في آذار (مارس) من عام 2002، عُقدت القمة العربية في العاصمة اللبنانية بيروت. على جدول الأعمال طُرحت مبادرة السلام العربية، وهي بالأصل مبادرة سعودية أطلقها، أطلقها ولم يؤلفها بل صاغها فريدمان، أيْ هي صهيونيّة أساساً ولي العهد آنذاك والملك اليوم، الذي يُسّمونه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، ولقب خادم الحرمين هو اللقب الذي اختاره الأميركيون بعناية فائقة، لإرضاء الأسرة الحاكمة في السعودية.
المبادرة أخرجها إلى حيّز النشر في لقاء جمعه مع الصحافيّ الأميركيّ ــ اليهوديّ، توماس فريدمان، المعروف بمواقفه المؤيدّة جداً لسياسات الدولة العبريّة، وجاءت القمة في بلاد الأرز لتُضفي على المبادرة السعوديّة أصلاً الإجماع العربيّ: انسحاب إسرائيل، المارقة والمعربدة، من الأراضي التي احتلتها في عدوان حزيران (يونيو) من عام 1967، مقابل السلام الشامل والتطبيع الكامل مع جميع الدول العربيّة، بدون استثناء. لعّل أهم ما في موضوع هذه المبادرة أنّها بدأت من السعودية، وهذا يكشف خطورة هذه الدولة.

***


في تلك الفترة كان مجرم الحرب، أرييل شارون، يتبوأ منصب رئيس الوزراء في دولة الاحتلال، وكان قد اتخذّ القرار بتصفية ياسر عرفات سياسياً وجسدياً. شارون منع عرفات من السفر إلى بيروت للمشاركة في القمّة، الأمر الذي اضطره إلى إلقاء خطابه عبر (الفيديو كونفيرانس)، لأنّ النظام العربي الرسمي، لم يفعل شيئاً من أجل الضغط على حكومة الاحتلال، والسؤال: لماذا وافق عليها عرفات حينما رأى كل هذه الدول عاجزة عن تمكينه من السفر، فكيف تعيد إليه شبراً واحداً؟ بكلمات أخرى، هذا النظام الرسميّ لم يحترم نفسه، وبالتالي نسأل وبأعلى الصوت: بأيّ حق نُطالب الآخرين باحترامنا، في الوقت الذي لا نحترم فيه نحن، أمّة الناطقين بالضاد، أنفسنا. ولم يكتف رئيس الوزراء الإسرائيلي بهذا الرد على العرب، بل أمعن في إذلالهم وهم مجتمعون في بيروت، واستغّل عملية انتحارية نفذّتها المقاومة الفلسطينيّة في أحد الفنادق بمدينة نتانيا، شمال تل أبيب، ليُطلق العنان للجيش «الذي لا يُقهر» وللجيش «الأكثر أخلاقيّة في العالم» لإعادة احتلال الضفة الغربيّة وفرض الحصار على رئيس السلطة، ذلك أنّ شارون، كان يعمل وفق المنطق الذي يؤمن به والقائل إنّ العرب لا يفهمون سوى لغة القوة، وما لا يُمكن تحقيقه بالقوة، يُمكن إخراجه إلى حيّز التنفيذ باستعمال القوّة مع ضريبة القيمة المُضافة، بكلمات أخرى: العرب طرحوا السلام، فردّت تل أبيب عليهم بعملية (السور الواقي)، وهو الاسم الإسرائيليّ للعملية الإجرامية والوحشية التي نفذها الجيش في الضفة الغربيّة. وكعادتهم، حافظ الزعماء العرب من ألفهم إلى يائهم على الصمت، وتركوا فلسطين، قضية العرب المركزيّة، تنزف دماً ودموعاً، تُواجه وحدها أعتى جيش في العالم. لكن ما معنى هذا؟ معناه أنّ العبيد قدّموا إلى السيد وجبة لم تعجبه، فرماها في وجوههم، هذا جوهر الموقف بلا «رتوش».

