أصبح قرض صندوق النقد الدولي لمصر قضية مزمنة. فعلى مدار عامين كانت القضية الرئيسية في الاقتصاد المصري هي الحصول على قرض الصندوق لإنقاذ الاقتصاد. وأصبحت كفاءة النظام الاقتصادية تقاس بمدى التقدم في المفاوضات مع الصندوق للحصول على القرض وليس بإنجاز تقدم في حل الأزمة الاقتصادية الدائمة التي تعيشها مصر ويشعر بها المواطنون يومياً. لقد تناوب على مفاوضات قرض الصندوق على مدار العامين السابقين خمسة وزراء مالية، وأربع حكومات، ووضعت ثلاث موازنات عامة للدولة، كل ذلك في ظل حكم المجلس العسكري ومحمد مرسي. فلماذا تحتل مسألة قرض الصندوق تلك الأهمية، وتبدو على هذه الدرجة من الصعوبة التي تقترب أحيانا من الاستحالة؟هذه الأهمية التي يحظى بها قرض صندوق النقد الدولي لا تظهر بالحسابات الاقتصادية المباشرة. فالقرض الذي كان مقرراً بقيمة 3.2 مليارات دولار في بداية المفاوضات ارتفعت لاحقاً إلى 4.8 مليارات، وهناك أنباء لم تتأكد بعد عن رفعه لأكثر من خمسة مليارات دولار. المفترض أن يستخدم هذا القرض في سدّ عجز الموازنة العامة للدولة، والذي يقدر أن يرتفع ليصل إلى 300 مليار جنيه وبالسعر المتوسط للدولار أمام الجنيه والذي يدور حول سبعة جنيهات للدولار يمكن للقرض أن يسد أكثر قليلا من 10% من عجز الموازنة. لكن الأمر يتغيّر عند مراجعة شروط صندوق النقد الدولي المرتبطة بالقرض والتي تتضمن زيادات في الموارد عبر إصلاحات ضريبية تضخ 15 مليار جنيه في الموازنة عبر رفع ضريبة المبيعات وتطبيق ضريبة القيمة المضافة، وهو ما سيلقي بالطبع بأعباء جديدة على الطبقات الفقيرة، وكذلك توفير في المدفوعات عن طريق خفض الدعم خاصة على الطاقة وهو ما يعني أعباء أخرى على الفقراء. وبهذه التكلفة الاجتماعية الباهظة يمكن بحسب التقديرات الرسمية خفض عجز الموازنة إلى حوالي 197 مليار جنيه، وبذلك يمكن للقرض أن يسد ربع العجز تقريباً. حتى بتلك الحسابات وبضغط شديد على الفقراء ينذر بانفجار اجتماعي لا يمثل القرض الموعود إنقاذاً حقيقياً للاقتصاد المصري، والأهم من ذلك أن ما يفوق قيمة القرض بكثير قد تم ضخه في الاقتصاد المصري بالفعل ودون مماطلة الصندوق وشروطه ولم يحرز تأثيراً حقيقياً في أوضاع الأزمة، على سبيل المثال الوديعة القطرية بقيمة خمسة مليارات دولار والوديعة الليبية بقيمة ملياري دولار.
بتلك الحسابات الأولية لا يساوي قرض صندوق النقد الدولي كل هذا العناء ولا كل الأزمات التي ستنتجها شروطه على الصعيد الاجتماعي. ولكن القيمة الاقتصادية للقرض تتجاوز تلك الحسابات السطحية. فقبول الصندوق بإقراض مصر يعني منح الاقتصاد المصري ما يسمى في الأوساط المانحة «شهادة الثقة» وهي تساوي تدفقات أخرى، ومثلاً ترهن جهات مثل بنكي الائتمان الإسلامي والإفريقي وشراكة دوفيل التابعة للاتحاد الأوروبي قروضاً ومنحاً لمصر بنتائج المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وحصول مصر على شهادة الثقة. هنا تكمن الأهمية الاقتصادية لقرض صندوق النقد الدولي والذي لا يعني في حد ذاته إنقاذاً حقيقياً للاقتصاد المصري بقدر ما يعني توريطه في أزمة اجتماعية طاحنة، ولكن من جانب آخر يؤهل مصر للمزيد من القروض والمنح.
