في لبنان شُغل الإعلام السياسي التابع لتيار المستقبل، وجماعة 14 آذار عامة، بقوة، بموضوع الاستعداد للحرب شعورياً وتعبيرياً. وفي المقابل، أخذ خطاب قوى 8 آذار الرئيسية يميل إلى الاعتدال والهدوء والاتزان والعقلانية في المحاججات، وإلى ضبط النفس العالي عاطفياً في طرق إظهار المشاعر. وهذا لا يعني وجود اتفاق كامل على صيغ الخطاب.
فمن المعروف أن لهجة رئيس تكتل التغيير والاصلاح ميشال عون تقوم على الهجوم الدفاعي المقتضب والحاسم، بينما تقوم محاججات السيد حسن نصر الله على الاقناع المسهب وشحذ التفكير، ويميل خطاب الرئيس نبيه بري إلى التسويات والترضية الأخلاقية. وهي جميعها، كما نرى، تتحرك في خط الدفاع، حتى حينما تكون أقرب إلى مواقع الحكم.
في هذا المناخ بات إحلال الهيجان العاطفي اللفظي محل التفكير المنهاجي، تقليداً ثابتاً وراسخاً في خطاب تيار المستقبل. وهو دليل على فقدان الوحدة العقلية، وتحول هذا الفقدان منهجاً خاصاً، قائماً على الفلتان العاطفي والتعبيري.
ما سبب هذه الثقة المطلقة بالنفس وباللغة؟ ما سبب عدم الخشية من إظهار الهياج التعبيري للناس، بدلاً من التحكم فيه أو مداراته؟ إن ذلك يعود إلى أن هذا الخطاب يرتكز إلى قرار حاسم، اتُّخذ وبات في حكم المسلمات، ولم يعد قراراً في طور المناقشة أو الدراسة. إن لغة تيار المستقبل التعبوية لا تشبه لغات ما قبل الحروب، من حيث البناء والإشارات، بل هي تطابق تماماً لغة مرحلة قيام الحرب فعلياً واشتعالها. في لغة تيار المستقبل تجري عملية حرق مراحل عاطفية وتعبيرية واضحة المعالم. سببها الرئيس هو أن أصحاب هذه اللغة يعيشون حقاً، من الناحية الشعورية، في مرحلة الحرب. لأنهم لا ينتظرون لحظة اتخاذ قرار الحرب. إن الثقة المبالغ فيها، وفقدان السوية المنطقية في الخطاب، وعدم التردد أو الحذر في إطلاق النفير الخطابي، بإشاراته العدائية السافرة كافة، براهين دامغة على أن صاحب هذا الخطاب تجاوز مرحلة اتخاذ القرار، وهو يعيش الآن مرحلة لاحقة، اسمها اختيار لحظة الانفجار المناسبة، المشتهاة.
لغة تيار المستقبل تلحّ على إشعار الناس بأن الحرب الأهلية اللبنانية لم تعد في عوز إلى قرار ما. ما يعوزها، لكي تتدفق إلى الطرقات، هو انفجار الصاعق فحسب. أما الصاعق نفسه، فهو متوافر بابتذال وإفراط، ولا ينتظر سوى قدحة زند في اللحظة المبتغاة، الرابحة في تقدير القوى الأجنبية، لكن، في حرب مثل هذه، لن يكون هناك رابح محلي، حتى في صفوف القتلة المنتصرين. صيغة خطاب تيار المستقبل تبدو كما لو انها كتبت بيد عضو متحمس من حزب الله - على ضوء الصورة النمطية العدائية، التي اعتاد تيار المستقبل رسمها لحزب الله - المغايرة والمناقضة تماماً للصورة التي يرسمها تيار المستقبل لنفسه.
في عدد يوم 27 نيسان تبرز صحيفة «المستقبل»، على صفحتها الأولى، العنوان التالي: «جيش السنة في مواجهة الميليشيات الإيرانية». يتحدث الموضوع عن أحداث الاعتصامات في العراق. أرفق المقال بصورة لشبان ملثمين، ذوي عضلات، يحملون أسلحة متوسطة وقاذفات، وهم يستعرضون أسلحتهم وسط جمهور من المتفرجين، المنهمكين بتصوير «جيش السنة». في الوقت نفسه، الذي تحتل فيه قوات البشمركة جنوب وغرب كركوك، ويقتل جنود عراقيون أبرياء، «عزل»، ذاهبون من وحداتهم المرابطة قرب الحدود لقضاء إجازاتهم.