***


وزير الحرب في تلك الأيام، كان الجنرال في الاحتياط، بنيامين بن إليعازر، الصديق الشخصيّ للرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، والمسؤول الأوّل والمباشر عن اغتيال الأمين العام السابق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الشهيد أبو علي مصطفى، في مكتبه بمدينة رام الله المحتلّة، بثلاث صواريخ متطورّة حوّلت جسد هذا المناضل العنيد إلى أشلاء. بن إليعازر، أدلى بحديث صحافيّ لجريدة «معاريف» الإسرائيليّة، تباهى من خلاله باغتيال الشهيد أبو علي، وتفاخر بإنجازات جيش الاحتلال في قمع ما سماه الإرهاب الفلسطينيّ في الضفة الغربية، وفي معرض ردّه على سؤال الجريدة عن المبادرة العربيّة، التي أقّرها مؤتمر القمّة في بيروت قال بالحرف الواحد: إنّ المبادرة العربيّة هي أكبر إنجاز حققته الحركة الصهيونيّة منذ تأسيسها. وهذا التصريح، برأينا المتواضع هو ضربة من العيار الثقيل للحكّام العرب، الذين التزموا صمت أهل الكهف، وكما كان متوقعاً، فقد رفضت إسرائيل المبادرة العربيّة جملة وتفصيلاً بادعاءات واهية للتملص من استحقاق السلام، لكنّ الرفض الإسرائيليّ، والرد الأميركي البارد جداً على المبادرة، لم يُثنيا العرب عن مواصلة مساعيهم من أجل عدم وضع المبادرة على الرف لجمع الغبار ومن ثمّ وضعها في غرفة الإنعاش المكثّف، ففي القمّة العربيّة التي عُقدت في الرياض عام 2007، قام الزعماء بكرمهم الحاتميّ بإعادة إقرار المبادرة، وسمحت سلطات المملكة في خطوة غير مسبوقة للصحافيين الإسرائيليين بتغطية وقائع المؤتمر، ربّما كبادرة حسن نية، وبعد مرور عدّة أشهر على هذه الخطوة العربيّة، أوْ الاستجداء العربيّ، اختارت إسرائيل الردّ على الزعماء العرب بتدمير مفاعل دير الزور في سوريا، زاعمةً أنّه كان نووياً، وباتت المعادلة واضحة: العرب يستجدون السلام مع إسرائيل، والأخيرة تردّ عليهم بمنطق القوة والعربدة، وأميركا الإمبرياليّة تُدافع عن إسرائيل وعن حقّها في الدفاع عن نفسها، فيما تقوم دول النفاق الأوروبي بالمراوغة من أجل المحافظة على مصالحها في منطقة الشرق الأوسط.

***


واليوم بعد مرور 11 عاماً على طرح المبادرة السعودية - العربية، وبعدما قسّموا العرب المقسّم وجزأوا المجزأ، عادت إلى الأضواء وبقوة مبادرة السلام العربيّة، التي ما زالت في غرفة الإنعاش المركّز، تعتاش على الأجهزة الاصطناعيّة لإبقائها تتنفس، وقبل الولوج في سبر غور هذه الخطوة، لا بدّ من التذكير بأنّ المناخ السياسي في الوطن العربي بات مأزوماً، إنْ لم يكُن مهزوماً، فإضافة إلى تخاذل وتواطؤ الزعماء العرب، هناك حالة غريبة عجيبة يُمكن تسميتها الموت السريريّ للشارع العربي، سوريا، التي كانت بشكل أوْ بآخر، السد المنيع أمام تنازلات العرب المجانيّة طُردت من الجامعة العربية ومن منظمة المؤتمر الإسلاميّ، وكما يقول المثل العاميّ، لكن الفصيح: غاب القط، العب يا فأر، إذ إنّ دويلة قطر باتت الآمر الناهي وسيطرت على الجامعة العربيّة، التي لا تُسمن ولا تُغني عن جوع، وفي قمّة الدوحة الأخيرة قرر المجتمعون إرسال وفد إلى واشنطن للتداول مع وزير الخارجيّة الأميركي، جون كيري، في المبادرة العربيّة، وأعلن قبول مبدأ تبادل الأراضي بين الإسرائيليين والفلسطينيين في حال التوصل إلى أيّ تسوية من خلال المفاوضات التي يُمكن أن تستأنف قريباً برعاية أميركيّة. ومن الأهمية بمكان التذكير بأنّ التنازل العربيّ جاء متزامناً مع جهود كيري لوضع خطة للسلام للصراع العربيّ ـ الإسرائيليّ تتطابق في نسختها الأوليّة، مع المطالب والتصورات الإسرائيليّة. الوزير كيري بات يتبنّى السلام الاقتصادي الذي طرحه، ويستمر في طرحه، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وتتلخّص ملامحه في ضخ مليارات من الاستثمارات في الاقتصاد الفلسطيني لإنعاشه، وخلق فرص للعاطلين من العمل، وحث الشركات الأميركيّة الكبرى، مثل «كوكا كولا» على أداء دور كبير في هذا الصدد، لكن، لماذا كان سهلاً حصول هذا التجديد في المبادرة وتضمينها ما هو أخطر؟ لعل السبب الأساس وراء هذا هو أنّ الحواضر العربيّة الثلاث التي بوسعها التأثير في الصراع العربي الصهيونيّ غائبة: سوريا تُواجه حرباً دوليّة، والعراق تُواجه فوضى التقسيم، ومصر راكعة من الجوع تلعق قطر كي تقتات.