ولكن حتى مع وضع كل ذلك في الاعتبار، تبقى تجارب صندوق النقد الدولي غير منقذة بالمرة، فتجارب مثل إندونسيا والمكسيك والأرجنتين في علاقتها بتطبيق «روشيتة» صندوق النقد الدولي كانت عواقبها وخيمة. أما التجربة المصرية نفسها فكانت معبّرة أكثر. فقد أثبتت بالسلب والإيجاب عواقب الاعتماد على الإقراض المشروط. ففي منتصف القرن العشرين عندما فشلت مفاوضات عبد الناصر مع البنك الدولي لتمويل بناء السد العالي نتيجة رفض شروط البنك، اتجه عبد الناصر لتأميم قناة السويس وتطبيق سياسة التنمية المستقلة والتي حققت نجاحاً ملحوظاً على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. أما التجربة العكسية التي أجراها مبارك بالاتفاق مع صندوق النقد عام 1991 فكانت تعني أولاً على المستوى السياسي الاندماج في المشروع الأميركي في المنطقة، فقد كان الاتفاق في حد ذاته مكافأة لنظام مبارك على المشاركة في حرب عاصفة الصحراء ودعم مسار التسوية الفلسطيني الإسرائيلي في طبعته الأميركية. ومن الناحية الاقتصادية كان يعني اعتماد حزمة الليبرالية الجديدة كاملة وبدء سياسة الخصخصة ودعم رجال الأعمال وإعادة صياغة التشريعات الاقتصادية في هذا الاتجاه. على الصعيد الاجتماعي كان يجري تدهور منظم لأوضاع القطاعات الفقيرة لصالح شرائح رجال الأعمال المرتبطين بالسلطة.
لا تبدو التجربة المصرية مع صندوق النقد الدولي حافزاً لإعادتها. ومع ذلك يتجه النظام نحوها بإصرار وحتى قوى كثيرة من صفوف المعارضة لا ترفضها. ففيما عدا التيار الشعبي وفصائل اليسار الراديكالي لا تعلو أصوات رافضة للقرض من حيث المبدأ، اللهم إلا بعض الأصوات التي ترفض الشروط المصاحبة للقرض وتطالب بالشفافية في المفاوضات والتوافق مجتمعي حوله. موقف جماعة الإخوان المسلمين هو الأكثر غرابة، فالجماعة عارضت الاقتراض من صندوق النقد الدولي دائماً حتى بعد الثورة وفي ظل المجلس العسكري، وطالما أشهرت الجماعة أسلحتها الفقهية ضد القرض معتبرة أن الفوائد على القرض ربا محرم شرعاً. ولكن عندما أصبحت في السلطة تلاشت الحجج الفقهية المحرمة وظهرت حجج أخرى تعتبر الفوائد مصروفات إدارية ليست محرمة. والواقع أن قرض الصندوق بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين الحاكمة يحمل معنى سياسياً أكثر من معناه الاقتصادي. فحصول مصر على قرض كبير من صندوق النقد الدولي، الذي تحمّل الولايات المتحدة نحو 17% من جملة الأصوات في مجلسه التنفيذي بالإضافة للأصوات المتحالفة معها، والتي تضمن بها عدم مرور أي قرار دون موافقة أميركية يعني قبول أميركا والمجتمع الدولي بحكم الإخوان المسلمين في مصر. قرض الصندوق إذا كان يعني شهادة اعتماد للاقتصاد المصري فهو يحمل شهادة اعتماد سياسي لجماعة الإخوان الحاكمة في مصر مفادها قبول المجتمع الدولي بها وقبوله للتعاون معها. شهادة كهذه تستحق بالتأكيد تضحيات معتبرة من الجماعة العقائدية التي تثبت في الحكم أنها ليست عقائدية تماما. المعارضة المصرية المدنية والتي يغلب عليها الطابع الليبرالي لا تحمل مواقفها رفضاً جذرياً لقرض صندوق النقد وما يصاحبه من حزمة سياسات الليبرالية الجديدة، ولكن لا مانع من الحصول على مكاسب سياسية من القرض. ففي الوقت الذي يعتبر صندوق النقد والمجتمع الدولي ككلّ مصر دولة غير مستقرة سياسياً واحتمال انتقال السلطة من فصيل لآخر وارداً، يبدو منطقياً أن يتأكد الصندوق أن القرض الذي سيمنح لمصر محل اتفاق مختلف الفصائل التي قد يتسلّم أحدها السلطة في المستقبل وبالتالي يلتزم بسداد القرض. هنا يبدو موقف المعارضة مفهوماً، فالمعارضة الليبرالية لا تختلف مع سياسات صندوق النقد من حيث المبدأ، ولكنها لا ترغب في أن يحصل «الإخوان» على شهادة اعتمادهم السياسية على المستوى الدولي، لذا تظهر المواقف الناقدة وليست الرافضة. وتظهر، أيضاً، دعاوى التوافق الاجتماعي حول القرض حتى يكون إنجازاً جماعياً للنظام والمعارضة على السواء.
في خضم تلك الناقضات والتوافقات في الاقتصاد والسياسة، وفي ظل سيطرة النفعية والانتهازية على العديد من المواقف. لا تظهر في الصورة الطبقات التي ستتحمل عواقب هذا القرض عندما يتراجع دعم الفقراء وتزداد عليهم أعباء الضرائب. الأمر الغريب أنها الطبقات نفسها التي أعطت بثورتها الفرصة للنظام والمعارضة على السواء أن يكون لهما رأي نافذ في ما يتعلق بقرض الصندوق.
* صحافي مصري