الصورة والعنوان وبعض الحيثيات «الدفاع عن سنيتنا»، «محكمة على غرار محكمة الحريري» و«ميليشيات» و«جيش سني»، تدل على درجة عالية من درجات الاستهانة بالمنطق، وأعني بمنطق تيار المستقبل نفسه، الذي يصرخ يومياً بملء الفم رافضاً الطائفية، لكنه لا يتحرج عن الترويج لأسوء أشكالها وأكثرها استفزازاً وفجاجة «الدفاع عن سنيتنا» بـ«جيش سني». تيار المستقبل، الذي يدعو إلى مركزية الدولة وحصر السلاح بيد الدولة، يناشد بتكوين «جيش سني» بدلاً من «جيش عشائري» مساند للدولة العراقية، كما أقرت قبائل الأنبار. وفي الوقت نفسه، يجعل من جيش الدولة المركزية مجرد «ميليشيات»، ويكحلها بصفة «إيرانية». تيار المستقبل، الذي يصر على سلمية الحراك الاجتماعي، يدعو علناً إلى رفع السلاح بكل أنواعه بوجه الدولة، وتسييسه طائفياً، والتباهي به أمام عدسات التصوير. هذا الخطاب، يقول للبنانيين أجمع، إنه ليس خطاباً عن العراق البتة. إنه سلسلة من الأماني المضمرة، والمحوّلة، عن حرب أهلية لبنانية متخيلة، لكنها حرب ليست كغيرها من الحروب، حرب تـُعدّ مشعليها وتعبوييها، وتمرنهم يومياً على سبل خرق المنطق، وسبل قتل حسابات الضمير، وسبل تجميد العقل لصالح مشروع جرت صناعته في الخارج، وجرت الموافقة على تنفيذه داخليا، ولا يعوزه سوى لحظة التفجير المناسبة. افتتاحيات «المستقبل» هي افتتاحيات حرب أهلية قائمة بالفعل، محسومة القرار. إن هذا الخطاب يجعل لبنان مقبلاً على كارثة وجودية.
خطاب تيارالمستقبل تغلغل في صميم خطاب أكثر اللاعبين اللبنانيين حذراً، وتفنناً في لعبة الإيهام والإبهام. لذلك وجدنا وليد جنبلاط، ينزع ثوب المعارض العلماني ويلبس حلة الظواهري، ويفتي «شرعياً» بأن ذبح مؤيدي النظام السوري «حلال». مثل هذا الانفعال الخطابي تملّك النائب سامي الجميل بقوة في الآونة الأخيرة. لقد أصاب خطاب المستقبل أصحابه ومقربيه بالعدوى، وأخرجهم من حدودهم التقليدية المرسومة من قبلهم، ومن قبل الآخرين. فقد تحوّل رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع إلى منظّر صلب، لمرحلة اللا حل. أي السير الأكيد نحو الخنادق. واضطر وليد جنبلاط، الذي اعتاد التقلب، إلى استلاف مفردات دموية من قاموس طائفي آخر غير قاموسه، ومن محاربين آخرين، أباحوا «القتل الحلال».
لم يتوقف تأثير اللغة عند الجماعات اللبنانية. فقد نحتت الجامعة العربية، في طورها الجديد، مصطلحاً سياسياً فريداً، لم تعرفه القواميس السياسية من قبل، ورد على لسان وزير الخارجية المصري محمد كامل عمرو، في اجتماع تسليم مقر سوريا في الجامعة العربية إلى المعارضة: «إن الحلول الدبلوماسية تتضمن الحل العسكري». بهذا التخريج الحربي جرى ادخال الحل العسكري ضمن مصطلح الحل السياسي. وهنا «لا تعود الحرب امتداداً للسياسة بوسائل أخرى»، كما يقول الجنرال كارل فون كلاوتز، بل أضحت السياسة امتداداً للحرب بوسائل أخرى. في الجامعة العربية أصبحت النتائج تصنع الأسباب. وهذا اختلاط وشذوذ عقلي ولغوي وسياسي، يحدث تحت تأثير التحلل التام من شروط الرقابة الذاتية، بسبب وجود حصانة مطلقة، تضمن للقائل حرية ارتكاب الخطأ، من دون حساب.
وفي الأيام القليلة الماضية، شاع في الإعلام تعبير جديد مفاجئ، بني على قواعد لغوية غير سوية أيضاً، اسمه أسلحة «غير قتالية». عند قراءة ترجمته التفصيلية نجد أنها تعني تجهيزات عسكرية، لا أسلحة: خوذ، مناظير ليلية، سترات واقية... وغيرها، لكن الأمر ليس كما يوحي ظاهر التفصيلات. نحن أمام تعبير قائم على الإبهام والإيهام أيضاً. فقد ظهر هذا التعبير في حقبة التغيير الأميركي في قيادة وزارة الخارجية، المتخبطة في مشاريعها. وهو تعبير ولد في مناخ محدد: ايجاد ذرائع للتدخل العسكري في سوريا. ومن المفارقات التعبيرية، في موضوع الإبهام والإيهام، أن يتولى إعلام حزب ما، تفسير المصطلح السابق ثلاثة تفسيرات مختلفة، في يومين. ففي صحيفة «المستقبل» لعدد يوم 21 نيسان، تُرجم المصطلح إلى الأسلحة «غير القاتلة»، وفي عدد اليوم التالي إلى أسلحة «غير قتالية»، وفي البث المسائي لقناة المستقبل، في 22 نيسان، الساعة الثالثة والربع بتوقيت لندن، في فقرة «سوريا اليوم»، تـُرجم التعبير إلى «أسلحة غير فتاكة»!
