهد الإسلام الربيعي قتامة. القوى الإسلامية السورية تتوزع على فريقين رئيسيين، الإخوان المسلمون الذين يقودون المعارضة الخارجية، ويسيطرون على «المجلس الوطني» و«الائتلاف»، والمجموعات المقاتلة على الأرض التي بايعت تنظيم القاعدة. وقد أظهر هذا النموذج إبداعاته قبل الوصول إلى السلطة.
في الشق السياسي، يشكو المعارضون اليساريون والليبراليون من هيمنة الإخوان على تشكيلات المعارضة، يشكون أيضاً من تركز المساعدات المالية الخليجية والغربية بيد هؤلاء. القرار السياسي للمعارضة تسيّره أنقرة والدوحة، معاذ الخطيب نفد صبره من تخطي «الخطوط الحمراء»، كان واضحاً أنه يعاني للحصول على دور فاعل، وتمويل كاف. الإشارات التي أطلقها لتبرير استقالته عشية انعقاد قمة الدوحة كانت واضحة الاتجاهات، ومحددة الأهداف، المطلوب دور سياسي وأموال. لم يكن الرجل مقنعاً حين تحدث عن تدخلات خارجية مرفوضة، هو الذي برر ودافع عن جبهة النصرة المتعددة الجنسيات.
فضلاً عن أن إشارات بعض أطراف المعارضة الإيجابية تجاه إسرائيل أدت إلى خسارتها ما بقي من ماء وجه، حتى أصبح توحيد خطابها أكثر صعوبة من تحقيق إنجازات ميدانية باتت تقتصر على تفجير السيارات داخل المدن.
ويزيد من حراجة موقف قوى الربيع السوري تقاتلها للسيطرة على الموارد وبيع المصانع، مدفوعةً بأطماع نتجت عن القرار الأوروبي بتخفيف حظر النفط، وشرائه من المعارضة، فضلاً عن تكشف طبيعة القوى المسيطرة في مناطق المعارضة من خلال فتاوى الذبح الطائفي والسياسي.
لقد وقع الأميركيون في مأزق صعوبة الخيارات المتاحة أمامهم للتعاطي مع الأزمة السورية، وهم حتى اللحظة يكابرون ويؤجلون الاعتراف بخسارة حرب الربيع العربي كلها، تأسيساً على خسارة حربهم على سوريا.
إن الإصرار الروسي على مرجعية اتفاق جنيف كحلّ للأزمة السورية يعني أنهم لن يقبلوا أقل من استمرار الرئيس بشار الأسد حتى الانتخابات الرئاسية العام المقبل، وترشحه فيها إلى جانب آخرين. وبناءً عليه فإن الحل في سوريا يفترض أن يجري تسطيح أعلى هرم السلطة – بالمعنى الهندسي - لتَسَع شراكة في الحكم (سياسياً لا دستورياً)، على أن تكون الوصفة السحرية لذلك: من يحاور الأسد أولاً، يشاركه في تحديد ملامح المرحلة المقبلة في سوريا.
معنى كل ذلك أن خيار المواجهة في سوريا سرّع الخطوات نحو توسيع رأس هرم النظام الدولي أيضاً، ليسع شراكة في الزعامة. وبذلك يكون الربيع العربي حرباً أميركية خاسرة كما سابقاتها.
* باحث سياسي