***


لكنّ الأمر الأكثر خطورة برأينا المتواضع، في هذا التنازل يكمن في أنّ السلطة الفلسطينيّة وخلال مفاوضاتها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إيهود أولمرت، وافقت على نفس المبدأ، أيْ تبادل الأراضي، الأمر الذي نال إعجاب أوروبا وأميركا على حد سواء، إذن، فإنّه من أجل السلام، العرب يُوافقون على قضم المزيد من الأراضي الفلسطينيّة لصالح الاحتلال، وهذا هو المكان للتذكير بأنّ شارون حصل في نيسان (أبريل) من عام 2004 على رسالة الضمانات من الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، التي أكّدت حق إسرائيل في المحافظة على الكتل الاستيطانيّة الكبيرة في أي حل سياسي قد يجري التوصل إليه. والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان في هذه العجالة: إذا جرت الموافقة المبدئيّة على تبادل الأراضي، فَمَنْ يضمن لنا أنْ لا تجرؤ إسرائيل على المطالبة أيضًا بتطبيق مبدأ التبادل على السكّان أيضًا، ذلك أنّ الحركة الصهيونيّة الاستعماريّة ما زالت تسعى إلى دولة يهوديّة خالية من العرب، وبالتالي، نُورد سيناريو قد يبدو خياليًا، لكنّه قابل للتحوّل إلى حقيقيّ: في حال موافقة إسرائيل على التنازل العربيّ الجديد، الذي وصفته الوزيرة الإسرائيليّة، تسيبي ليفني، قائلةً إنّ الدول العربية أدركت أنّ الحدود يجب أن تتغير (موقع يديعوت أحرونوت 30.04.13)، فما الذي يمنع أقطاب دولة الاحتلال من المطالبة بأنْ يُطبّق هذا المبدأ على السكّان أيضًا، بكلمات أخرى: ما الذي يمنع إسرائيل، بعدما حوّل العرب قضية فلسطين إلى مزاد علنيّ، من أنّ تُطالب بترحيل العرب الفلسطينيين، الذين يعيشون داخل ما يُسّمى الخط الأخضر إلى الضفة الغربيّة المحتلّة، مقابل إعادة لصوص الأرض والعرض، المستوطنين، إلى داخل الدولة اليهوديّة النقيّة من العرب. بناءً على ما تقدّم، لا نستبعد البتّة أنْ يتحوّل عرب الـ48 إلى سلعة تُعرض على طاولة المفاوضات، وخصوصاً أنّ العرب، وفي مقدّمتهم سلطة رام الله، حوّلوا فلسطينيي الداخل إلى أيتام على موائد اللئام. ونعتقد أنّ الأنظمة العربيّة وسلطة أوسلو-ستان، لا تُعير ترحيل فلسطينيي 1948 أيّ اهتمام، لأنّ أنظمة لا تصون الوطن لا تحترم المواطن، بل لا تعتبره مواطناً.

***


من نافلة القول أنّ الساكت عن الحق شيطان أخرس، وبالتالي نطرح السؤال الأخير في هذا السياق: ما موقف سلطة أوسلو-ستان من الخطة الجديدة؟ من الأهمية بمكان التشديد على أنّ السلطة موافقة على هذا. فرياض المالكي، المُلقّب بوزير الخارجيّة، كان هناك وصافح كيري مبتسماً، أمّا حكومة غزة، فهي سوف تزعم الرفض، لكن دولارات قطر في فمها، كما علينا الإشارة إلى أنّ السلطة الفلسطينيّة تلتزم الصمت، وهو صمت الموافق على مثل هذه المشاريع والتحركات التي قد تكون مقدّمة لمشروع خبيث ومُبيّت يقضي بتحويل القضية الفلسطينيّة إلى قضية اقتصاد ووظائف وطرق، وليست قضية شعب مضطهد يريد استعادة أرضه وإقامة دولته المستقلة على كل أراضيه المحتلّة، فضلاً عنّ الشعب الفلسطينيّ هو الشعب الوحيد في العالم، الذي لا يملك وطنًا، لكنّه أقام وطنين، واحداً في غزة والثاني في الضفة، كذلك، نحن الشعب الوحيد على الكرة الأرضيّة الذي لا يملك دولة لكنّه ألّف حكومتين، حكومة فتح وحكومة حماس.
* كاتب من فلسطينيي 48