ترجمة التغييرات والمواقف والإشارات الحربية الدولية المتسارعة، انعكست فوراً على المزاج السياسي والتعبيري اللبناني. لذلك أضحى قسم كبير من الإعلام اللبناني، مثل مخيلة صدام، مرآة مليئة بالكسور، تقوم بترجمة الصور القادمة من الخارج، وتحديداً صور الإبهام والإيهام، بطرق لا تخدع بها سوى نفسها. إن أبرز المخاطر الآن، تكمن في التحول الفجائي في معادلات السلطة والمعارضة، التي قد تغدو خطوة جديدة في اتجاه إكساب خطاب الحرب الأهلية مشروعية حكومية وقانونية، بعدما كانت ضرباً من صدامات ومواجهات اجتماعية سياسية متفرقة، تترجم على شكل احتقانات مناطقية، وخطاب إعلامي تهييجي. وفي هذا المناخ يمثل تصريح الشيخ أحمد الأسير، من مسجد بلال بن رباح في عبرا، بادرة تعبيرية، لها دلالة استثنائية خطيرة. لأنها تلغي مبدأ الإبهام والإيهام اللغوي تماماً، تنزع قناعه، وتبطل ورطة اللعب به. إن اللغة تصل حدها الانفجاري، حينما تكون قادرة على نزع أقنعتها والإعلان جهاراً عن محتواها، وحينما تقوم بإخراج الدعوة إلى الحرب من طور السرية إلى العلن، ومن طور الاحتقان الموضعي إلى طور التخطيط المنهجي. يقول الأسير: «لا أخفيكم سراً وليعلم الجميع - الجميع يعلمون - أنا أخطب بكم الآن وإخوان لكم من هذا المسجد يقاتلون في سوريا».
لقد ترجم سامي الجميل نداء الأسير فوراً، بطريقته الخاصة، حينما راح ينصح رئيس الجمهورية بالقول: «من واجبك أخذ المبادرة والطلب من القوى المسلحة الرد على مصادر النيران من أي جهة أتت، وهذا ليس توريطاً للبنان، بل دفاعاً عن الحدود» (النهار 27 نيسان). إن خروج الأفكار من الدماغ إلى حقل اللغة، يشير إلى افتراقها النسبي عن الإضمار، واقترابها النسبي من حافة الممارسة والفعل.
إن تصاعد حركة العنف، تجعل المراقب لا يشك كثيراً في احتمالات التحريض على توجيه الجيش ضد فريق لبناني معين، في لحظة خلل قاتلة. ولا تستبعد ظهور الدعوة إلى شطر الجيش الوطني إلى شطر «سنيّ» و«جيش سني» بملحقاته، إذا لزم الأمر، وهذا هدف تكرر البوح به، لكن، هل حقا يجرؤ الجميل أو سليمان، ولو لفظياً، بالكلام فحسب، على توجيه رسائلهما العقابية من دون إيهام وإبهام الى خطيب مسجد بلال؟ هل يستطيعان أن ينزعا قناع اللغة الإيهامية عن تعبير « من أي جهة أتت»، وأن يحددا الجهات بأسمائها؟ هل يستطيع هذا الخطاب أن يزيل ورقة الإبهام عن «مصادر النيران» الداخلية كلها، ويسميها، بالوضوح نفسه الذي سمى به حزب الله والنظام السوري؟ إن هذا الضرب من العجز نفاق وخوف مزدوج، نفسي وسياسي، شخصي وحزبي. لأنه يتضمن اعترافاً داخلياً، تاماً ومطلقاً، بعنصر الحصافة والأمان والثقة بحسن نصر الله وحزب الله، الذي يُواجه من دون خوف، وينقد بالاسم الثلاثي، عند كل شاردة وواردة.
حينما لا يجرؤ خطاب السياسي أو الحاكم على توجيه رسائله اللغوية إلى من يهمه الأمر، وحينما لا يجرؤ على استخدام «مفردات» تطبق مبادئ «الدفاع الوطني» على من يقول «أنا فعلت هذا»، «أنا أرسل المقاتلين» و«ليعلم الجميع»، يكون هذا السياسي والحاكم قد اختار لغة المضمرات القاتلة، ويكون قد حفر، بوعي تام، ودقة بالغة، موقعه المحدد في خنادق حرب أهلية مفترضة. إن اللغة واش عظيم المكر والدهاء.
* ناقد وروائي عراقي